الفصل الأوّل

برزخ نحو الجحيم

كنّا نشاهد بأمّ أعيننا أشلاءً محرجة لملابس نسائية داخلية زاهية الألوان، تخيّلتها من فوري منتزعة عن جسد صاحبتها المستباح عريه، تتناثر في الهواء قبل أن تتهاوى على الأرض بصخب وعنف. كانوا ينتشلونها من حقيبة في الصندوق الخلفي لسيّارة الأجرة التي تقلني مع مجموعة من الركّاب إلى مدينة درعا المتاخمة للعاصمة دمشق. ذلك ما حدث على مرأى من جميع ركّاب الحافلات الأخرى، المتمهِّلة بانتظار نيل حصّتها من الاستباحة والإذلال المعتادَين عند التوقف على أيّ حاجز تفتيش أمني.

وأظن أنّ خطورة الموقف لم تعق مخيّلة الجميع عن تجسيد تفاصيل ذلك الجسد المستباح. كلٌّ بحسب مخيّلته ودوافعه، من دون الحاجة لمطابقة مواصفات صاحبته الحقيقية مع جموح خيالهم الخصب. حتى مخيّلتي المكبوحة، وأنا المرأة بينهم، لم تتوانَ عن التداعي مع ذلك الإيحاء، الذي تسلّل بها من حدّة الانقضاض العنيف للأشلاء المتناثرة إلى تهاديها بإيقاعٍ مترنّح بطيء، كما اللقطات الرومانسية في أفلام أيّام زمان، حين يتراكض الحبيبان ليسقطا على البطيء كلٌ في حضن الآخر. تسلّلٌ جنّبني ألّا يتهاوى تفاقم الرعب على رأسي المنهك كمطرقة، ويشلّني كما هي العادة في مواقف كهذه.

تداركاً لاستفحال الرعب، سارعت للبسملة واستغفار ربّي، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، طاردةً وسواسه الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، بينما الملابس الملوّنة تتطاير في الهواء على أيدي رجال الأمن، العابثين بأحشاء الحقيبة النسائية المستهدفة، كمن ينتهك عورة فرجٍ اغتنمه، منتصراً لفحولته المفرَّغة في انهماكها اليومي بترويعنا، تأكيداً لكوننا مشاريع إرهابية محتملة ومؤجّلة إلى حين القضاء على آخر إرهابيٍّ منّا.

أخيراً لاحت لهم فرصة تحقيق ذلك، إذ توقفت الأيادي عن العبث فجأة، أمام صرخة مدوّية للضابط المسؤول، جعلت ركبي تصطكّ هلعاً، وهي تأمرهم بإحضار الفتاة صاحبة الحقيبة إلى الخلف.

«هاتولي هالإرهابية القحبة».

هلعت رغم أنني لم أعتبر نفسي معنيّة بهذا الأمر، لأنّي أبعد ما أكون عن تلك الكلمات النابية المقشعرة للأبدان، التي لم يسبق لي اختبار وقعها على مسمعي، ولأنّي أيضاً لا أملك، ولا أجرؤ على أن أملك، أيّ شيء يعرّضني للمساءلة. فأنا بطبعي من جماعة «الحيط الحيط ويا ربّ السترة» كما يقال. لكنّ الهلع استحكم بخناقي، لمجرّد تعرّضي لرؤية مشهد كهذا، وتخيّل تبعاته حتى لو كان متعلقاً بغيري. فما بالنا إن تعلّق الأمر بي؟! مجرّد التفكير في ذلك كان كفيلاً بتحريض أقسى أعراض رهاب الموت، كما شخّص الطبيب مرضي النفسي أخيراً.

بدأ ذلك المرض معي كوسواس خنّاس قضَّ مضجعي وحدّد مصير حياتي ومآلها منذ نهاية فترة مراهقتي التي لم أذق من طعمها سوى آهات كبت وألمٍ وخوف فاقمت عذابي من فكرةٍ استحوذت على دماغي، مفادها أنّ كلّ ما يحيط بي سيؤدّي بي إلى المرض العضال الذي لا أجرؤ على تسميته، ذي النهاية الحتمية المجسَّدة بالموت. وقد عرّضني ذلك الوسواس لاختناقات كادت تودي بي إلى الموت الحقيقي في إحدى حالات استفحالها.

مادت الأرض تحت قدميّ حين اتّضح أنّني المعنيّة حقاً بتلك الشتيمة التي أربأ عن لفظها حياءً. كنت أنا الإرهابية العاهرة المطلوب إحضارها فوراً إلى هذا الضابط البذيء الألفاظ المتجهّم الوجه. وكان ذلك آخر شيءٍ أتوقّع حدوثه في مسيرة نكباتي اللامتناهية.

في تلك اللحظة المفصلية من حياتي، اتّضح أنّ كلّ ما سبق أن مرّ فيها من أحداث ومصائب، لم يكن أكثر من سحابة صيفٍ عابرة، حتى المرض النفسي كان ترفاً يشبه ما تمرّ به كثيرات من النساء مثيلاتي، محفوفات بدوّامة تهميش لا قعر لها، تقضّ مضجع أحلامهنّ المكتفية بفسحةٍ لهنّ تحت الشمس، وسط محيط من الاحتقار يهوي بهنّ إلى درك أحطَّ من أن يكنّ فيه بشراً أنداداً للآخرين. تلك اللحظة المصيرية الفارقة، الناسفة لكلّ ما قبلها وما بعدها، كانت أقوى من أيِّ مقارنة، لما ستحمله أيّامها اللاحقة من استلاب فادح لما بقي من روحي المستنزفة أصلاً. روحي التي ما كانت تسمح بتحمُّلِ أيّ إضافةٍ جديدة على بؤس حياتي. لحظة جعلت انتماءنا إلى عالم البشر لا الحيوانات، قضيّة ملتبسة لا دليل يثبتها.

يمكننا القول بأنّها لحظة مجسِّدة للحدّ الفاصل بين الحياة والموت، أو ما يُسمّى البرزخ الذي يمكنني المراهنة على أنّني كنت تائهة بين ثنايا شطريه. لا أجزم إن كنت هائمة فيه للآن، أم أن الله بمساعدة عناصر قوى الأمن التي اعتقلتني، اصطفاني إلى ملكوته، وقذف بي إلى شطره الجحيمي من دون أن أدري.

توَّهَني الحدث وشتّت استيعابي تسارع مجرياته. التقطت منه مجرّد انطباع عن كلمات آمرة برطم بها الضابط لعناصره، جعلتهم يسارعون لتكبيل يديّ بالأصفاد. ووجدت نفسي فجأة أُساق كبهيمة، كغنمة عيد الأضحى التي قدّمها النبي إبراهيم بديلاً من ذبح ابنه إسماعيل، قرباناً لرؤيا أوحى له الله بها. تركت نفسي أساق باستسلام تامّ، دفعاً وجرّاً وضرباً ونهراً في كلّ أنحاء جسدي، إلى سيّارة الجيب العسكرية المركونة على طرف الحاجز، ليُقذف بي مع من كان في داخل عتمة فوهتها، فتبتلعنا كمثلث برمودا، وتجرفنا نحو عدمٍ لا قرار لمجاهله.

تلاشى الزمن بالنسبة إليّ بقدر ما استطال، وأنا أجد نفسي أُجَرّ معصوبة العينين كالبغال إلى عتمةٍ أخرى، اتّضح لي في ما بعد أنّها أحد الفروع الأمنية الملقبة بالمسالخ البشرية. ومع استطالات الزمان اللامتناهية، استشففت ممّا استجمعته شذرات ذاكرتي المتناثرة، أنني هنا للتحقيق معي في أسباب وجود أدوات إسعافات طبّية وموادّ إغاثية في تلك الحقيبة التي ادّعى المسؤول عن التفتيش أنّها لي.

لم تسعفني كلّ توسلاتي واستجداءاتي، ولا كلّ آيات القرآن والكتب المقدّسة التي أقسمت عليها في إنكاري أيّ علاقة تربطني بها، بل إنّ اجتهادي في تقديم الحجج زادَهُ تلذذاً بإذلالي، خاصّة بعدما أشرت إلى احتمال ملكية الصبيّة الأخرى التي كانت برفقتنا في سيّارة الأجرة المشؤومة لتلك الحقيبة، إذ أفضت إعادة تفتيشهم السيّارة إلى عدم إيجاد أيّ أثر لصبيّة أخرى، وبالتالي إلى تكذيب ادّعائي هذا ونسفه من جذوره، رغم أنّ هويّات ومصائر جميع الركّاب كانت محفوظة بين يدَي الضابط المسؤول، منذ لحظة البدء بتفتيش السيّارة.

دفعني ذلك إلى التشكيك في اتّزاني العقلي، وفي قدرتي الهائلة على اختلاق الوهم. وهو افتراض لطالما راودني في الفترة الأخيرة، إذ إنّ لمخيّلتي قدرة، لا يمكنني إنكارها، على الجنوح – أحياناً – نحو ايحاءات كهذه، هرباً من واقع تفوق قسوته قدرتي على تحمّلها، بل وتدفعني حتى لاستساغتها بلذةٍ تخدّرني، وتهيم بي في فضاء أرحب، يسهِّل عليَّ قبولي الطوعي لسطوة خنوعي وإذلالي، ويوقِّيني من وسواسي الأشدّ ألماً عليّ، تجاه احتمال تعرّضي للعنف والموت... في حال ظهور أيّ بوادر تململٍ أو تمرّدٍ منّي تجاه واقعي.

إذن، أعرف أنّ لمخيلتي قدرة هائلة على اختلاق الوهم. لكنّي لم أكن أتخيّل أنّها بكفاءة أن تدفعني، بفعل الخوف، لاختلاق وجود شخصية كاملة، بلحمها وشحمها، وأن تجعلني واثقة من وجودها ومرافقتها لنا، لدرجة أن تُصوَّر لي كيف كانت جالسة إلى جانبي، وقد حُوصِرْتُ بينها وبين راكب طاعنٍ في السنّ، بينما جلس راكب آخر بجانب السائق، طوال ساعة هي مدّة الطريق الذي قطعناه معاً في سيّارة الأجرة التي تقلنا إلى درعا، مسقط رأسي. فهل تملك مخيّلتي تلك القدرة الخلّاقة على تخيّل كلّ ذلك، بهذه الدرجة غير القابلة للشك، خاصة وأنا أقف بحضرة قوى الأمن؟ أأعرِّض نفسي لما آلت إليه بسبب جنوحٍ وهميّ؟!

لعلّي لم أجنح إلّا بسبب وقوفي هناك. فقد أصبحت فجأة ماثلة بين يدي أقوى وأرهب قوّة تتحكّم بقرار القدير الأعلى، قرار الحياة والموت للبشر والحجر، وهذا وحده كفيلٌ بتشويش أكبر عقل، بل بإضاعته حتى لو كان سليماً. فكيف بعقلي، الملتاث بقابليتي المستقطبة للوهم، بالإضافة إلى هلعي من كوني الآن بحكمهم، متهمة بالكذب والتحايل والافتراء والغشّ وتزوير الحقائق، فوق التهمة الكبرى التي تم سوقي إلى المسلخ البشري بسببها، والكفيلة وحدها بقصم الظهر وبفناء صاحبها... تهمة الإرهاب. تلك الوصفة العالمية الشهيرة للقضاء على أيّ منافس ثائر أو مرتدّ؛ وأنا العبدة لله الفقيرة البسيطة التائهة في ملكوته، وملكوت كلّ طواغيت هذا العالم البربري، الموغل في توحّشه عن سابق إصرار وترصُّد، عالم لا حول لنا ولا قوّة لردعه، أو حتى لإيقاف غيِّه عند أيِّ حدٍّ يدرأ أبسط شروره عنّا.

جميع الحقوق محفوظة.

صدرت عام 2020 عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطوان

© هاشيت أنطوان ش.م.ل.، 2020

بناية أنطوان، الشارع 402، المكلّس، لبنان

ص. ب. 0656-11، رياض الصلح، 2050 1107 بيروت، لبنان

‏info@hachette-antoine.com

www.hachette-antoine.com

facebook.com/HachetteAntoine

instagram.com/HachetteAntoine

twitter.com/NaufalBooks

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم