في اليوم الثالث صادف أبا عبدالرزاق في السوق وقال له:

- الليلة عندي ضيف أجنبي وأريدك تتعشى معنا في البيت.

رد زيد:

- إن شاء الله.

صلى العشاء في الغرفة وبدل ملابسه بعد غسلها وكيها لدى المغسلة القريبة من الفندق، وصل البيت وطرق الباب وفتح أبو عبدالرزاق مطلقًا عبارات الترحيب، دخل المجلس فوجد رجلًا خواجة، نهض الرجل وسلم وقال بلغة عربية مع شيء من الترخيم:

- مرحبًا، وليم.

- أهلًا وسهلًا.

السيد وليم أربعيني، من التابعية الإنجليزية، متوسط الطول، نحيف الجسم، خفيف شعر الوجه، وشعر راسه أشقر ومسحوب إلى أحد الجنبين، مع بداية صلع عند تاج الرأس، تخرج من عينيه نظرات بريئة وخبيرة، يبرق منها ذكاء وفطنة، بارد الطبع ومتحفز دائمًا، يصيد اللحظات ويتقن تصويرها مثل جامع الفراشات، يتكلم ببطء ويحسب حساب كل تفصيل، لديه قدرة على أرشفة الذاكرة واستعادتها بشكل مذهل. لم تكن مقابلة شخص أجنبي بأمر مستغرب على زيد، فقد سبق أن قابل الكثيرين منهم أثناء عمله بالشركة، ولديه قدرة على نطق وفهم بعض الكلمات والجمل بالإنجليزية نتيجة اختلاطه ببعض العاملين غير العرب.

قال أبو عبدالرزاق:

- السيد وليم رحالة بريطاني حسب ما يقول، وعنده رغبة للتعرف على ديار نجد، فقلت طالما أنك موجود يتعرف عليك وإن كان لديه أي أسئلة ربما تقدر تساعده بقدر علمك.

ارتاب زيد بعض الشيء وقال:

- علمي محدود بالقرية التي جئتُ منها، ونجد كبيرة والناس منتشرة بين بدو وحضر في القرى والرياض التي أصبحت مدينة بعد ما حكم الملك سعود.

التقط وليم الحديث وقال:

- بعد ما وصلت للكويت أرسلت رسالة لأحد مستشاري الملك سعود من خلال البعثة البريطانية بالكويت، وطلبت منه أذنًا بزيارة الرياض، ومتوقع أن تصلني الموافقة عن طريق البرقية قريبًا.

كان تكتيك ماهر من وليم الذي قرأ عن بلاد العرب وشخصية العربي وأبناء الصحاري، وارتيابهم، وحذرهم من الغرباء خصوصًا فيما يخص أوطانهم، حتى تزول تلك الخشية ويتحولوا إلى أصدقاء أوفياء معهم، تابع:

- قرأت بعض الكتب عن ديار نجد والجزيرة العربية وصحاريها، ورغبت في معرفة المزيد، سوى في مقابلة الأشخاص وزيارة الأماكن.

تحركت لدى زيد فضول المعرفة والتي نشأت منذ كان يتعلم القراء والكتابة على يد جده لأمه الشيخ عبدالرحمن، سأل:

- ممكن تقول لنا شيئًا مما قرأت عن نجد والجزيرة؟

ابتسم وليم لنجاح طريقته في إدارة الحديث، قال:

- كتب أحد الرحالة عن نجد فقال إنها: "سلاسل الجبال، الخلو من الشجيرات والأشجار، تشمخ بقممها التي لفحتها الشمس نحو سماء شديدة الزرقة، مع ذلك ففي أحضانها الوعرة تقع وديان مخضوضرة وخصيبة مغمورة، حيث الصحراء والحديقة تتصارعان من أجل السيطرة".

ثم أكمل بعد أن لاحظ تركيز زيد والتماع عينيه وتحرك حاجيه إلى الأعلى:

- "يدين عرقهم بدمه وحياته الاجتماعية إلى الحواجز الطبيعية التي خلقت حوله مناعة ضد التلوث الغريب، لم يتمتع بها أي عرق أخر. ويدين إلى الشروط المتفردة والبسيطة التي صاغ بها تصورًا قويًا لله بما يكفي لإقناع أعداد كبيرة وأجنبية من الجنس البشري للإيمان به".

قال زيد بعد برهة من الصمت:

- ولماذا تريد يا سيد وليم الذهاب إلى نجد.

- لقد زرت الكثير من المناطق العربية في الشام وشمال أفريقيا على مدى السنوات الماضية عدة مرات، وأينما ذهبت يؤكد رجال القبائل أنهم يتحدرون من قبائل الجزيرة العربية، ويقولون باعتزاز إن عاداتهم وتقاليدهم أتت من الجزيرة العربية، وأنها منبع العرق العربي ومصدر الدين المحمدي.

ثم أكمل مستفهمًا:

- ما رأيك بهذا الكلام وهل وافق الحقيقة؟

مسح زيد على وجهه ومسد على لحيته بأطراف أصابعه، في محاولة استجماع بعض الكلمات والجمل التي تناسب مثل هذا المستوى من المناقشة، أطرق نظره إلى الأرض، ثم أغمض عينيه لبرهة، وسحب نفسًا عميقًا وزفره، كمن يعتصر ألمًا وقال:

- لقد أتيت من قرية نجدية محاصرة بأسوار الموت: الجوع، والمرض، والعزلة، والجهل، والجفاف. الفقر مستفحل في كل منحى من مناحي قريتي، نتعلم منذ الولادة التدبير والاقتصاد في كل شيء، كل ما يكلف مالًا حتى لو كان قليلًا فهو غالٍ، لا شيء رخيص غير آلام الناس.

انبهر السيد وليم من هذا الوصف واستأذن أن يدوّنه في دفتر كان يضعه بجانبه، ثم قال من باب التخفيف عن زيد بسبب ما قاله عن الفقر:

- يقولون في الأمثال إن الفقر يصنع الرجال، أليس كذلك؟

- ويصنع اللصوص كذلك، كما يصنع الحب الشعراء، لكننا قومٌ أجلاد على الفقر حياء من الله، وشرف النفس وأنفتها تحدونا الى التعفف والتسامي، ومَن طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها، فالعفاف زينة الفقر، كمثل الشكر زينة الغني، ويقول شاعرنا :

فلي من قديم العمر نفس عزيزة أعضّ على عصيانها بالنواجذ

هذه هي المرة الثانية التي أغترب فيها إلى الكويت وأترك أهلي، في الغُربة الأولى كان هدفي أن أسد ديوني التي تراكمت نتيجة متطلبات حياتنا بعد وفاة والدي، مع مسؤوليتي عن والدتي وأختي وأخي الصغير، كان عمري ثمانية عشر عامًا، واشتغلت عاملًا ومقاول بناء لمدة سنتين، عدت بعدها وسددت الدين وجمعت أسرتي في مزرعة وبيت مستقل، وظننت أن الفقر قد غادر مزرعتنا، وبعد سنوات محدودة، عاد إليَّ بصورة سيل عرم أغرق المزرعة والبئر والبيت حتى تضعضعت أساساته الضعيفة التي شُيد عليها من الطين والحصى، فتداعى وانهار فأصبحت كالصريم، نجونا منه بأرواحنا، فنقلت أسرتي إلى الرياض وعدت مرة اخرى إلى الكويت، ورزقت بابن في الغربة، لم أره حتى الأن، وقضيت ثلاث سنوات لم أتوقف خلالها يومًا عن العمل أجمع الربية على الربية، حتى أملك سلاحًا أقتل فيه فقرنا وعوزنا إلى الأبد.

توقف الحوار بعدما تأثر المضيف والخواجة وليم بحديث زيد، ولكنه خلق علاقة خاصة ومزيجًا كيميائيًا نفسيًا بينهما، ودا لو يطول الليل، أو يتوفر لهما أمد من الزمان لينهل كلٌ منهما ما يروي غليله من أخبار الآخر، سرح زيد برهة وكأنما انفصل عن واقعه، سحبه الحوار إلى آفاق بعيدة، بين حبه لدياره وأهله وآلامه وحزنه بسببها وبين حديث وليم ذي المستوى الراقي بمواضيعه العميقة وفلسفته السهلة وجمله التي تروي كيف هي الحياة وكيف هي الأشياء وكيف هم الناس، لم تمكنه سنواته عمره السابقة أن يلمسها أو يكتشفها، تغير لديه شعوره بالأشياء وطيفها، لونها، حتى رائحتها مختلفة، هزة عنيفة من الداخل، زاغ بصره إلى أعماق بصيرته، وتأتي المفاجأة من أبي عبد الرزاق عندما أخبرهما أنهما يقطنان في نفس الفندق، فترافقا في طريق العودة، وهنا تقدم السيد وليم بعرضه:

- لماذا لا تبقى في الكويت حتى أحصل على الموافقة ونسافر معًا؟ الأمر لن يطول.

- حسنًا، سأمدد إقامتي لمدة ثلاثة أيام أخرى، إذا وصلتك الموافقة ترافقنا، وإلا فسأكون في حل من ذلك.

تبسم وليم وقال:

- اتفقنا.

وأشار بقبضه يده وإبهامه إلى الأعلى.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم