قَيافا استنسخ لهب لَهَبْ ومسخه وأنساه أصله وحقيقة خلقه، فصار يغتاظ كلّما سمع أخاه الصالح يتحدث عن أمّه، يشيد بها ويؤكد أنها خُلقت جنبا إلى جنب مع أبيه من الطين، يشعر بجزع كبير أيضا كلما سمعه يشرح كيف كانت التفاحة سببا في تكاثر الإنسان، يكاد يخرج من جلده كلّما تعرض البعض إلى سيرة آدم وحواء، خصوصا عندما يقال أن الله تاب عليهما، وإذا قيل بأن الله لعن إبليس ازداد غيظا.

قَيافا عندما سمع ذلك تراجع عن حمرة النّار، ابيضّ وبدا مشعّا كالملاك، لبس عباءة وأسدل لحية وبالغ في التعطر، جعل كأنه قد نزل لتوه من الجنة، وقف بمحاذاة لَهبْ وهمس إليه:

- قابيل ليس طاغية أو مجرما كما وصفه الكثيرون، بل رجل شجاع حين خرج بجرأة عن قانون المسابقة المقدّسة، فقد اغتاظ كثيرا واعتبر نتيجتها غير عادلة، لذلك قتل أخاه هابيل وورِث زوجته ومتاعه وماشيته، يا صديقي لو لم يفعل ذلك لاندثر الإنسان، لأن هابيل كان طيبا جدّا وغير قادر على نشر الحرية وحمايتها، بدليل أنه سجد شكرا لله بدلا من التفكير في حماية زوجته، وهو خاشع يمد الله ويشكره انهال عليه قابيل بهراوة فقتله، وإنهم لا يزالون حتى الآن ساجدين، ونحن من ورائهم نحفر تحت مقدساتهم لنهوي بها إلى قاع الأرض، ولولا تلك الوحوش لتمكنا من نيل أهدافنا منذ زمن طويل.

لَهَبْ حين أحاط به قَيافا من كل جانب أخلط عليه الحق بالباطل، أرهقه إلى درجة الصّرع، أجلسه على جذع شجرة محترقة وقد زيّنه له في صورة أريكة فاخرة، ثم جاءه ملتبسا في مظهر رجل صالح عالم فقيه:

- إبليس ليس ملعونا كما يتصوّر إخوتك أيها القائد النّاري العظيم، صحيح أنه تمرّد عن إرادة الله وأبى السجود لجدّك آدم، ولكنه فضّل الصراحة على النفاق، كان بإمكانه أن يسجد ثم يقعد له ولأولاده ويغويهم بهدوء، لكنه خاف أن يحدث له مثلما حدث لهابيل فمن يدري، ربما يأتي مخلوق آخر وينقض عليه هههه.

عندما اقتنع لَهَبْ بهذه الفكرة ألهمه قَيافا ليبدو أمام الآخرين في هيأة رجل صالح وأمير فاتح، جزم له بأنه سيكون رجلا قويّا وعظيما إذا نجح وتقمص هذا الدور، نصحه بأن يثق بنفسه وبرسالته، لكن الملأ يشفقون على حالته خصوصا إذا رأوا وجهه محمرّا وعينيه جاحظتين، وبالجرأة التي علمه إياها قَيافا نظر إليهم بحقد وتوعّدهم بالحرب.

في صباح باكر طلعت فيه الشمس بارزة بقرون حمراء، رفع لَهبْ رأسه إلى الأفق فوجده أحمر بلون الدم، ولما رآه يتماوج يشبه البحر شعر بالرعب فوضع قَيافا يده على كتفه:

- يا غبي تلك ليست الشّمس إنه أبونا إبليس الأكبر، أمّا تلك الكتلة الحمراء التي تراءت لك على سطح البحر فهو عرشه العظيم، انظر كيف اصطفوا شيطانا واحدا ليحرسوك ويدعموا رسالتك النّارية، هكذا أوصاهم إبليس ذات اجتماع في وادي الموت. هيّا انتبه لنفسك واثبت على عهدك، ارفع هامتك، وزِدْ من عزيمتك، وكن كما راهن عليك، وإنه الآن يأمرك بأن تتوضأ من مياه الصرف الصحّي، ثم تتجه عكس القبلة وتذْكُره أناء الليل وأطراف النهار، أنسيت أنه حلف وغلّظ اليمين بأنه سيغوي بني آدم أجمعين، ونحن على ذلك من الشاهدين، لا يجب أن تنسى أنه تعهّد أيضا بألّا يتراجع حتى يدفع بني آدم ليأكلوا لحوم بعضهم البعض.

قام لَهَبْ وركع ناحية الشفق الأحمر، ثم توضأ كما نصحه قَيافا وانهمك يخطب في الناس:

- ها أنا مخلوق صالح أتوضأ وأُصَلّي مثلكم، وليعلم الجميع أنها لا توجد لدي أي مشكلة مع إبليس، ثم ما هو العيب الذي رأيتموه فيه؟ إني أراه مخلوقا طيبا ووديعا؟ ألم يُخلق من نار هو الآخر؟ ما بها النّار؟ لماذا تلجؤون إليها في الشتاء وحين تجوعون؟ الأبالسة مثلهم مثل بني آدم خاضوا كذلك تجارب مدهشة في العشق، وكما اجتمع آدم وحواء حول التفّاحة، كذلك الحال اجتمع إبليس وإبليسه حول جمرة حمراء متّقدة، نفخا فيها معا وتقاسماها ثم أكل كل منهما نصفا، وهكذا تزوّجا وأنجبا شياطين كُثُرا ثم صاروا أمّة مثلكم، أليس من حقّه أن يحظى هو الآخر بعيد للكراهية، أنسيت أنه هو المؤسس الأول لهذا العيد منذ أن رفض السجود لآدم؟ وإننا نحييه كل دقيقة وثانية ولسنا كالإنسان لا يحيي عيد الحب إلّا مرة واحدة في السنة هههه.

شعر لَهَبْ بغرور عظيم والتفت إلى الأطفال:

- أخبروني بربكم ما الأكثر غواية الجمرة أم التفاحة؟

فأجاب الأطفال بفم واحد:

- الجمرة!

   فرِح لَهَبْ بهذه الإجابة إلى درجة صار فيها كالبهلوان، قام وأخذ يقفز كالقرد هنا وهناك، اعتقدَ أن الأطفال قد اعتنقوا عقيدته وصاروا يحبّون النّار مثله، فجمع حزمة كبيرة من الحطب وأشعلها، ثم انهمك يأكل منها الجمرة تلو الأخرى، بدا أمامهم كأنه يأكل تمرا لذيذا، يأكل بنهم ويلح على الأطفال أن يفعلوا مثله، لكن لا أحد منهم استوعب الأمر، ثم فرّوا جميعا إلّا طفل صغير كان يضع مصاصة حمراء في فمه، فأراد هذا الطفل أن يزيد من حجمها حين زيّن إبليس الجمر في عينيه، فأحتضنه لَهَبْ وضمه إلى صدره، كافأه بجمرة وضعها له في حجره والتفت إلى أولئك الأطفال الذين وقفوا بعيدا:

- كنت أعرف من البداية أنكم مخلوقات طينية، طفرة منحدرة من عمّكم هابيل، لن أقول لكم اذهبوا إلى الجحيم فأنتم لا تستحقونها، بل أقول لكم اذهبوا إلى جنّتكم وسأبخل عليكم بناري كلما اشتد عليكم البرد والجوع، استمِرّوا في براءتكم أيّها الأغبياء وسنرى بعد ذلك مَن الغالب ومَن المغلوب، ربما صدّقتم المعلم حين قال لكم أن "السعيد من يضحك في النهاية"؟ اعلموا أيها الأغبياء أن السعيد هو الذي يبكي في النهاية، لأن البكاء ألذّ وأطيب في الآخرة.

نحت قَيافا لَهَبْ وحوّله إلى كتلة نارية، هكذا تراءى لنفسه أمام المرآة متفحّما أجرد من الحب والرحمة، ثم أقنعه بأن النّار هي الرّحم الذي انحدر منه، وأنها هي المآل الدافئ الذي لا خيار عنه:

- ولهذا السبب أكلت النّار قربان أبيك قابيل حتى تدخّره ليوم العوز، ومنذ ذلك الحين صار يعتبرها المفرّ والملاذ.

تأسّى لَهَبْ بهذه الدروس وحفظها، صار ينتظر المزيد منها بمكوثه المطول داخل البالوعات وقنوات الصرف الصحّي.

ازدهرت الصحوة الدينية، وتأخّرت البراكين بالانفجار، وشحّت الخلافات الإنسانية من الحروب النّارية، ففر لَهَبْ كعادته إلى جيوب الكهوف وأعماق الأودية، توغّل فيها وأشعل النّار، ثم  راح يتأمل وهجها وتلاعب ألسنتها فكأنه يحاكي أُمًّا حنونة، ظل كذلك حتى لان واسترخى في قبضة قَيافا، فغاص بخرطومه في عقله ولحسه لحسا، جعل من جمجمته مدخنة لنار لا تنطفئ، ثم راح يُشيد به على أنه صديق ممتاز، وأنه رائد الحرية في العالم، فابتهج لَهَبْ ورقص عاريا والحشرات الخبيثة تطوف بجميع حواسه ومخارجه:

- لقد فضلتك يا صديقي على بني آدم جميعا، اخترتك لتكون قائدا عظيما لثورة النّار المقبلة فلا تخذلني أرجوك.

وليتأكد قَيافا من صدقه أمره بغسل وجهه ببول الكلاب، ويأكل من أرواث الدواب، ويشرب من حمأة الماء الراكد، فعل لَهَبْ كل ذلك ثم شمّر على نفسه اللئيمة، ولمّا شحذ مشاعر الشّر وأحاسيس الغل والكراهية، مسح قَيافا على رأسه ففرِح لَهَبْ كثيرا حين اختاره رسميا كمتعاون أساسي لإبادة أعداء الحرية في بلاد الوحوش، شد على أيدي أنصاره وأقنعهم بأنها حرب مقدّسة، وفي أوج فرحته أمره بأن يرفع رجليه إلى السماء ليُحيّي الحلفاء في الفضاء، أصر عليه بأن يفعل ذلك بصفته قائدا جديدا لهذه الحرب في هذه البلاد:

- حيّيهم هكذا فقد لا ينتبهون إلى يديك أيها القائد، اعذرهم فهم يتجسّسون لصالحنا من علو شاهق ، فمن العار أن نخوض حربا ضد أعدائنا ونحن نجهل خططهم التي يمدّهم الله بها، ولا نعلم أيضا كيف يتلقّون دعمه من معجزات وكرامات.

ولمّا هوى لَهَبْ بظهره ناحية الأرض ورفع رجليه، جذب قَيافا سرواله وسلخه كما تُسلخ الشاة وتركه عاريا، فنزل الذّباب وتراكم حول دُبره، الحشرات تتكالب على عورته وهو يحيّي الحلفاء بقدميه، فأثار الذباب شهوة قَيافا فاغتنم الفرصة وتخلل رجليه وفعل به منكرا كبيرا، وحين حمى دبره وابتل اعتقد لَهَبْ أنه صار صاروخا، وأنه يقارب أن يصل إلى الفضاء!

الغريب أن من يعتبرهم حارسُ بوابة الجحيم وحوشا لا يرجعون عن العمل والصلاة والدفاع عن الوطن، يحاربون ما يزعجهم من الطبيعة بشجاعة، مصرّون على معرفة ما ينفعهم وما يضرّهم فيها، ولأنهم بالسّليقة برزوا في فعل الخير، وأصروا ألّا يعتدوا ولا يسمحون لأحد بأن يعتدي عليهم.

كم يغتاظ لَهَبْ عندما يعلم أن أخاه استجاب للدين استجابة صحيحة، فلّما رآه يسارع إلى العمل والصلاة ذاب هو في شخصية قَيافا أكثر فأكثر، اقتنع بأن ناره هي الحضارة الأولى التي أسّست الحياة، بات يتغذّى من فضلاته وبقاياه، وكلّما شعر بالخطر احتمى به، شيئا فشيئا تراءى له في هيئة إله وكلّفه ليبلّغ الناس رسالة النّار، فراح يجتهد في تبليغها بكل اللّغات واللّهجات، استغل في ذلك جميع الفنون الإنسانية، وكما أقنعه قَيافا اعتبر النّار رسالة مقدّسة عظيمة، وأنه محظوظ جدّا حين اختاره لهذه المهمّة، وكل مرّة يوحي إليه بأنه شخصية ملهمة ومؤثّرة، وأنه سيورثه الحكمة والدهاء، عندما زادت ثقته بنفسه ضرب على صدره وتناول المهمة ببسالة.

- أعدِك يا صديقي بأني سأكون أنا أصل الشّر، ولن أتأثر بالخُطب والدروس والمواعظ، بل سأكون طاقة مظلمة في وجه العالم، ولن أتراجع عن ذلك حتى ترضى عنّي، وتمنحني رتبة أعلى في فعل هههه.

مسح قَيافا على صدره ونصحه بألّا يتراجع، أقنعه بأن المخلصين من بني آدم قلّة قليلة، أكّد له أنه يمكن التصدي لهم ومحاربتهم بكثير من المنافقين والطيبين الغافلين من بني جلدتهم، نصحه باستغلال الجاهلين بالدّين، والمتشدّدين المتهورين الذين يؤولون النصوص المقدّسة تأويلا خاطئا، خصوصا أولئك المولعين بالبحث عن الذرائع، هكذا لقّنه الدّرس ثم ضرب على صدره مرة ثانية ووعده باحتفال عظيم:

- سنقوم معا بإحصاء حشود الكفار والمنافقين والمستهزئين والمتشدّدين والإرهابيين، وكل أولئك المتعصبين المستعجلين بالجهاد والحروب، هؤلاء يا لَهَبْ هم مَن ندْعَم بهم جيشنا ونقوّي بهم إرادتنا، لا بُد أن نشدّ بهم أزرنا في هذه الحرب الطويلة.

أكد له هذه الوصية ومسح على رأسه ثم تركه ومضى.

قَيافا جمع كل حلفائه من شياطين الجن والإنس وأحاطهم بذراعيه، وهو يحدّثهم أشار ناحية لَهَبْ:

- إن لصديقكم هذا فضلا عظيما في تأسيس قاعدة نارية في أهم مكان من العالم، اطمئنوا سنتكاثر أكثر فأكثر، وأن الباقين سيتدافعون حتما للانضمام إلى تحالفنا الذي لم ير التاريخ مثله، سنمهد لهم سبل الحصول على المال حتى نجعلهم طغاة، ونمكنهم من النفوذ لنجعلهم مستبدّين، ونكفّرهم بجدل الكلام وغريب العلم، والشاذ من الأحاديث والآثار والنظريات، نُعلّم بعضهم سحر الكلام وفنون التعبير، سنحشو عقولهم بالشبهات ثم نغوي بهم الجهلة والنفوس المهزوزة والقناعات الهشّة وذوي العقد، سندفع بكل هؤلاء إلى صراط غير مستقيم، سنظل نخرب عقولهم وقلوبهم، لا نتركهم حتى نحوّلهم إلى حطام لا يصلحون إلا حطبا لنارنا العزيزة في الآخرة، وسنقف عليها وهي متوهجة تشوي لحمهم وتفحِّم عظامهم. 

هكذا كان يحثّهم قَيافا من مسافة بعيدة من لَهَبْ، لهذا أخذ يتسحب بظهره على الحائط، يحاول الاقتراب حتى يسمع حديثه مع الشياطين من الجن والإنس، لكن قَيافا غضب غضبا شديدا وجاء ناحيته:

- أوصيتك أيّها الأحمق بالتجسّس على المخلوقات الصّالحة وليس على حلفائي، أتريد أن تعرف ماذا كنت أقول لهم؟ لقد أشدْتُ بك أمامهم وأوصيتهم بالتعاون معك، حذّرتهم من أن يخذلك أحدُهم أو يتخلى عنك، أوصيتهم أيضا بالتركيز على حصار المخلصين من بني آدم تلك الطفرة المنحدرة من هابيل، عدو إبليس اللدود الذي قهره بأعماله الصالحة، جعله يكاد يموت من الغيظ عندما عصاه وقدم قربانا أرضى به الله ولم يطاوعه كما فعل أخوه، لذلك باركتْ النّار في قابيل حين انتصر عليه فجعل إبليس يتنفس الصعداء، ولو لم يفعل ذلك لاستعصت عليه غواية أبنائه من بني آدم الذين استجابوا للأديان الإلهية.

لا يجب أن تعطل سنة أبيك قابيل، تعاون مع الشياطين ولا تخذلهم أو تتخلى عنهم، خذ بنصائحهم واعمل بغوايتهم، لا يجب أن تهدأ حتى تبيد بني آدم بالجوع والسلاح، تعرِّيهم وتسبب

لهم الأمراض والإعاقات، تفتك منهم زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم وأمّهاتهم، يجب أن تغش في جميع امتحانات الحياة حتى المدرسية منها، بالغ في إضرام النّار والشر حولهم، كمبالغتهم في الصلاة والتسبيح والذكر وبذل الصدقات والقرابين.

كن قويّا فلهذا نصّبتك يا لَهبْ قائدا لثورة النّار في هذه الأرض التي يدعون بأنها مباركة، فإن نجحت في نشر رسالتك هذه أعلنت على الملأ أنك شيطان إنسي باقتدار، ومكّنتك من حضور اجتماعاتي مع شياطين الجن والإنس الماردين، سأمكنك أيضا من التعرّف على جنسياتهم وأنواعهم وصورهم وألوانهم، وأدلك على وديان العالم التي يهيمون فيها.

سنخوض معا يا بطل معاركنا ضد وحوش الكون جميعا، سأمنحك فضل إحياء حضارة الخراب، فإذا التمستُ فيك روح الاجتهاد في هدم حضارة العمل والصلاة منحتك لقبا أكثر أهمّية، ثم نمضي معا لنحرّر الكون من سلالة آدم وهابيل، سنقضي على الماء والورد، وسنُبيد الفراشات والعصافير، كن أيّها القائد كما أوصيتك واجتهد، ولا تتراجع فإن أمامك مستقبلا زاهرا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم