عبد القادر لحميني

(الفصل الثالث)

بيني وبين الباب، ليست ثمة من مسافة، تُذكر، كبيرة، لها من الأهمية ما يجعلها تُخيف، وتثني عن المضي، هي رمية قدم، أو، على الأبعد، هي خطوة كاملة، وفي يسر، اجتاز العتبة، وبعدها وأناقتي وزهوي المعتاد، أراني، أتفكه في رحاب الحديقة خاليا، من أي حقد أو ضغينة، صُحبة الكلب والصديق كاميل، يخصني بحرارة اللقاء، وبقائمتيه الأماميتان يحضنني في عادة الأوفياء، ويقفز ويزاور عني، مرة إلى جهة اليمين وأخرى إلى جهة الشمال، ومع العناق والترحيب اللذان ألقاهما منه والحفاوة، ولسانه المتدلي ولعابه المنساب، أزعم وكأن لاشيء وقع، البتة، أم حدث وكان، ومررت به. لا محاولاتي النجاة من جماعة الغرقى والقارب، الذين هم والعاصفة، نِدّان أبديان، لا يفترقان، في لوحة الفنان المغمور (شاوتو باورو)، التي إلى مشجب، معلقة بخيط دقيق إلى الجدار الأيسر. ولا  كأبله، شارد، مجرد من الثياب، في هيئة دمية، بقماش رث، يحمي عورته من نظرات العابرين، وبمحاذاة مرآة إلى فوق ،منيصة، زجاجية، صغيرة، مركونة إلى عل قريب من الجدار، الأيمن، المقابل، أراد أن يجد ضالته. لكن ما كان يملأ سمعي، ويطفو بين الجدارين المتقابلين من صمم، ويصل إلى علامة أبعد في رأسي، صوت غريب، أظنه بأزيز نحل، أو، صداع، مع المعذرة، أشبه بطنين ذباب . يسمو الصوت، الخفي، هذا، والمباغت، ويرتقي بي منازل ودرجات، ويجعل  وانحسار الأفق، وانتظارات في غير طائل على أرائك الإسفلت الباردة، المعني الأول، أبيروفلانتين، أو المنادى عليه، الأوحد، إذ لا أحد، يرى  معي ما أسمع، أو يسمع معي ما أرى، أو، في حالة صعبة يمكن، أن يكون إلى جانبي رديفا،وقتها هناك، على دابة "بَّاوْرُو" أو (بيرو نوتشي) ذات الشكل الحِماري، المزركش والأنيق، يقتسم معي شطيرة الغياب، الفظيع، الذي بدأت والتوّ، أتخبط وأتعثر في طينه  تلعثما، أرفع شفة متيبسة وجافة، على حين من النداء، وبعد هنيهة أضع شفة أخرى في وحل الكلام، إلى  فلاة مفازة، خضراء، بعيدة عن الأرض القفر، إلى حيث عدت، أسأل في تنكر، وأي الكلمات، تسعْ، مني صدرت، وتبقى قولا يُعتد به ويحسب، وأي منها كان هذيانا طفح به الكيل، وتظهر للمفعم بالفضول، الناظر، إلى مقلتاي، من الوهلة الأولى صِدق علامات الخرف والذهول الذي أصابني. وبدل الانسحاب من الممر، والنزول من فوق المنصة، وتم من لوحة (شاوتو باورو) وترك القارب المصبوغ بما فيه، ومن كل شيء يغري ولا يغري، ورمي كل ذلك جانبا إلى وراء. والتشبث بملهاة حجج، غير مقنعة، للهروب من مواجهة مرآة، كشَّرت ثمة عن مظان عيوب على حلبة مكاشفة. في انكسار وذل، وأعذار أوهن، تارة لأغض الطرف،  صرت إلى الحديقة من الممر أنظر، وأتعلل بما لا يقبل التعليل، ألوذ وخيمة الأحد تجذبني وظلها الذي لا يقبل التسويف والمماطلة، وأصدقاء خُلَّص، زعمت أنهم في انتظاري إلى حين الزوال يغمرون المكان وتتعالى قهقهاتهم وتتوزع، وبعدها ينصرفون، وأخرى بالقبض على فسحة هاربة والمشي، أراها، أحسن، إلى جانب البحر وفوق رمال ذهبية كثفتها مياه المد والجزر، أو الجلوس متوحدا، بباحة مقهى (لافوزييه) في انغماس كلي مع ركام الجرائد المبعثرة، ما دمت لم أبرم موعدا مع أحد. يلحُّ علي النداء مجددا بالمثول والانتظار زيادة، وكأنه يمسك بي عنوة من تلابيب الخوف واللاجدوى،  وصرت مع هذا، مرتهن بالبقاء، سجين في قفص، كائن ضائع في تجاويف الكلام، عليه أن لا ينمحي أو يزول، ويفوِّت عليه سماع الأصوات المبقعة.

 النداء مرة أخرى،، وبصوت  متقطع ورخيم، لا أكاد أتبينه:

ـ..أب ...إير..و..ف..لا..نت ..إين 

أحملق في المرآة كغريب، بينما لا يزال الكل نيام، ويعاوَد النداء، بصوت أقل:

ـ أب ...إير..و..ف..لا..نت ..إين

 مرآة الممر تعرف اسمي؟، ثم أجيب من ردهة الممر بالنفي، لا..أعتقد !!  ..ثمة شخص ما في داخلها، على اطلاع، يعرفني حق المعرفة، ويعاوَد النداء وتسري معه القشعريرة في الدم. لا أعرف إن كان من ينادي هو أبيروفلانتين، هذا المأخوذ بالمجازفة دائما، لا مهرب لي إذن من زحمة الجواب، الذي حُشِرت معه عن أنفي في الزاوية، أو ثمة نفي ذلك النداء المتقطع والمقصود، إلا الإذعان وطأطأة الرأس، شأن ذي سوابق،اعترف، يخشى العقاب. ما دمت لا أملك من أجوبة وافية على ما أدَّعي، تلكأت بعض الشيء، معاتب  الخصم أبيرو فلانتين الذي  في داخلي، الإقرار من أن المرآة صارت فُوهة على مجهول أو نافذة على نفق، لما آلت تحمله أو تهذي به في وجهي، يجعل بيني ومعها الفراق أمرا واقعا وممكنا، أو بالأحرى مع أبيروفلانتين المطارِد، لا بديل لي عن القطيعة ولا خيار، يليق أمامي، سوى ذلك. مع المقاومة الشرسة لما قد يعتاد عليه المرء، من النظر في أعماق المرايا إلى ما يراه، أنيس إلى درجة ما وشبيه له كما يرغب، بدأت تزحف في اتجاهي، فكرة التخلي المقيتة، عن المرآة، شيئا وشيئا، وتنبت الحدائق على حافة اليأس، خطر المرآة يحصل، أو هو حاصل، عندما تزيغ، ويُبدَأُ من خلالها التدقيق، لا للعثور على الشبيه الأمثل، المرادف. بشجاعة، نزلت والهزيمة أُداري، وفي الآن امتطيت رغبة التخلي، التي لا تليق بكبرياء كائن عاقل، أبيروفلانتين العظيم يتخلى عن أبيروفلانتين العظيم، لمجرد أن أحدهما وجد الآخر متلبسا، يطل عليه من خلال المرآة، النافذة المقفلة، كما سابقا ولفترة، من الزمن، كانت فكرة الاقتفاء وتتبع الأثر، مع الدمية المرمية هما الهدف والمرمى البعيد، مع انعدام الأدلة الكافية، الفكرة وطبيعتها في النهاية هي من تقود، لم أسمع برجل يتبع فكرة، هذا من المُسلّم به من ناحية، ! لكن هذا الذي يحدث،  في الحقيقة نحن مجبرين على انتعال الأفكار، في جاذبيتها هي من تحدد لنا الوجهات أو الشرفات التي نشرئب بأعناقنا الطويلة من خلالها، وأراني شئت أم أبيت، أني بين المرآة والدمية، ممتن للحظ في دهائه الماكر، في رسم المسارات المتعرجة بدقة عالية، أن يشي وينتهي  اقتفاء أثر دمية مرمية، منبعجة صدر، إلى مرآة، ويفضي زقاق المرآة بدوره إلى أبيروفلانتين المزعوم، النحس، المطارِد، شيء غامض يحصل،  ما قد لا يستساغ ،أقول، وما لست متيقنا منه كفاية، هو أن تصطبغ فكرة قائمة على التحدي والنكران، وتغير جلدها ، كفكرة الاقتفاء، بمجرد الوصول إلى ما ينافي طموح المقتفي ويلبي من رغباته، وتتلون كحرباء وتختفي وتتلاشى بسخرية فجة وراء العلل، وتحل محلها فكرة، مارقة، وغير مجدية ولا تفضي إلى شيء، كفكرة التخلي. وكأن الجري، في فلسفته،  مع الجدية التي يحظى بها، يسعى لا للعثور أحيانا على شيء، فقط لغياب الوجهة أو لعدم معرفة الشيء والقبلة التي يروم، هي لعبة أوجه زائفة في إدانة أقنعة حقيقية، بدعوى الزيف، في مقابل مرايا ودمى، وكأن المرايا من أجل الدمى. كنت أبيروفلانتين، المحتال، أو كذا، وأبحث، من بين المرايا، عن الأنسب التي لا تحمِل، وتخفي، عن صورتي، ما ينفر منها من ندوب وخدوش، هي مسألة تنافي الصدق، أو كنت محتفيا في نشوة بتردد، صورة، تلقي بها مرآة معتمة في وجه دمية مرمية، مُتجاوَزة، كما عقب سيجارة رديء، من ممر بين جدارين، لتشعرها على الأقل بسخرية بتواجدها،

 المرآة قائلة :

ـ .. أنتِ موجودة أيتها الدمية المرمية، لكن على القارعة.

  كنت، لكن بالنيابة. من الحمق وفي كثير من الأحايين، كنت أرغب في اقتحام الأعماق، العاكسة، في غبطة، مرة، سألت من في المرآة، بعدما تأكدت من خلو المكان، كي لا أُنعت بسوء، من الخادمة سماثا ولا من زوجتي باربارا، رسمت ابتسامة بلهاء، واقتربت مليا، في همس قائلا:

ـ أأنت هو أبيروفلانتين المزعوم ، الذي يطاردني في كل لحظة، من دون أن يغمض له جفن..!!

بنفس الحركة وعلى نفس المنوال أجابني من داخل المرآة، قائلا:

ـ,,أأنت هوأبيرفلانتين المزعوم، الذي يطاردني في كل لحظة ، من دون أن يغمض له جفن..!!

مع الإشارة البذيئة من سبابته، التي ساءت إلي  والكفة التي تقِلُّني، كنت أراه مزعوما ومطارِدا بلا كلل، ذاك الذي هو في داخل المرآة، وأراد على التَّو، بعد استفاقة متأخرة، أن يكون في تفاصيل تسمو به عن كل نعث، أعياه ثقله، قبيح ومتحمّل. لكن وهو من البرزخ، الكفة الموازية، يقاسمني الفهم المعتوه نفسه، من حَوَلِه البائن،  تبًّا كان يراني،أنا هو أبيروفلانتين المزعوم، بالذات، الذي فجأة، استفاق، وأراد أن يثبت أمام المرآة أنه هو صاحب الممر.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم