جالسةٌ على طرف صخرةٍ ، تنظرُ بثباتٍ ، بغيابٍ جهةَ شجرةِ التين بأغصانها الملتوية ، المتمادية ، الذاهبة حيثما شاءت في لوحة الفراغِ . فراغِ الفضاء ، فراغِ الكونِ كي ترسمَ بأوراقها الكبيرة ، كلُّ ورقةٍ كفٌ بأصابعَ سريالية تنقشُ وجه الأثير ، جبينَ السرابِ ، محيا هذا الصباحِ المنعشِ ، المنيرِ ليومٍ باهتٍ آخرَ، مُرٍ ، حزينٍ يمرُّ عليها من غير استئذانٍ ، مكتوبٌ في كفِّ القدر. واجمةٌ ، جمودٌ يلفحها من غير وهنٍ، من غير تعبٍ. التعبُ ليسَ لها، التعبُ للأخرياتِ . لها الحركة، لها العملُ، الكَدُّ،عملُ المستحيلِ في عالمٍ يلفحه الخمولٍ، لا حراك فيه ولا جديد يظهرُ ولو مخادعاً . الأيامُ تتشابه ، والفصولُ ، الكلامُ ، الأحلامُ ، وسائلُ النقلِ ، العاداتُ ، التقاليدُ ، صوتُ المؤذِّنِ ، ناقوس الكنيسةِ ، الصلواتُ ، الصومُ ، الأغاني ، المناسباتُ ، البيوتُ ، الأثوابُ، طريقةُ النومِ، الطبخُ ، الوجوهُ ، الطريقُ، الممراتُ ، فيء البيوتِ ، حرارةُ الصيف ، بردُ الشتاءِ ، المواسِمُ ، شحُّ المواسمِ ، الكلامُ ، نقلُ الكلامِ ، كلامٌ في الغيابِ ، تداخلُ الليلِ في النهارِ ، الأعراسُ ، الجنازاتُ ، سكَّةُ القطارِ ، قطار الشرقِ السريعِ .

نهضت صباحاً، استفاقت ككل صباحٍ لصلاة الفجر، تصلي على طريقتها، تصلي بلغةٍ غير لغةِ رسولِ الله، تصلي بالكردية من غير آياتٍ ، لا بلغة الأصلِ ولا بترجمةٍ لها . تتجه إلى السماء كي تُعلنَ صلاتها لرب العالمين، لخدا، ربُّ الحقِّ والعدالة ، ثمَّ تُنزِلُ كفَّيها ، تُنزلُ رأسها إلى الأرضِ خاشعةً . تبقى هكذا وقتاً من غير قياسٍ ، يطولُ أو يقصرُ بعد أن تقول ما في نفسها لربِّها . تنزلُ إلى سجادة صلاتها من غير ركوعٍ ، أو سجودٍ، فيها خشوعٌ ، دفءٌ مشوبٌ بمرارةٍ ، مرارةُ نصيبها من هذا الزمانِ الرخو، كما تقولُ. لا تصلي خمس مراتٍ في اليوم . الصلاةEعندها حاجةٌ روحية، حاجةٌ للتواصلِ مع الإله لطلب مغفرةٍ أو تلبية دعاءٍ بالخيرِ لقريبٍ محتاجٍ، بالشرِّ لمنافقٍ غدَّارٍ. عدد الصلواتِ عندها في اليومِ يتناسبُ مع ما يمرُّ بها في يومها من أحداثٍ وخواطِرَ ، تزيدُ وتنقصُ بحسبِ الحاجةِ، ولا تنعدمُ،فهيَ لا تتأخَّرُ عن صلاةِ الفجرِ.أمضت سنواتٍ المسكينةُ مع زوجها لتعلُّم العربية، لتعلُّم القرآن،لتعلمِ الصلاة ولم تفلح في التعلُّمِ ، حفظِ ولو جملةٍ واحدةٍ،ولا فهمِ كلمةٍ ونطقها نطقاً سليماً. إذاً لماذا النفاقُ؟ تقول لزوجها. زوجها ليس بأفضل منها بكثير، تعلَّمَ طريقة الصلاة في الصغر وثلاثُ آياتٍ قصار، الفاتحة وقل هو الله أحد ، وقل أعوذ بربِّ الناس من غيرِ فهمٍ ، لا يقوى على النطق السليم للكلمات . لا يساعده لسانه على لفظ الكلمات . يمضي لسانه بانسيابٍ لتكسيرِ الكلمات بلكنته الأعجمية ، بعضها تخرج عن مغزاها .

_ لما النفاقُ ، عزيزي ؟ تقولُ لزوجها ، تستطيعُ أن تنافِقَ على كلِّ الناس ، إن كانوا كفاراً أو مؤمنين ، لكنَّكَ لا تستطيعُ أن تنافِقَ مع ربِّ العالمين .

_ مجنونةٌ أنتِ ، وستبقين؟ يردُّ عليها زوجها . مجنونة أنت تستهترين بربِّ العالمين ورسوله . تستهترينَ بكتابه المقدَّس ، بكلامه، بآياته التي أنزلها على رسوله. كلُّ آيةٍ وجبريلُ ظهرَ لرسوله ليتلوها عليه . تستهترينَ بكلام الله وتقولين بأنَّك مؤمنة ، ومن أهل الجنَّة ؟ أنت جهنَّمية وذنبكِ على جنبكِ .

_ الذنبُ ليس ذنبي، أولاً، تقولُ ، ليسَ ذنبي أن اختار الربُّ عربياً كي يُنزِلَ آياته عليه ، في كل مرَّةٍ ارتجفَ لكلامٍ بلغة آبائه وأجداده ، اصطكَّت أسنانه ، غابَ عن الوعي، أصيبَ بالذكر، اجتاحه البردُ ، طلبَ تغطيته طلباً للدفء. لما لم يختر تركياً ، كردياً ، فارسياً ، ذو رجاحة عقلٍ كي يتلوها بفصاحةِ المتنوِّر ، لا الراعي الجاهلِ ؟

_ ويحكِ ، يا فاسقة ! يا كافرة ، فلتسقط عليك اللعنة، يقول لها زوجها ممسوساً، متطيِّراً، أتظنين أن لا حساب بعد الموت ! لا تحسبينَ حساباً ليومِ القيامةِ ! تكفرين جهاراً برسولِ الله ، بدينه ! لا حولَ ولا ...

- أنا لا أنافِقُ على الأقل ، أقولُ الحقَّ ، يا منافق ، تقول بحدِّيةٍ وثباتٍ، هل تعتقدُ أن الإنسان بقادرٍ على النفاق على ربِّ العالمين ؟ يا غشيم ، لما لم تسألَ ربَّك أن يعطيكَ قليلاً من العقلِ كي تفهمَ ما تُعلِّمهُ لي. ترفعُ يديها إلى السماءِ متوسِّلةً،خُدايو، خدا ييمن، قربانٌ أنا لاسمكَ ، لنورِ وجهِكَ، لسوادِ عينيكَ ، اهدي هذا المنافِقَ إلى طريقِ الصوابِ، طريق الحقِّ كي يفهمَ كلامكَ ، يحفظه ، ويعلِّمهُ لي ، أنا تُرابٌ أمام مشيئتكَ .

_ أنا،أعطاني ما يكفيني كي أقرأ كلامه،وأطيعَ رسوله، يا مسلوبة العقلِ والإيمان.أنت بحاجة لقليلٍ من العقلِ،عقل دجاجةٍ كي ترددي ورائي. لو رددتُ لدجاجتنا ذاتُ السروال فقط اليسيرَ مما رددته لك لردَّت ورائي، لوقفت خلفي واتَّجهت إلى القِبلة، ركعت وسجدت مثلي، لسبَّحت بحمده.

_ لم تبق إلا دجاجتي ذات السروال الكردي كي تصيبها بالعين. انظر يا أبله ،أليس كلُّ من عليها من خلقه ؟لما لا ترى سحرَ خلقه ، لما هي بسروالٍ كما قلتَ ؟ لما هي بسروال كما سراويلِ الكرديات ؟

_ سروال الكردية!لما لا تشبه سروال العربية؟ انظري كم أنت جاهلة، كم أنت بعيدة عن الحقِّ، من غيرِ صواب، من غير درايةٍ .

_ ببوك ، ببوك ! خدايو ، أرجو أن ترسلَ العمى للجاهل منَّا ، لمشوِّه الحقيقة بيننا . ببوك ، ببوك ! منذ متى كانت العربية بسروالٍ ؟ أعرِفُ أنَّك حمت كثيراً خلف أردافهنَّ، حول خيامهنَّ،كلَّ مرةٍ أتى فيها البدو للرعي في سهول قرانا. العلمُ عنده ربي، كم من ردفٍ لامست، ارتطمت خصيتاكَ. أين رأيت واحدةً منهنَّ بسروالٍ ، أو سمعتَ عن سراويلهنَّ ؟

خرج زوجها ممتعضاً كي يعود إلى البيت متأخراً ليلاً ككلِّ مرَّة يدير فيها مشادَّةً معها .

تصلِّي ما طابَ لها. تصلِّي مراتٍ غيرُ معدوداتٍ، من غير تحديدٍ للوقت ، لا حين يأتي وقت الصلاة ، ولا كم من الوقت تدوم. كلما انفردت بنفسها، كلما أسرها الزمان وعادت للذكرياتِ ومتطلَّباتِ الحياة اليومية، حاجات أولادها منذ أن كانوا صغاراً . كلما طرقت الحاجة ، العوز بابَ بيتها ، الفقرُ كافرٌ لا رحمةَ لديه . تصلي لقابض الأرواحِ أن يرأفَ بحالها وحال أولادها. تقيمُ الليلَ وتصوم النهار . تصومُ على مدار السنة ، ليس فقط في رمضان . تصوم رمضانَ، صومَ النصارى ، واليزيديين ، الششكا، ستة أيامٍ بعيدةٍ عن رمضان ، صوم خوجة خزر . لا ولن تطلبَ من أولادها الثلاثة أن يصوموا أو يصلوا،لا في الصغر ولا في الكبر،هي تقوم بالواجبِ عنهم، لأجلهم فقط تصلي وتصوم . تقيمُ الليلَ ، نصفه ، تزده أو تنقصه قليلا، وتَصومُ النهارَ ، ولا تؤذي جيرانها ، لا ترميهم بسوءٍ ، لا ترميهم بكلامٍ في غيابهم . تُحبُّ العشرة الحسنة ، ولا تسكتُ عن الظلم وسوء المعاملة من أين أتى . تمدُّ يدَ العون لجاراتها ، تساعدهنَّ في إحضار السليقة ، إحضار البرغلِ ، والشعيرية مئونة الشتاء ، وإحضار المربياتِ ، وعصيرُ ربِّ الطماطمِ ، وتعرفُ صناعة الدبسِ ، وعصير العنب السميك ، المجفف، المختلط بالطحين ، الباستيق المحشو بالجوز، البَنِّي . حاضرةٌ أبداً لكلِّ ولادةٍ ،هي المشرفة على سير الولادة ، هي الداية ، القابلة القانونية من غير دراسةٍ، من غير قانونٍ لكل أهل البلد من غير مقابلٍ، من غير ثمن. ترفضُ كلَّ أجرٍ لحظةَ الولادة، ولا ينسى الأهالي جلب هدايا صغيرةٍ لها ولأولادها فيما بعد، كيسُ سكرٍ أو شاي ، قطعةُ قماشٍ، قليلاً من الحلوى للأولادِ .لا ينساها أهل البلدة ولا القرى المجاورة ، لا ينساها أهل كيكان أيام المواسمِ ، يجلبون لها زكاة أموالهم إلى باب دارها ، حنطةً ، عدساً ، شعيراً ، أو أوراقاً نقدية .

إنَّها بَسِّي ، الخالة بَسِّي ، أم اليتامى ، كما يسميها الجوارُ ، أهلُ البلدة ، وحتى إمامُ الجامعِ .

تخرجُ إلى فناء دارها والناسُ نيام ، الليلُ مازالَ مُلتَحِفاً بالظلام ، كسولاً لا يريدُ للشمسِ أن تنيرَ وجه الكونِ ، ما زالَ يلفحه النعاس . منذ الأزل تخرجُ كلَّ فجرٍ لسقاية أشجارها ، نباتاتها، دجاجاتها ، عنزتها مع جَديِ السنة . فناءُ دارها بسورٍ من لبنٍ ، من غير باب ، مكان البابِ متَّجهٌ إلى الشرق ، إلى طلوع الفجرِ، إلى نجمة الصبحِ في الأفق وقت قدوم الفجر. بابُ بيتها مُتَّجهٌ إلى الشمال، إلى قلعة ماردين، إلى أضواء ماردين، قناديلها كقناديل السماء، إلى أهلها هناكَ يختبئون خلفَ الجبال . بيتها غرفتان ، وركنٌ للمئونة من طينٍ تقومُ بترميمه كل سنةٍ منذ زواجها، منذ الأزل . منذ أن أتت المدينة مع فارسها ، أب أولادها ، مُعمِّرُ بيتها،مُخَرِّبُ بيتها ، مالِكُ روحها ، سالِبُ عقلها. من غيرِ إذنٍ ، علامةٍ ، إشارةٍ رحلَ عنها . غابَ عن البسيطةِ من غير ميعادٍ ، من غير عودةٍ إلا في المنام أو الخيال . غابَ عنها ليعودَ إلى الترابِ ، منه وإليه. تركها وحيدةً لا أهلَ لها في مقتبلِ العمرِ والأولادُ صغار، لا أرضَ ، لا مهنةَ ، متى امتهنت النساء مهنةً في زمانها ؟ من غير موردٍ ، من غير حمايةٍ ، من غيرِ أمانِ ، والزمنُ غَدَّارٌ، لا يرأفُ بحالِ المساكين واليتامى وأمهاتهم . لا أبالكَ حينَ يمتلئنَ حسناً ونضارةً . تحلفُ بقبره ، بذكراه ، وستبقى وفيَّةً له إلى الأبدِ، مدى الحياة . صار لها من دونه عقدين ونيِّف ، ستعيشُ في ذكراه من غير زواجٍ ثلاثة عقودٍ أخَرْ . ستبقى أماً لليتامى مرفوعةَ الرأس ، تتحدى القدرَ وغدرِ الزمانِ . تقولُ في وحشةِ وحدتها، في خلوتها ولا تتعبُ من قولِ ، فلكي خاينة. ترعاهم وتقوم على تأمين العيشِ لهم. تربِّيهم وتحرص على دراستهم . ستبقى الخالة بَسِّي أبداً نحيلة ، هيفاء ، طويلة. أبداً مستقيمة، أبداً في ثيابِ الحداد ، أبداً يلفحها ، يكسوها السوادُ . حتى في ثيابِ السوادِ تبدو أميرةً من أميرات كيكان أو مِلاَّن أو بوطان ، لا يغيبُ الحسنُ ، نورُ الوجه الحسنِ عنها. عمَّرت لولديها غرفةً صغيرةً بالقرب من باب فناء دارها ، بالقربِ من شجرة التينِ للدراسة ، للقيامِ بأعمالهما المدرسية ، إنجاز وظائفهما، وملاقاة أصدقائهما بعيداً عنها وعن ابنتها .

علامةٌ ، إشارةٌ مرَّت عليها ، مرَّت ببالها هذا الصباح . هذا الصباحُ ملعونٌ كذاكَ الصباحِ .

رشَّت جهة دجاجاتها وإوزها ، رشَّت ، نثرت حباً من شعيرٍ وذرةٍ وكسبةٍ . وضعت لعنزتها وجديها ما يكفي من الشعيرِ والتبنِ. ملأت وعاءهما ماءً،وكبَّت في صحونٍ باليةٍ ماءً لدجاجاتها اللاتي لا تتعبُ من الركضِ في المكان، تلتقطُ كل ما تراه على الأرض، وتملأ المكان ذرقاً أخضراً وأصفراً، إوزِّها يملأن الكونَ صراخاً، وألواناً مريحة، ومشياً امتلأ غنجاً. قامت بحلب عنزتها، ستضعُ الحليبَ على النار المتَّقدة تحتَ قدر الحُمُّصِ الحبِّ ، ستضعه متى سُلِقت الحبوبُ ، لتسخينه ، تخميره ، تخثيره ، للحصولِ على قدرٍ من اللبن طعاماً لأولادها . أحياناً تبيعُ قدرَ اللبن كي تشتري حاجةً لأولادها، كي لا تهينها الحاجةُ . قدرُ الحمص المسلوقِ ستغطيه بغطاءٍ، قماشٍ كي يبقى ساخناً، ستضعه بالقرب من بابِ فناء الدارِ مع قدحٍ صغيرٍ لشرب الشاي بجانبه ، لتبيعه لأولاد الحي ، الذين سيتراكضون فرحين إلى باب دارها حين شروق الشمس ، ليملئوا جيوبهم وكفوفهم الصغيرة بحبَّات الحمص الساخنة، الشهية. قدح الحمُّصِ بفرنكٍ ،وفرنكٌ على فرنكٍ يُشَكِّلُ مورداً . بيضُ دجاجاتها يفيضُ عن حاجتها وحاجةِ أولادها ، تتركُ ما يفيضُ عن حاجتهم جانباً ، طريةً أو مسلوقةً كي لا تفسد لتبيعها للأولاد، أو لأمَّهاتهم، وتبيع بضعُ دجاجاتٍ في الشهرِ لأهل البلدة ولا تنقصُ دجاجاتها، تزدادُ ولا تنقصُ، بركةٌ لا تغيبُ عنهم،لا مرض يمرُّ بهم،لا ثعالبَ بالقربِ من البلد لافتراسها ، ولا من سارقٍ يمرُّ بدارها ، فناء دارها من غير باب ، لنهبها .

جَرَّتِ الماء من بئر الدار الذي حفره لها الرحِلُ زوجها . سقت الأشجار والنباتات وبستان الخضرة الصغير قرب البئر جهة الشمالِ . شجرتا توتٍ، بالقرب من كل نافذةٍ تجلب الظلَّ لهما وللبيت. بينهما شجيرتا وردٍ جوريٍ بأحمرٍ قانٍ على جهتي ممر الخروج من الدار تنثران عطراً وراحةً للوجود،تعطيانِ معناً للحياة. بعد ذبول الورد حين تبدأ أوراقها بالسقوط ، تجمع الوردَ ، تجفِّفه، تتركه لفصلٍ آخر لصنع مربى الورد لأولادها ، تصنعُ منه شراباً حين يروقُ لها . شجرة سروٍ على يسار البئر، ذاهبةٌ في العلو في فضاء سماء الحيِّ لتصير علامةً ، إشارةً ، دلالةً تدلُّ على بيتها، بيتُ أم اليتامى.على يمين البئر شجرةُ لوزٍ باسقةٍ تتسابقُ معها في الحسنِ لتعطي راحةً للمكان، للنفس، للنظر في سرِّ الكونِ. تغدق عليها بثمارها ، بلوزها الذي تتركه مع مئونة الشتاء ولو أنَّ اللوز، والجوز لا يخلوان من بيتها ، يأتيها بكرمٍ من غير حسابٍ من وراء سلسلةِ الجبالِ . داليةٌ تسلَّقت ظهر بيت جارتها. رفعت لها مظلَّةً ، أربعة أعمدةٍ رفعت،مرَّت أغصاناً رفيعة، يابسة عليهم على علو مترين كي تتسلَّق الداليةُ بأغصانها وعناقيدُ عنبها التي ستتدلى شهيةً ، صفراء ، ناصعة كل نهاية صيفٍ ، وبداية خريفٍ كحبات تينها الجبلي لتصنع دبساً ومربياتٍ لفصل الشتاء لأولادها وللجيران كي يحلفوا برأسها ويطلبوا الخير لها ولأولادها ، وليهرعوا لنجدتها عند الحاجةِ . تتظلَّلُ صباحاً، عصراً أيام الصيف تحت مظلَّةِ داليتها مع الجارات والأولاد وكأنَّهم في مصيفٍ، في منتزهٍ، منتجعٍ للصحةِ . بستانها الصغير بين الدالية وشجرة التوت غرباً يبقى دائم الخضرة ، زرعت فيه بصلاً ، ثوماً ، نعناعاً . أعشابٌ وأزهارٌ بريةٌ ظهرت مع الأيام برفقة نباتاتها من غير تدخُّلٍ باستثناء السقايةِ.

كلَّ صباحٍ تقوم بسقاية أشجارها ونباتاتها كفرضٍ ، كصلاةٍ موقوتةٍ ، تخرجُ من بيتها كل فجرٍ لرعاية بستانها ، جنَّةُ أولادها ، ولو أمطرت شتاءً تخرجُ في نفس الوقت لتمرِّرَ ناظرها عليه. لتستمتعَ بالنظر إلى أغصان أشجارها العارية . تمضي وقتاً في فناء دارها في تأمُّلٍ كأنَّها في صلاةٍ للطبيعة ، للأشجارِ، للمطرِ، للسماء، لتداخلِ الزمان، الفصولِ . يمرُّ ببالها ما يمرُّ ، لا أحدَ يعرف ما يمرُّ ببالها ولما هي واقفةٌ في فناء دارها وهي تُمطِرُ .

هذا الصباح كذاك الصباح مرَّ بها صوت ذاك البلبل الغريب عن البلدة، أتى من هناك ، من جبال أهلها هناك خلف الجبل . غناءه حزينٌ، هادئٌ ، جارحٌ . صوته رخيمٌ ، حادٌ في رخامته، يدخل الكائنَ ولو كان بليداً. يلعبُ بحواسهِ، يَصِلُ نخاعَ عظامه ليرتجفَ فرحاً ، حزناً دافئاً كمرور لحظةٍ دافئةٍ ، جارحةٍ ، فرحةٍ أو حزينةٍ فيما مضى من الزمان . كتذكار أيامِ الطفولة الموحشة ، الجميلة ، البعيدة . بعيدةٌ وغيرُ عائدةٍ . قريبةٌ من النفس ، من الروحِ ، يمكنُ لمسها بأناملَ تأتي من الداخلِ كي تدفعَ،تذرفَ دموعاً سخية تحسُّ وتحملُ دفأها. أشارت له بيدها. أشارت جهة الصوت، أن روحْ ، روحْ يا بلبلُ ودموعها تجري على خدَّيها . قالت له :

بلبلوه ، مالِك وير انوه

جما لسري في سبكي

تو دكي كازي

ما لكَ يا بلبلُ تشدو باكراً في غُرَّةِ هذا الفجرِ تولولُ وتنادي.

وحيدةٌ أسمعُكَ ، أبعد عني هذا الحزنَ . أبعد عني وجه الشرِّ ، يا بلبلُ ، فأنا وحق عينيك لست ناقصةً ، ما بي من همٍ يكفيني ، وشهقت بالبكاء جهاراً من غيرِ تحفُّظٍ وكأنَّ مصيبةً ألمَّت بها . ألمَّت بها أو بأهل البلد . كأنَّها تعرفُ لغةَ الطيور، كأنَّها فهمت ما قاله البلبلُ .

الخبرُ وصلَ ، المصيبةُ حصلت ، روحْ .. يا ، بلبلُ .

تمتمت على نغم غناء البلبلِ : هي ، لو ، لو ، لو .. لو . هي، لو ، لو .. لو ، لو ، لو .

لم يتأخّرِ الخبرُ عليها كثيراً،وصلها قبل الظهر ذاك الصباح. وصلها باهتاً، بارداً من غير صراخٍ، من غيرِ هتافٍ، من غير مقدِّماتٍ ، تدبيرٍ ، من دون رعايةٍ للأصول . وصلها خبرُ هلاكِ رجلها، سَيِّدُ الرجالِ، زوجها ، وحيدها، عَمَدُ بيتها ، رفيقُ دربها. وصلها خبرُ هلاكِ درويشي دير ريش ، الذي أحبَّته وهي في الخامسة عشر من عمرها. تركت أهلها، ديارها، دروب صباها، بساتين قريتها، مخابئ الطفولة، فرحة المواسم، الأعيادِ، الأعراسِ، سهرات الصيفِ فوقَ الأسطحِ وحكاياتِ الجدَّاتِ هناك وهربت معه. عبرت معه الخطَّ إلى البلدة الصغيرة، إلى تحت الخطِّ عمَّرها الفرنسيون أيام انتدابهم على سورية بالقرب من الخطِّ ، خطِّ سكَّةِ القطار، قطار الشرق السريعِ .

أحبَّت فيه جسارته، هدوءه ، جلده، صبره في الأوقات العصيبةِ، قدرته على تدبير الأمور، العثور على حلولٍ وإن استعصت الأمور لا ينثني للصعوبات ، شامخاً يمضي في درب الحياة، دربِ حبه لها . أرسل إلى أهلها خبراً مفاده، أنَّه يشتري حياتها بروحه، بكليته، بنور عينيه . يضعُ روحه على كفه رهينةً ، مهراً لسيِّدةِ بيته، نور عينيه ولا يريدُ الأذى لأحدٍ ولا المهانة . إن أصابها أحدٌ بأذى ، سيفتحُ جبهةً معهم ، سيلتجئ إلى الجبل لإدارة حربٍ مفتوحةٍ معهم. إن أردتم معاقبتي، محاسبتي، أنا حاضرٌ، جاهزٌ، رهنَ إشارتكم من غير مقاومةٍ، أفتحُ لكم صدري إن كنتم تريدون قتلي، أو مصافحتي والصفح عني ، هكذا قال لهم .

لم يكن ذو صنعةٍ تدوم دوام السنة ولم يتقاعس يوماً للبحث ، والعثور على عملٍ . عَمِلَ عاملاً موسمياً أيام مواسم الحبوب والقطن . عَمِلَ في حصاد القمحِ والشعير وقطف القطن . حين وصلت الحاصدات إلى الجزيرة، خرج كل موسمٍ مع حاصدةٍ ليعملَ طبَّاخاً أو حمَّالاً،أو سائقاً،لا يخيفه العمل ولا يُربكه ولا سرَّ لمهنةٍ تغيب عنه طويلاً حين يريدُ الإلمامَ بها. حفرَ آباراً في المدينة والقرى المجاورة بيديه، بفأسه ومعوله، فتحَ بطن الأرضِ ونقلَ ماء الشربِ إلى الأهالي. يخرجُ من البيت صباحاً، يفيق فجراً، يبقى قليلاً مع زوجه ويخرجُ . لا يعودُ إلا مساءً جالباً معه قوتَ بيته، أو مالاً لحاجات أهل بيته. لا يبقى في البيت نهاراً وإن لم يكن العمل في مناداةٍ له.لا ينتظرُ العمل كي يناديه ، يخرجُ للبحث عنه ، لملاقاته. إن لم يعثر عليه، يبقى في ديمومة البحث عنه. إن لم يلقاه ، يبتكره، ولا يصلُ الوهنُ إلى عزيمته. حين قلَّ الطلبُ على حفر الآبار، خرج إلى البَرِّية ، إلى المناطق الصخرية لجلب الحجارة للأهالي .

بعد الانفصال بسنةٍ، بعدَ أن حصلَ الطلاقُ بين البلدين الموحَّدين ، سورية ومصر، بعد الزواج الذي حدث بينهما. بعد أيام الوحدة بحلوها ومرِّها . بعد أن تبخَّرُ الحلو وبقي المُرُّ. بقيت المرارة في حلقِ الأهالي أغنياءً وفقراء رغمَ الأحلام الرغيدة في البدء ، والأهداف السياسية لدفع المخاطر الأجنبية ، أطماع المستعمرينَ عن البلد ، الأحلاف والمؤامرات في الشرق الأوسط ، وإحياء أمجاد الماضي البعيد للشرق الأوسط بقيادةٍ واحدة لسورية ومصر. بقيت مرارة المعاملة ، توزيعُ الخيرات ، نهبُ السوق ، نهبُ الخيراتِ ، التفرُّدُ بالقرار السياسي ، وشحَّ المواسمِ على مدى سنواتٍ ، لتعمَّ المجاعةُ ، ويعمَّ الخوفُ على الحاضر والغدِ .


_________________

الرواية صادرة حديثاً عن منشورات خاني في دهوك - كردستان العراق 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم