عبد القادر لحميني

دفعت برأسي، وتركت من خلفي الباب مواربا، لا أملك أجوبة، تفي بالغرض، أو  لما أصبو إليه، أو جوابا من بين العشرات المتشعبة، التي تثقل كاهلي، إن كان الصديق كاميل، والذي على أهبة، في الحديقة ينتظرني، بدوره يعتقد، بأنني ما زلت كما كنت، أبيروفلانتين ,,أبيروفلانتين، هي المحفظة البنية،ذات الحزام، نفسها، التي اعتاد رؤيتها مني على الكتف، تتأرجح. أو في الخطو ذلك الإقبال الذي كان، وتلك الرغبة التي كانت ولا بدَّ، والنزول عندها، والصباح، والمداعبة ، وجلسة القرفصاء، ولمسة الرفق، على الرقبة والرأس، أو، كلما المزاج وافق وكان رائقا والفرصة سمحت، بعد الفتور الذي دب في جوانحي وسرى، تِرياق يخدر، في كامل الكيان، من جرّاء الرؤية تلك التي طفحت بها المرآة، أو بالأحرى الصورة. صرتُ في نظري كائنا مرئيا بقدمين يمشي، في غير وِجهة محددة، ومن دون معرفة إلى أين، هي زحمة المتاهات التي قُذِفت إليها، وصارت تناديني. أو أكاد أكون رجلا منتهي الصلاحية، على حين نزل من كوكب مجاور، وعليه من الوعثاء ما يكبله من أغلال السفر، شأن  السيد بفَارٍي الشيخ، الذي انتهى هائما على وجهه، مُكِبا. ومعطف بال وإشارات، لا يكلم أحدا من المارة وكأنه يمشي في سبات،ولا يكلمه أحد، هي سجائر يشعلها تباعا من بعضها وينفث، في هالة وسباق، تنبع دخانا من شفتين ضامرتين، بين شارب كث ولحية عائمة على صدره العريض، يجر خلفه ماضيا مثقلا بالغموض، فاختلفت حوله الآراء ونسجت مع غيبته تلك الحكايات، بين من قال عنه، كان أستاذا جامعيا مبرزا ذائع الصيت، وهيأته توحي بذلك، وبين من قال عنه، كان تاجرا مرموقا في سوق الذهب "لا كواريولا" من مركز المدينة، وقيل، انتهت تجارته، ومعها وفير حصاد من الجنون والتيه، لكنه مع ذلك، كان يرفع يديه ويلوح بهما، امتنانا لكل من ينادي عليه، بفاري !! بفاري..، ما خلصتُ إليه، بعد هذا العمر، أصير غريبا، أنا الآخر، على منوال بفَارِي الشيخ، أتعقب أذناب  السجائر وأرائك الإسفلت، واكتفي برفع يدي المتغضنتين،في الهواء، لكل من ينادي علي، أو تذكر صورتي، من الأوفياء القدامى: هيه !!...أبيرو..أبيروفلانتين، فأتعقب ظله في ذل أمام الواجهات لمجرد بقشيش، وأنسى إلى الأبد، أنَّه  في مفكرتي كان، ثمة أربع نساء، وهن على التوالي، زوجتي باربارا وابنتاي كاميلا وليثا والخادمة سماثا، ومعهن ، ثمة وظيفة سامية و علاقات ،كانت، في الطابق السادس من شارع بيلغاوس كموظف كبير، وهذا ما يزج بي مكبلا في مقطورة الخرف. وربما حاسة كاميل تصدق، كما يذهب بي الحدس،  وتكشِف له جزءا مماّ أضمر، ويفتر وهج العلاقة القائمة بيننا على الوضوح والانسجام، لا أعلم ذلك يقينا، كي أجزم وأقتنع، هو مجرد تخمين يراودني ويرمي بي في ردهات الشك. في عينيه البُنيَّتين المائلتين إلى السواد، وبينما أخصِف،كذلك، وأرتق عن ما تكشَّف، وقبل الوصول إليه والمثول قبالة كوخه في ارتياح، كنت أقرأ كل شيء، كل شيء، يمكن، أن يخطر على بال كلب صديق، دأبت على أن أكون، على الأقل، أمامَهُ منسجما  ورؤاي، وواضحا وإياه في تمام الوضوح. ما يضيره إن أفصحت، وحكيت له عن كل شيء من غير مركب نقص، من دمية ليثا التي وجدتها منبعجة الصدر، المرمية حاشية الممر،وما حاصرني من ضياع، إلى الصورة التي طفحت بها المرآة. إحساس يتعاظم، وكأني فقدت العزيز كاميل وإلى الأبد، هو مجرد إحساس، فظيع، فقط، استشعرته بطعم الخيانة، ومع ذلك كنت حريصا أحاول، أن أتجاهل، وأمضي بعيدا، عما حدث معي  في الممر، وأتقمص في ذلك أدوارا شتى، من بين الأدوار المقيتة، صار يخيَّلُ لي، أن أكون على قدر من الرزانة والهدوء، وفي الآن، مبتسما، وعلى وقع خطواتي السابقة، لأظهر حازما كما كنت، وأكثر تماسكا وصلابة من غير أن يبدو، أنه حصلَ معي ثمة خطب ما، مفارقا، ليس على ما يرام،  أُخفيه، من أن يفضحه احمرار مكشوف من وجنتي المتوردتين أو من غيمة كآبة تعلو صفاء محياي،وكأن الممر الذي عبرت منه ما يزال مألوفا هو الممر، لم يطرأ عليه  تغيير، قائم، بتفاصيله الكاملة، منْهُ لوحة (شاوتو باورو) الزيتية إلى الأعلى في مكانها، كما في السابق من ناحية اليمين والرجل من صباغتها الزيتية الزرقاء والرمادية يتهيب للارتماء، والدمية مع المرآة وهما تتبادلان الصمت الأبدي والنظرات الخرساء فوق المنصة من الجهة المقابلة من الجدار. الكلب كاميل وهو ينظر إلي وبريق الدهشة يشع من عينيه الزائغتين، لم أرغب في التحدث إليه، كلمة تعْقبُ كلمة، وأعترف في هوان، بأني تخليت عن تعقب دمية ليثا بشكل نهائي، فوْر عثوري عليها ملقاة إلى حاشية الممر، في حالة يصعب معها الوصف على اللسان، وهي التي صارت الوقورة وذات الكبرياء والمكانة بين الجيران والأهل والأحباب، فقط كنت أحدث نفسي عما حدث وترتبك به شفتاي. لكن كاميل وهو يحرك ذيله في إمعان، كان شاردا ومشغولا بما هو أهم، من حديثي الفارغ إليه، كان يسعى من خلالي،كما توقعت، أن يعرف رأي الصغيرة ليثا فيما حصل ! وهل هي في تمام الرضا إن عَلِمت، أم ستصاب بالقهقرة والغبن، وتأخذ منها التعاسة مأخذها ؟ وما جوابها، إن تناهى إلى سمعها بأن أباها أبيروفلانتين هو من أعاد دميتها المبجلة، وقبل أن تستفيق، إلى جوار المرآة، وبدا واثقا وكأنه يعرف الذي جرى بالتدقيق، ولا يحتاج مني إلى أدنى إضافة أو تبرير، والنبس ببنت شفة يتيمة عن السقوط الموجع للدمية الوقورة. تمددت رقعة الخطأ الذي وجدت نفسي محاطا من دوائره، كل دائرة أرى، أني أجتاز، هي فقط، سراب، يفضي إلى دائرة أوسع، إذ لم يعد من سفَر حالم كما كنت، واحتضان الحقيبة البنية، ذات الحزام، إلا من سراب إلى سراب. مع أنني قارئ فطن، يهب ما تلقي به الأفكار الحبلى، من غير مخاض، من بقايا خلاص. أخشى، أن يتسَاوَق كاميل،الكلب، مع النوافذ التي ما تزال مسدلة الستائر، وكذا كوخه الخشبي وأشجار الحديقة، ويعلن انتصاره لفكرة البوح، القذرة، لا يمكن أن أتعقب الأفواه المشرعة على أشدها دوماً، وأنصب نفسي شُرَطي مرور عليها، وأتفرغ للرد، وما بوسعي أيضا أن أُخرس كلبا إن أراد النباح. إن أصبت، فصديقي كاميل، مع احترامي الشديد إليه، مصاب بعمى الألوان، فهو لا يرى الحقيقة إلا كما تبدو له، مع أنها مخادعة، وبالأخص في شقين، بيضاء لا يغلفها سواد أو سوداء لا يغلفها بياض، ولا منزلة بين الاثنتين، إلا فيما نذر، وتلك معضلة، ولا يملك، كعُدة وسلاح من هذا العالم الممتد والفسيح، من معجم  الحروف الأزلي، إلا حرفين يتيمين، ولطرافتهما، هما الهاء والواو، وقادر على الزج والإقحام بهما في كل نازلة، دمية كتلك التي وجدتها مرمية إلى حاشية ممر، من شأنها مثلا أن تبقى في نظره إلى ما لا نهاية، دمية مرمية إلى حاشية ممر، وهذا مكمن الخلل، ومفرق الرؤية، لذا الميل في لباقة، مع القليل، القليل من بهارات حوار ومتبلات بغية الإقناع، ما دام تعوزه الرؤية الواضحة، في جزء كبير منه يعتبر غير ذي نفع. المكان في جوهره يبقى أُسًّا للحقيقة، كيفما كانت الحقيقة هذه، صادقة أو كانت مدعية، مقبولة أو مرفوضة، والذي يعطيها دائما الأهمية! متى كان للمكان من قيمة، كانت معه الحقيقة أيضا التي تعتبر الأساس. إذ لا غرابة، أن تكون دمية فوق منصة، بتلك الرؤية أو بتلك القناعة، التي تولدت لديه، لا يوازيها إلا أن تكون في مصاف الحقائق البيضاء التي لا تشوبها شائبة. اختزال رؤية الأشياء العديدة وضغطها في لونين متقابلين، تقابل الليل والنهار، وهما الأبيض والأسود، أو من خلالهما فقط، دون بقية الألوان، هو عمى في ذاته لا يضاهيه عمى، أو هو عمى يقوده عمى، للأزهار الحمراء والملونة، في الحديقة، كنت ألتمس العذر، كل العذر ! وما الجدوى، أسأل، من اصطفافها إلى بعضها والندى يعلوها في دُنو وتباه، إن كانت منه على مرمى بصر، وهو لا يراها؟ أو يراها، لكن على غير حقيقتها، إما سوداء أو داكنة وتبقعها نُتَف ضائعة من البياض الباهت. ما يفصلني عن كاميل، وأنا أنوء بالحمل الذي صار يثقل كاهلي، هي نفسها المسافة التي كانت تفصلني عن كوخه الخشبي، بشعاع دائري، يقدَّرُ ما بين المتر إلى مترين، بينهما في الوسط، كنت ،كجذع طويل تنخره دودة الخواء المميت، أُداري على غير عادتي حبل الغبن، الذي يلتف رباطه الخشن حول عنقي ويقضم من أنفاسي المتباطئة، وبالأدق كنت بين خيارين، لا ثالث لهما، أحبس للسؤال طعمه العديم، المتدفق والمنساب، بين الفينة والفينة، وبينما الصمت يلقي بمراسيه عميقا، إلا من بعض الجلبة التي كانت من دوي سيارات تمر في شارع أبليلو المحاذي، كنت كمن يراود ضالة متعنتة، أبت ألَّا تكون في وئام وتوافق،إلى جنب صاحبها. أتساءل في ريب، من يكون يا ترى الرجل الذي لطخ بصورته المرآة، وهل هو أبيروفلانتين يوم أن كان شابا يافعا؟، ثم يعقب السؤال سؤال، وسؤال أمر منه، ويتناثر لهيب الأسئلة في المهب كرماد مشتعل، وهل لذاك الأمر علاقة لا أعرف عنها الكثير بدمية الممر.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم