لم يكن أبي مقاتلًا، ولم يكن يضع رسمًا لجمجمة فارغة على زجاج سيّارته الخلفيّ. ليست لديه ثياب زيتيّة اللون، ولا سيّما تلك المعاطف المعروفة بالفيلدات. كان يحبّ السينما الأميركيّة وزكريّا أحمد ويسأل أمّي عمّا حدث في آخر حلقة من مسلسل ليالي الحلميّة، إذا صودف وتأخّر في العمل. إعلان المارلبورو يذكّرني بأبي عندما كان شابًّا. ليس لأنّه كان يدخّن أو لأنّه كان سائسًا أو خيّالًا. حين كانوا يعرضون الإعلان، كان أبي شابًّا. وعندما أتذكّر أبي في شبابه، أتذكّر إعلان المارلبورو.

خالي جهاد كان مخيفًا. رأيته في الألبوم يحمل سلاحًا بيده اليمنى ويحملني باليسرى. كما لو أنّنا عينان متساويتان، أو ذراعان بالطول ذاته. الصورة تكاد تكون لي أنا والسلاح وقد اقتحمها هو مصادفة. الكلاشنيكوف التشيكيّ بسبطانته الطويلة وكعبه الخشبيّ المتين ينام حتّى اليوم في خزانة موجودة في منزل العائلة، عفّشها خالي جهاد من أحد المنازل في كورنيش المزرعة أوائل الثمانينيّات. صورة الإمام حاضرة في الخلفيّة. يبتسم، من صورته المعلّقة في الخلفيّة، كما لو أنّه يبارك صورتنا. يمكنني الجزم بأنّني مثل أيّ طفل آخر، أجمل من السلاح، وأنّ السلاح بدا انعكاسًا طبيعيًّا لعبوس الإمام.

حتّى أواخر الألفيّة الماضية، لم يكن في منزلنا صور لأيّ شخص على رأسه عمامة. ولا أسلحة. كنت أنام على سرير ظهره حديديّ وجانباه مقطوعان من سنديان سميك. كنت أخشى أن يكون هذا السنديان مقتلعًا من الشجرة الأخيرة المتبقيّة تحت منزلنا. وكان حسن ينام فوق، فقد تألّف السرير من طبقتين. في إحدى المرّات، أخبرني حسن بأنّه يريد النزول. نكايةً به، رفضت بشدّة رغم أنّني كنت أتوق إلى الصعود.

«بس يا قرد منّك إلو».

أذكر صوت أمّي في الخامسة عصرًا، وهي تقطّع البصل والأيّام، قبل أن يدهمها صوت أبي. صوت أمّي كان حازمًا ولكنّه رقيق. كنّا نأخذه على محمل الجدّ خوفًا من صوت أبي. ولم يكن أمامنا أيّ حلٍّ سوى أن نسوّي مسألة السرير في ما بيننا. اقترحت الرهان على مباراة يوفنتوس ودورتموند فرفض رفضًا قاطعًا. كان اليوفي أفضل بكثير، وكان هذا رهانًا لمصلحتي بوضوح. رغم ذلك خسِر اليوفي المباراة النهائيّة. اقترح أن نلعب ضربات الجزاء بكرتنا المصنوعة من الأوراق والمغلّفة بشريط لاصق، على أن يكون المرمى كالعادة هو الحائط، وأن ترتفع الكرة فوق الفراش لكي تحسب هدفًا. رفضت عرضه ولا أجد سببًا مقنعًا الآن لهذا الرفض. في نهاية المطاف، اتّفقنا على أن يصير الأمر سنويًّا. وفي ليلتي الأولى في الطابق العلويّ من سريرنا المزدوج، قرأت مئتي صفحة من آنا كارنينا.

– هل أنت نائم؟

جاء صوته من تحت وعقّب:

– سريرك بارد.

فكّرت في أن أتظاهر بالنوم، لأنّه لا يمكنه أن يراني. وطالما أنّ السقف بات قريبًا من وجهي إلى درجة كبيرة، فلا أحد يمكنه أن يراني. كنت أشعر بالطمأنينة لأنّ الله لن يخنقني كما قالت الناظرة، وكما قالت جارتنا وفاء. هنا السقف أقرب. لن ينزل حبل من السماء. لست بحاجة إلى النوم على بطني. لن أختبئ من الله. قد يجدني، لكن ليس بسهولة هذه المرّة. تفوّقت على الناظرة. في الطوابق المرتفعة، حبل السماء قصير.

بحسب مدام زينة، الله سيخنقني لأنّني كذبت. وهذا ليس مهمًّا، الأهمّ أنّها صفعتني. كنت أعرف أنّها ليست شرّيرة، ورغم ذلك لم أسامحها بسرعة. أردت أن أصفعها بدوري، وتخيّلتني أفعل ذلك مرّتين. مرّة أمام الجميع، ولم أصدّق المشهد حتّى في خيالي. ومرّة في مكتبها من دون وجود أحد سوانا. وبما أنّني أتخيّل، جعلتها تتوسّل إليّ أن أسامحها. وكنت أصل إلى هنا وأتوقّف. إذا سامحتها، فسينتهي كلّ شيء. وإن لم أسامحها، فقد تنتفض، وتفسد المشهد الذي يبقيني منتصرًا.

وبحسب جارتنا وفاء، الله سيخنقني لأنّني أزعر وعكروت. وهذا ليس مهمًّا أيضًا، لأنّها كانت تقولها وهي تفرك شعري بيدها. كانت تقول ذلك لأخي حسن أيضًا ولجميع الأولاد الآخرين، وتفرك رؤوسهم بيدها البيضاء الطريّة. عندما صار وسام في السابعة، وهو أصغرنا، انتقلنا إلى منزل جديد، ولم يتسنَّ له أن يجرّب ملمس يد طنت وفاء في رأسه. كانت تفعل ذلك مع جميع الأولاد. لكنّني تخيّلت وفاء لي وحدي. عشرين مرّة بدلًا من المرّتين. سيكون سخيفًا أن أتحدّث عن خيالاتي، لأنّها في الحالات الطبيعيّة تشبه خيالات الجميع.

غطّ حسن في نوم عميق، وبقيت سارحًا.

* * *

غفوت قليلًا في الأوتوكار لأنّني سهرت أكثر من اللزوم. وكانت الآيات التي تخرج من الراديو تختلط في رأسي بأغنية في كاسيت عثرت عليه وأنا أفتّش عن مقصّ الأظافر في أحد أدراج خزانة أبي. لم أجد المقصّ فقضمت أظافري، وأنا أستمع إلى الشريط قرب النافذة. الأسلاك الكهربائية تختلط بالغيم. الأسلاك آثار أظافر على خدّ السماء.

«روحي يا نسمة ويّا الحنين».

قبل ذلك، وصلة موسيقيّة طويلة لكنّها غير مملّة. الوصلة تحديدًا هي التي عبرت في رأسي، بينما يرتّل عبد الباسط آيات من سورة مريم. سائق الأوتوكار كان يدندن بكلمات خاطئة، لكنّه يزايد على عبد الباسط. وصلنا متأخّرين إلى بئر العبد، رغم أنّ المسافة ليست بعيدة من عين الرمانة. وهذا يحدث كلّما هطل المطر بغزارة. هرعنا إلى مواقعنا، أنا وحسن، كلّ في صفه. حسن هو الثالث في الصفّ. وكان يحمد الله لأنّ هناك زميلين قامتاهما أقصر من قامته، ولو بدرجة لا تذكر. وكان يقف خلفه تسعة آخرون، يشعرون بتفوّق على أخي. تعلّمنا الهرميّة باكرًا. من القصير إلى الطويل. القصير يجب أن يدفع ثمن قصر قامته. يجب أن يكون في الواجهة، وأن يرى الجميع أنّه ضئيل. الطويل يجب أن يفهم أنّ طول قامته لن يعفيه من الخضوع أيضًا.

لم تكن لديّ مشكلة حسن، لأنّ طول قامتي أتاح لي فرصة الوقوف في آخر الصفّ. رغم ذلك، كنت أجد الأمر مزعجًا. كأنّ جسدي ليس لي، وأجساد زملائي ليست لهم. كان الالتزام بالوقت في حدّ ذاته مشكلة. في الثامنة إلّا ربعًا، علينا أن نبتلع أصواتنا وأحاديثنا ونحتشد في صفّ طويل تتجسّد فيه كلّ علامات الخضوع والسذاجة. رنين الجرس دعوة إلى الإذعان لا يمكن التمرّد عليها. كذلك وقوفنا في الصفّ معزولين عن الإناث. في مدرسة القدّيسة ماريّا، كان النشيد الوطني في نهاية مراسم التعذيب اليوميّة، وفي المدرسة الجديدة بات هناك ما هو أقلّ جاذبيّة: الدعاء.

كنّا عائدين لتوّنا من عطلة العيد. ليس هذا سببًا كافيًا لكي تنسى زهراء الدعاء، لكنّها نسيت. وهي تقرأ الفاتحة، أدخلت عليها جملًا من دعاء الإمام الحجّة. أوقفتها مدام زينة، وقبل أن يزداد الضحك، طلبت منها البدء مجدّدًا من الصفر. تلعثمت زهراء، وبصوت خافت، بدأت الدعاء، بدلًا من البدء بالفاتحة. تصرّف الجميع كما لو أنّها ارتكبت خطأً فظيعًا. وكما في كلّ مرّة، لم يكن أحد يسمع أو يكترث للأمرين، لكنّ الجميع وجد الحدث فرصة للاحتفال. وأصبحت زهراء في قفص. والجميع يضحك كما لو أنّنا في سيرك.

«عيدي من الأوّل وركزي يا حمارة»، جاء صوت الناظر، الذي بالتأكيد كان شيئًا آخر في حياة سابقة. يستحيل تصديق أنّ هذا الصوت يخرج من إنسان. على الأرجح، جاء لتأكيد طبيعة المكان العنيفة.

«حاضر». هزّت زهراء رأسها خنوعًا.

قرأت الفاتحة بتعرّج وفي رئتها سكّين. أرادت أن تبكي، أو أن ينتهي كابوس الصباح هذا لكي تبكي. وكان هناك ضحك خافت يصدر من بين الصفوف. حتّى الأستاذ غازي، الذي صاح بها، راح ينظر إلى رعبها ويبتسم، كما لو أنّه حقّق نصرًا. وعندما جاء وقت الدعاء مجدّدًا، أخطأت زهراء وقرأت الفاتحة بدلًا منه.

جميع الحقوق محفوظة.

صدرت عام 2020 عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان

© هاشيت أنطوان ش.م.ل.، 2020

بناية أنطوان، الشارع 402، المكلّس، لبنان

ص. ب. 0656-11، رياض الصلح، 2050 1107 بيروت، لبنان

‏info@hachette-antoine.com

www.hachette-antoine.com

facebook.com/HachetteAntoine

instagram.com/HachetteAntoine

twitter.com/NaufalBooks

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم