عبد القادر لحميني   

فرق شاسع، من أن أكون كلبا منزويا إلى عزلة، من مكان مقصي، ضيعة مترامية الأطراف، أو حديقة، أو حتى فناء من منزل راق، ومع دوام كامل، أنبح وأنهش الذباب، شأن ما يفعله صديقي كاميل، وتنتهي لعبة الكوابيس، الكامنة، التي ترتج وتزعج في اليقظة كما في المنام، هي أخف ضررا من أن أكون كوخا خشبيا، في تقديري، لا مقارنة، ثمة تفاوت بيِّن. في حالة الكوخ السالف الذكر، مع الأسف، يصح القول،  كلُّ واحد منا مهما حاول، هو يبقى في النهاية كوخا خشبيا متنقلا ! وإن أبى ولم يقبل، لا مهرب إذن، وبسقف قريب جدا من الأرض، وبأضلع مرِيعة وباب مشرع على مصراعيه، يملأه الخواء الدائم ونفث الأهواء والأمزجة المتقلبة التي لا يفتر همسها ولا ينقطع، وليس بمنأى عن هذه القاعدة، ويمكن القطع، وداخله كلب متوار عن الأنظار، مصاب بعمى الألوان، لا يتوق ولا يبغي، الرؤية الصائبة في الغالب، ويرى الأشياء المحيطة إلى جواره، غيًّا سابحا تحت قبة زرقاء من حجب البياض والسواد. وأنا أسلك هذا التأويل المغرض، وليست ثمة من مسافة كافية تفصلني عن الكوخ، مع القذارة الظاهرة التي تغمره، وعلى ما يبعث من تقزز واشمئزاز في النفس،  أن لا أكون نسخة منه طبق الأصل، أو مثالا معاودا عنه على غرار ما سبق، هو مجرد شعور أو إحساس يتلاعب بالمخيلة، في لحظة من اللحظات الضعف والهوان، التي مع انسداد الأفق، قد، تذهب بالمرء يقظا وماشيا على قدميه إلى حافة اليأس أو الجنون، بيدَ يمكن، مع ذلك، أن أكون كوخا خشبيا وأنتهي، وكحلم جميل، بمواصفات لائقة وبحال أفضل، وبالقدر المميز الذي يحظى فيه الكائن الذي لا أرغب، على كل حال، في تسميته أو نعته  بصفة الكلب، ومن تم يرفل برغد عيش كريم، بعيدا عن حزمة منغصات في داخلي، أحفظ له بين سماء أضلعي المريعة، لغته الصافية التي تليق به، من باب احترام الكائن، أو حرفاه المُمَيّزان، الهاء والواو، البديلان، واللذان هما على أحقية كاملة، بأن يكونا من غير منازع جذرَا النباح، مادام الكائن، قسرا وكيفما كان، لا يبني عشه بقِشٍّ من خارج اللغة، إلا من بقايا الحروف التي ينتقيها بعناية ويجد نفسه مميزا للنطق بها وعن جدارة، ومن تم بسلاسة فائقة التعقيد، لِذلك فالرجوع إلى الخلف، مسافة محترمة، للابتعاد عن الكوخ، القلعة المتمنعة والعصية، لفهم أعمق لما ترى به الكلاب، كإجراء وقائي أول محتمل، يحتاج إلى إفراغ سلة الألوان من عماها الطبيعي والإبقاء منها على اللونين المتقابلين الأسود والأبيض، واللذان إذا حضر أحدهما،في لعبة الكر والفر، يمحي نده بالمرة إلى غير رجعة، واللونان ما هما في العمق، إلا وجهان متناقضان لرؤية  واحدة ، أو انعكاسان مزدوجان لظل مهووس بالبقاء على رقعة مكشوفة، وعلى نحو يثير الدهشة والاستغراب، وبالتساوي، وكأجراء وقائي ثان محتمل، الشيء نفسه ينطبق على الحروف، يمكن فصلها هي الأخرى عن بعض، وغربلتها وتمحيصها من الغثاء والخوار والنحيب والمواء والعويل والنعيق وكذا من مزيج أصوات حيوانات الغابة، والإبقاء منها على النباح، إن كان بالطبع ممكنا أو كان ذلك في حكم الإمكان، والإبقاء منها على الحرفين، الهاء والواو، لفهم أعمق، كذلك، لما تنبح عليه الكلاب ، وهي المتفانية والمنتفخة الأوداج، أو لما تشيده من أدلة، وهي وتحرك ذيولها المعقوفة في كل  الاتجاهات، وما تصدره من أحكام قاسية، في مطاردة ما لا نراه أو ما نسميه أشباحا مارقة!

  المفزع في الرؤية القاتمة، أو في رؤية صديقي  كاميل، والغصة  التي صارت بريقها تملأ الحلق وتقبض على قصبة الحنجرة، ربما كان يختصرني، وأنا لا أدري، من زمن في الهاء والواو، على الرغم من ادعائي الفطنة والنباهة،  وفي نظره أضحيت غائبا، مِن مدة، لشبهٍ مزعوم بالأبيض والأسود، وإلحاحي على الحضور والظهور أمامه بالاتزان، ولم أعد كما كنت،أعنيه موظفا محترما، ذو إقامة، تشْدُه الأفواه، من حي راق بمحاذاة شارع أبليلو الغني عن المجاملة، ولا جالسا في أريحية تامة إلى مكتب فخم  في الطابق السادس من عمارة،تطل،  على شارع بيلغاوس. في نظره ما فتئت العائد المرهق وعلى أكتافه من بقايا الرماد القديم وبتفاصيل كثيرة مرعبة، الخلاصة، ربما انتهيت عنده  إلى أبيروفلانتين ثان، في تصنعه، ينتحل بذلة جديدة للمضي والاستمرار، أو يصر على أن يظهر في جبة غير جبته التي كانت ممزقة، وكذا، في صورة غير عادلة وغير واضحة الملامح لأبيروفلانتين أول، لا طرافة، وكلما دنوت في وقار اتجاه الكوخ الخشبي، على ما أذكر، تاركا الممر إلى وراء  والباب مواربا، في إصراره على مواصلة النباح وصدى الجدران من حوله، مع عينيه الزائغتين واللتان تملأهما الرعونة والفزع،صار يشعرني حتما بالوحشة عن المكان: ... هُو.. !، هُو ..! ... هُو.. !، هُو ..!، بلا هوادة ولا انقطاع، على الدوام كنت أتجافى من الوقوع في هذا، وأتبرم من  المواجهة، مع ما كان يقودني، كنت أدفع بقوة في اتجاه النسيان ،أو، لكي لا تمضي عقارب الزمن وتعود إلى البداية، إلى حديقة رون ليوز ويحدث معي أمر مفاجئ يهز من دفء العائلة، ومن تم،ثانية، يرخي أبيروفلانتين المطارِد، الشرس، وظلال ماضيه المكتئب على حاضري. الكلاب من المعروف، لها حاسة شم قوية، تعرف بالبداهة الأشياء التي نفكر بها أو التي تأخذ حيزا من أفكارنا المعطوبة، وذاكرتها التي فوق العادة، في وفاء ماكر،تقدس، علاقاتها القديمة، بل، وفي وجدانها وعالمها السري تحتفظ بالروائح الممزوجة لمدة قد تطول. أقول، لو لم تهتم الصغيرة ليثا وتنسج كرسي القماش، وبقت الدمية ،كشأن مهمل، تراوح مكانها بين اللُّعَب والأسِرة والمشتريات الضائعة، أقول، لمَا كنت معنيا لما تهتم به الكلاب أو لما تنبح عليه، ولكانت علاقتي  بالكلب كاميل أوثق، كسابق عهدها، و ربما ستبدو على نحو أفضل ومغاير لما هي قد تفضي إليه الآن، أو على الأقل، من جهتي، لم أكن في موقف متردد، حيض بيض، كهذا، أحتاج إليه، فقط، لأثبت معه براءتي أمام الكل من اسم أبيروفلانتين المطارِد، أقسى الحرج، بعد المكانة والحظوة، يضمحل المرء ويصير قزما، صغيرا، أمام كلب صديق، لا يأبه، يفتأ يواجهُهُ بالأشياء التي أخفاها بعيدا عن الأعين في الحديقة. لو لم تهتم ليثا وتنسج كرسي القماش، أقول أيضا، لما كنت من الأصل صديقا دائما للحرج، ولبقت الدمية  شيئا متجاوزا، كما كانت، لا يلتفت إليه أحد، ولن تكون معي زوجة،تعميها فتنة العناوين، اسمها باربارا أوغستن، صحفية، من الصنف النادر، تغازل الكتابة وتعشق جمع البورتريهات و مداعبة القطط، ولن تكون معها تحت نفس السقف،أيضا، خادمة ذكية اسمها سماثا باورن تهاب النزول مع الدرج إلى القبو المظلم لانزعاجها من الصراصير، على الرغم من انضباطها الكبير وإصرارها على العمل في تفان لإعالة أختها ساولا باوْرن. بل ولقاءاتي مع  المدهش كاميل، على الأرجح، لن تكون في حي راقٍ، ومعها شيء من اللباقة، وستكون، يابسة وجافة، شأنها شأن، لقاءات أرائك الإسفلت المعهودة، باردة وتتخللها نظرات شزراء متقطعة بين رجل حبلت به المدينة على كره يدعى أبيرو أو أبيروفلانتين، متشرد، وقيل عنه أحمق، ليس له من أوراق اعتماد يعرف  من خلالها، حال  الشيخ بفاري  أو (ميسترو بفاري)، تثبت من هو ومن يكون، وكلب شارع مجهول الهوية، لا يعنيه في شيء، الاسم الذي يُختار له بعناية في حفلة اجتماع مصغرة، يكون الاسم كاميل أو غير كاميل كما نوعية الطوق، أو، ما يسمى(كولر) العنق، كلاهما مع البهرجة التي يحظيان بها، لا ال(كولر) ولا الاسم، أو التي ترافقهما، مع كل اللغط المدسوس، يبقيان أمرا سخيفا وسلْباً لإرادة كائن ومؤامرة عليه لا غير. الملفت للنظر، وبالمناسبة، الكلاب التي لها أسماء  وتحظى بالرعاية لا بد ولها أطواق أيضا، تكبل حركتها، بل في الغالب هي من يؤثث أفضية الأحياء الراقية، التي تتاخم شارعي بيلغاوس وأبليلو، وخلف هذه الأسوار هي الموكولة والمؤتمنة أو التي يسمع لها النباح!، أرى، من ناحية أخرى، ما يجعلنا مُتساوين بدرجة ما من التشابه، هو الحرج، أو قلائد الحرج، التي في المحصلة، ما هي إلا تلك الأطواق التي تُزيَّنُ بها الرقاب، لدا فحَرَج أبيروفلانتين المطاردِ،وأنا امتشق الرؤية أمام الكوخ، لا يختلف كثيرا في ماهيته عن طوق أو ( كولر) كاميل. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم