اتصل الشيخ علي بحبيبة، بواسطة الهاتف الجوال، وأخبرها أنه يريد مقابلتها، وألحّ عليها كي يلتقي بها فوافقت، بشرط أن يزورها في البيت ليلا، لأن الوضع غير آمن، ولا يمكنها أن تلتقيه في حانوته، مخافة الوشاية أو الكشف على علاقتها بالشيخ علي. هذا من ناحية.

من ناحية أخرى ثمة حالة من الفوضى، ولا أحد بإمكانه أن يقرر مصيره، في ظل حالة الفلتان التي تعرفها البلاد.

ـ ثمة حظر تجوّل، والرصاص الطائش ينتشر في الأزقة وفوق السطوح.. وفي كل مكان.

ـ إذن أنت الأقدر على أن تغامر و تأتي

ـ حاضر يا حبيبة، سألتقيك السادسة مساء

ـ (قاطعته) حاتم يكون في ذلك الوقت في اجتماع. قال لي البارحة، أنه سيأتي متأخرا.

ـ سيكون ما أردتَ.

أغلق الهاتف الجوال، وأعاده إلى جيب ميدعته، وارتخى على طرف السرير، يُعيد مشهد طرده من وسط الجمع الذي يقوده البرني، ويحرض فيه الناس على التمرّد والفوضى والجهاد.

وقد علم بعدها، أنّ جمعا آخر في طرف المدينة يقودهم حمدي أستاذ الفلسفة، يرفعون عديد الشعارات من قبيل "شغل، حرية، كرامة وطنية"، وشعارات يسارية، لم تعهدها البلاد. بل الأدهى من ذلك أن تلك الفاجرة ليلى ابنة عائشة، تقف حذوه، وتصيح وتحرّض وتَرفع الأصابع علامات النصر وسط جموع من الرجال. تركت فجيعتها في زوج أمّها، وبيتهم الذي ما زال بعض الناس يتوافدون لتقديم العزاء، وانضمّت إلى الجموع الغاضبة التي خرجت في كل الأحياء والشوارع، منذ أن أحرق صاحب العربة جسده في الساحة العامة. 

ليلى التي خرجت مع من خرج إلى الشوارع، هي في الحقيقة انضمّت إلى حمدي أستاذ الفلسفة المتأثرة بآرائه، بل أكثر من ذلك، هي تحبّه إلى حدّ الجنون.

ربّما لو كنتُ مع هؤلاء لما أهانوني ـ قال الشيخ علي بينه وبين نفسه.

.. عليّ الآن أن ألتقي بحبيبة، وأنبّهها إلى أنّ خبر علاقتنا قد انتشر كالنار في الهشيم. ما دام بعضهم اتهمني بالزنا، هذا يعني أنّ أحدهم كشفني. بل لم يُبْد الجموع استغرابا من التهمة التي نسبها إليّ أحدهم، بما يعني أن الخبر انتشر، وصار الجميع يعرفه.

لم أنتظر حتى السادسة، كنت ملهوفا لأرى حبيبة، وأحذّرها.

في هذه الليلة العصيبة، الكلّ خائف ومرتبك. مؤسسات محروقة، وقتلى وجرحى ومسيرات هنا وهناك، ومداهمات وسرقات، وإشاعات.. وفي كل هذه الفوضى اكتشفوني.

ـ أنتَ إمام المخلوع.. إمام السلطة.. أنت لا تصلح للإمامة أصلا. ماضيك "شاذ" و حاضرك "زنا".

هكذا صدَحَ البرني  أمام الجميع دون أن يُثير كلامه استغراب الحضور، رغم أنّ البرني غادر البلاد منذ سنوات، فكيف علم بالأمر. هل ثمّة من يبلّغه بأخبار البلاد وهو في الخارج؟

هل ثمّة خلايا نائمة، تتبع ذلك التنظيم الذي قام بعملية سليمان، هيّ من كانت تُعلمه بواقع البلاد وأخبار الناس؟

أم أنّ أحد الحضور أعلمه بكلّ تلك التفاصيل فور عودته. سأشكي همّي لحبيبة، وأحذّرها لأنني "زاني"، ولكن لمن سأشكي وقد اتّهمتُ "بالشذوذ".. قال لي بصريح العبارة "ماضيك شذوذ".

عادت بي تلك الجملة إلى تلك الواقعة.. إلى ذلك الجرح.

 كمن فتح جرحا وملأه ملحا. عادت بي تلك الجملة إلى مسام الروح. إلى الطبقات السفلى للوعي. أنا لم أُشفَ من ذلك الجرح، بل كلما اعتقدت أنّ الزمن قام بدوره كمطهّر ومعالج للجرح، كلّما غار الجرح أكثر وصار أكثر قدرة على الإيلام.

بمجرّد أن حلّت الخامسة، حتى كان الشيخ علي منتصبا أمام المرآة يرتّب هندامه ويسوي برنسه.. ويغادر في اتجاه منزل حبيبة.

حين وصل الباب، طرقه طرقا خفيفا وهو يلتفت يمنة ويسرة، مخافة أن ينتبه إليه أحد المارة. كان يسير مهرولا ومرتبكا يمسح الشارع ببصره مخافة اعتداء أو إصابة أو رصاصة طائشة. بدأ الحديث عن قناصة فوق سطوح المنازل، وسيارات إسعاف يُطلق منها الرصاص، وسيارات على وجه الكراء يقودها عناصر من الأمن الرئاسي يقتلون كل من يتحرك أمامهم.

في ظلّ الفوضى والحديث عن هروب أفراد من العائلة المالكة، بعضهم هرب متخفيا في سيارات أو شاحنات، وبعضهم تحت حماية الجيش أو الشرطة. تضاربت الأخبار والأحاديث من هنا وهناك، ولا أحد يملك الحقيقة، عدا أنّ على كل فرد أن يحمي نفسه وعائلته لا غير.

لهذا كان يهرولُ تارة ويتوقّف أخرى كلما مرّت سيارة أو شاحنة، يحاول أن يقترب إلى الجدران قدر الإمكان، فاتحا بصره وبصيرته في كل الاتجاهات. ورغم أنّ الجبّة لا تساعده كثيرا على أن يكون سريعا وخفيفا، إلا أنه تمكّن أن ينعطف إلى الزقاق الضيّق حيث منزلها.

فتحتْ حبيبة الباب وأدخلته بسرعة.

ـ السادسة لم تحن بعد

ـ لا يهم.. المهم أن أراك وأحادثك. ثمة مسألة خطيرة لا بدّ أن تعلميها

ـ أدخل واسترح أولا، وسنتحادث

دخل الشيخ علي إلى غرفة الجلوس. هذه هي المرّة الثانية التي يزور منزل حبيبة، مرّة  حينما حاول أن ينقل إليها إعانة من أحد الأعيان، وتكفّل طفل بأن دلّه على منزلها. فتحت له زاوية من الباب، وأطلّت بحياء. وفور علمها بأنّ الشيخ علي يحمل إعانة بعد وفاة زوجها اعتذرت ورفضت أن تتسلّمها.

ـ مستورة والحمد لله

ـ حبيبة هذه ليست منّة. هذا واجب، والله العظيم لا أحد يعلم بهذا غيري. هذا رجل تقيّ يريد أن ينال أجرا.

ـ بارك الله فيك يا شيخ. سامحني لا أستطيع أن آخذ منك شيئا

ـ هذا قرارك النهائي؟

ـ شكرا.. قلت شكرا وسامحني

ـ على كل حبيبة، إذا احتجت أيّ مساعدة لا تتردّدي في الإتصال بي. نحن إخوة في البلاد وفي الإسلام. أنا قمت بواجبي. بالله عليكِ لا تتردّدي في طلب أي إعانة أو استشارة مهما كان نوعها. أنا في خدمتك، في أي وقت.

ـ بارك الله فيك يا شيخ علي..

ـ العفو.. العفو.. نحن إخوة حبيبة

ـ بارك الله فيك يا شيخ علي.

كانت تلك زيارتي الأولى لها قبل أن تصبح علاقتي بها حميمية وعميقة، أكثر من مجرّد لقاء حميميّ يجمعني بها في ذلك الحانوت القديم.

هذه المرة الأولى التي أدخل منزلها. لم يكن منزلا فخما، ولكنه بسيط وجميل. قاعة الجلوس بها أرائك جميلة رغم أنها قديمة. تلفاز متوسط الحجم فوقه إطار يتوسطه صورة رجل مفتول العضلات بشارب عريض، خمّنتُ أنه زوجها من خلال حكاياتها عنه. أنا قلت خمّنتُ، رغم أنني صادفته في مرات قليلة عندما يأتي إلى الحانوت لقضاء غرض ما. غير أن هذه الصورة المثبّتة في إطار فضيّ متكئ على ظهر التلفاز، كانت صورة قديمة، ربما ألتقطت له في السنوات الأولى من زواجه، أو ربما صورة أخذت له قبل زواجه بسنوات، وظل يحتفظ بها لقيمتها الرمزيّة.

مفروشات من زرابي تقليدية، وطاولة صغيرة الحجم تتوسط القاعة عليها باقة ورد بلاستيكي ومنفضة سجائر، بجانبها علبة سجائر مالبورو، خمّنتُ أنها لابنها حاتم، رغم علمي أن حبيبة تدخّن أيضا، مع أني أشكّ أنها تدخّن بحضور ابنها.

ـ تفضل يا شيخ.. لماذا تقف هكذا شاردا؟

ـ شكرا حبيبة.. في الحقيقة قدومي إلى هنا لسبب مهم وخطير

ـ إن شاء الله خير

ـ خير يا حبيبة.. إن شاء الله خير

وأطلق العنان لعينيه تلحسان جسد حبيبة الممتلئ. كانت ترتدي تنورة قصيرة تكشف جزءا من فخذيها ونهديها، وتركت شعرها ينسدل على كتفيها وظهرها. ربما كانت تستعد للإستحمام قبل موعدها في السادسة مع الحاج علي، ولكن الحاج حلّ منذ الخامسة، وقطع عليها حبل الاستعداد وحفل الزينة.

ما زالت حبيبة مغرية رغم سنوات الحرمان والترمّل وألسنة الناس.

ـ ما زلتِ كما أنتِ جميلة ومُغرية

ـ يا حاج قلنا أنّ هذا الموضوع انتهى.

ـ انتهى.. كيف ينتهي؟ هل يحق لكِ أن تُنهيه بمفردكِ؟

ـ يكفي يا شيخ، الناس صاروا يتكلّمون، وأخاف من الفضيحة

ـ الناس دائما يتكلّمون، ولا شيء يفعلونه غير القدح في أعراض الناس

وبدأ الشيخ علي يقترب من حبيبة ويمرر يده على فخذها، في الوقت الذي أبدت حبيبة ممانعة لسلوك الشيخ علي، وهي في الحقيقة تتصنّع ذلك. هذا وقد نسي الشيخ علي ما أتى من أجله.

ـ يكفي يا شيخ.. رجاء يكفي نحن كبرنا، لم يعد يليق بنا..

ـ كبرنا؟ هههه .. ما زلنا شبابا يا حبيبة، وأنت ما زلتِ كما أنتِ ممتلئة ومغرية، أفضل حتى من بنت العشرين.

واصل الشيخ تمرير يده، وترك لها العنان تمسح فخذيها، وترتفع جهة البطن، حتى أمسك بنهدها وارتمى عليها كالمسعور يلعق رقبتها وشفتيها، دون أن تُبدي حبيبة أي ممانعة، عدا ترديدها جملة "يكفي يا شيخ.. بالله عليك كفّ عن هذا.." لكن الشيخ علي نزع جبّته وواصل ينهش لحمها الغض الآيل للترهّل.

مرّت قشعريرة ساخنة إلى كامل جسد حبيبة، فأمسكت الشيخ من يده وركضت به إلى غرفة النوم، وانهمكا في لعبة تعوداها أكثر من مرّة، حتى أخذهما السرير إلى منتهى اللذة المتعبة. شيخ يعلن فعل الجهاد في امرأة كالفرس الجموح، لم تهدأ لها رغبة، ولم تكف عن طلب المزيد. وكلما ازدادت المتعة زادت حبيبة جمالا وإغراء.

سُمِعَ صوت رصاص متقطّع، ثم صوت قويّ لشيء كُسِرَ، ربما باب المنزل خُلِعَ، بما يُشبه عملية مداهمة. صوت الرصاص توقّف، ولكن الشيخ عليّ ارتبك الارتباك والخوف من مجهول لا يعرف كنهه. فيما سحبت حبيبة الغطاء تحاول أن تستر به جسدها. غير أنّ من خلع الباب هو ابنها حاتم، وانغرس كالسهم في غرفة النوم، حيث الشيخ علي ما زال شبه عار، وأمه ممدّدة على السرير لا يظهر منها غير نصفها الأعلى العاري تماما.

أصابت حاتم حالة من الدهشة. ظل واقفا كصنم قديم، فيما واصل الحاج علي ارتداء ملابسه بطريقة مرتبكة وعاجلة. أما حبيبة فانخرطت في بكاء حارق وهي تخفي وجهها بكفيها، دون أن تتمكّن من تبرير الحالة بالقول أو بالفعل أو حتى بالحركة.

ظل حاتم واجما، يحاول أن يُدخل أجزاء المشهد إلى بوتقة الإبصار، ومنها إلى رفوف العقل ليحلل ما يحدث أمامه، دون جدوى.

أمكن للشيخ علي أن يتسلّل خارج الغرفة، وبعض ثيابه تحت إبطيه. انزلق من بين إبط حاتم وخدّ الباب، وانطلق بما أوتيَ من جهد، يحاول أن يَنفذ بجلده، أمام ذهول حاتم، الذي بقي واجما يحاول أن يستوعب المشهد الذي وجد نفسه قبالته مُكرها.

شعر بدوار وثقل في الرأس، وبعض الضباب يصّاعد من قاع الغرفة ليُحيط بكلّ شيء في الفضاء الضيّق. بدأت الأشياء أمامه تفقد بريقها وتفاصيلها، بفعل ضبابية المشهد. شعر للحظة أنه سيفقد البصر، وأنه لم يعد يرى شيئا. ولكنّ غليانا كثيفا بدأ يشعر به بين جنباته وجمجمته، وبدأت حرارة تخرج من أذنيه وعينيه وفمه. صار ينفث بخارا كخوار ثور مجروح.

لم يعرف الشيخ علي كم من الوقت قضّاه في الركض، حتى رأى حاتم وراءه من بعيد يركض خلفه. زاد في الجهد المبذول، غير أنّ جسده لم يطاوعه، وتضاعفت دقّات قلبه وانهارت قواه.

فيما زاد حاتم من سرعته، وهو يلّوح بسكينه الذي ربّما قتل به أمه حبيبة. الشارع فارغ تقريبا، إلا من بعض السيارات المسرعة أو الدراجات النارية. وحالة من الحزن تصبغ الشوارع والأنهج. الحوانيت مغلقة، ورائحة مطاط مشتعل، تطغى على كلّ الروائح.

انتبه الشيخ علي إلى زقاق ضيّق، بمجرّد أن أدركه حتّى انعطف نحوه، واختفى في الظلام.

واصل حاتم ركضه، ولم ينتبه إلى الشيخ علي حين انزلق إلى الزقاق الضيّق، وتاه في الغياب.

ظلّ الشيخ علي ملتصقا بأحد الأبواب في زاوية مظلمة، حتى انتفخت قدماه، وهو يقف في البرد بنصف ثيابه، والنصف الآخر تحت إبطيه. كدّس تلك الثياب على الأرض وشرع في ارتدائها بارتباك شديد، وهو يدعو الله في سرّه أن لا ينتبه أحد من المارة، أو يخرج أحدهم من منزله القريب، فيرى الشيخ علي يرتدي ملابسه. فضيحة، بكل المقاييس. الرجل يعرفه الجميع، ويحترمه كثير من الناس..

"لا يهم، لنفرض أنّ أحدهم رآني. حتما سيرجع ذلك المشهد إلى حالة الفوضى التي تعيشها البلاد. كل شيء اليوم لا يخضع للقاعدة والانضباط.." قال في نفسه.

أطلّ من كلّ الجهات. حاول أن يمسح المكان المظلم ببصره الضعيف، حتّى تأكّد من خلوّ المكان، وحاول أن يتسلل إلى الشارع الرئيس في اتجاه بيته، بعد أن أكمل ارتداء ملابسه.

ظل يمشي ببطء حينا، وأحيانا يحث الخطى، وقد تهيّأ له أن شخصا ما ينتصب فوق بناية ويوجه فوهة بندقيته إلى صدغه. إلتصق بالحائط، وشرع يدقق النظر في الشيء المقرفص فوق البناية، دون أن يسعفه بصره بأن يتأكّد من شيء ما. شرع في تحريك رأسه ويديه.. ساقه اليمنى، ثم اليسرى. ينحني قليلا إلى الأمام ثم يتراجع، محاولا رصد ردّ فعل الشيء المقرفص فوق البناية.

" إنه لا يتحرك.. لماذا لا يتحرك؟ ههههههه أعتقد أنه ليس شيئا آخر غير صحن هوائيّ لالتقاط القنوات التلفزية. لماذا خُيّل إليّ أنه قنّاص يترصّد جمجمتي. هل هي حالة الخوف؟ أم حالة الفوضى التي تعيشها البلاد؟ أم هو الكبر والخرف؟"

واصل سيره بنفس الارتباك، حتى أدرك الزقاق الضيّق الموصل إلى بيته.

حين أدرك بيته، شرع يفتّش عن المفتاح في جيوبه الخارجية، بعد أن تأكّد أن لا أحد يتبعه.. مرّ على كل الجيوب الموجودة في سرواله وميدعته. حالة الخوف والارتباك، منعته من أن يجد المفتاح بسهولة. توقّف عن الحركة بعض اللحظات. سحب نفسا عميقا. أغمض عينيه برهة، ثم أعاد البحث بتركيز شديد. لقد أيقن أنّ حالة الإرتباك هي التي حالت دونه والمفتاح. أخيرا ها هو. وجد المفتاح في جيب ميدعته بين أوراق كان يدسها هناك. لعلّ خروجه المرتبك من منزل حبيبة هو الذي شوّش أفكاره وأفقده التركيز. أدار المفتاح في القفل بسرعة، ثم دخل وأغلق الباب بإحكام.  وصل الغرفة، وشرع في نزع ملابسه، ثم ألقاها بإهمال على الأرض دون ترتيب، وتمدّد على سريره مرتعدا ومرتبكا. ماذا عساه فعل لحبيبه؟ هل قتلها؟ هل أوغل في توبيخها وسبّها وشتمها فقط ؟ أم إنهال عليها ضربا وركلا على كلّ جزء من جسدها؟ ولكن أنا رأيته يلوّح بسكين. وما أدراني أنه سكين، ربّما كان شيئا آخر، وتصور لي أنه سكين في ذلك الوقت، وأن بصري الضعيف حال دون أن أتبيّن عكس ذلك. هل تخيّلت السكين، مثلما ما تخيّلت القناص فوق سطح تلك البناية، واتضح لاحقا أنه طبق هوائيّ.. ربّما.

على كل، أنا ما الذي يهمني من حبيبة، وابنها العاق؟ أنا نفَذْت بجلدي. وماذا لو لحِق بي حاتم، وسدّد لي عديد الطعنات بسكينه؟ آه السكين.. السكين.. نعم رأيت السكين بيده. أنا متأكد أنه سكين، رأيته يلمع تحت انعكاس أضواء الشوارع، ربما ما رأيته يلمع كالوميض، وبان لي من بعيد، ليس شيئا آخر غير الدماء.. دماء حبيبة.. نعم دماء حبيبة.

يا الله الأكيد أنّه طعن حبيبه أكثر من طعنة في مناطق حساسة من جسدها، إذن.. ما الذي سيحدث الآن؟ هل سيلحق بي إلى هنا، إلى بيتي؟ ليسدّد لي نفس الطعنات بنفس السكين. بمن سألوذ؟ هل أعلم الشرطة؟ هههه شرطة ماذا أيها الأبله؟ البلاد في حالة فوضى، والشرطة نفسها لا قدرة لها على حماية وجودها. ولنفرض أن أحدهم سمع شكايتي وتعاطف معي في محنتي وخوفي من حاتم الذي ربما يصل لقتلي، ماذا سأقول لرجال الأمن؟ هل أقول لهم أني كنت في سرير أمه، وأن أمه هذه عشيقتي منذ سنوات؟ وأن حاتم حين وصل إلى منزلهم وجد أمه عارية في حضني؟ هل هذا تبرير؟ يا ربّ أنقذني من هذه المحنة.

ظل ملقى على ظهره، كخنفساء سوداء في الرماد البارد. بصره يمسح السقف الرمادي المتشقق والملبّد بالغبار، وغاب في وحْل الذاكرة. رأى فيما يرى النائم، أنّ رجلا ضخم الجثّة عريض المنكبين، كثيف الشعر كبدائيّ منحدر من العصور الحجرية، يركض خلفه بسكين من صوّان في غابة ملأى بالأفاعي والحشرات. يحاول الشيخ علي وهو عار تماما، أن يهرب منه. والرجل الضخم يركض خلفه يتدلى منه قضيبه الغليظ بحجم قضيب بغل أو يزيد قليلا. يركض الشيخ علي، وهو يتحسس إليته المترهّلة، يلتفت حينا ليحدّد مكان الرجل الضخم، وطول المسافة التي تفصله عنه. ثم يُلقي بصره إلى الطريق يتحسس به المسالك والثنايا، محاولا أن يتحاشى الثعابين والأفاعي والمطبّات التي صنعتها الطبيعة القاسية في هذه الغابة الكثيفة.

ما زال يركض، والرجل الضخم يركض خلفه ملوّحا بسكينه الحجريّ، وقضيبه يتدلى أمامه يضرب الأرض، ويكسر به النباتات والأشجار الصغيرة. زاد خوف الشيخ وزاد ارتباكه وانهارت قواه. التفت خلفه، لكنه لم ير الهوّة السحيقة التي كانت أمامه. فسط فيها وابتلعته، وغاب في الظلام.

انتفض الشيخ علي من حلمه مرتعد الفرائص. فتح بصره على جسده الملقى على سريره، وهو يتحسس إليته، وقد تصوّر له قضيب ذلك الكائن على الحائط. فرك عينيه بارتباك، فغابت الصورة في غياهب الغبار الذي يغطي ذلك الحائط المتداعي.

ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله.

قفزت إلى ذاكرته صورة ذلك الوحش الذي نهش لحمه، وألقى به إلى ذلك الفراش، حيث ظل ممدّدا على ظهره، والعائلة التي إلتفّت حوله، تغرز في جسده المنهوش سهام الإدانة والتحقير والشفقة. وكل المشاعر المتناقضة والمتضاربة.

حضر شقيقه وتحرشاته. حضرت حبيبة وحاتم وعبد الله الحرس. تداخلت الوجوه وامتزجت الألوان، وضاعت السمات والملامح شيئا فشيئا حتى تلاشت. ولم يبق إلا وجه ذلك الوحش الذي إغتصبه للمرّة الأولى. ظل وجهه يتماوج. يحضر ويغيب. يعلو وينخفض. ويستقرّ مرسوما قبالته على الجدار المقابل.

حاتم ولد حبيبة، ظل هائما وسط شوارع المدينة ملوّحا بسكينه دون أن يعترضه أحد عدا بعض السيارات القليلة المسرعة. كل المدينة ترزح تحت ويل الصدمة بعد هروب الطاغية. الحوانيت والمقاهي كلها مغلقة عدا بعض العجلات التي تحترق هنا وهناك، أو بعض الأفراد يتسللون إلى منازل أو مؤسسات بغرض السرقة والسطو.

مرّ بأهمّ الشوارع باحثا عن الشيخ علي. كان يبحث في البداية، ولكن بعد ذلك يئس وواصل تيَهانه يركض مرة ويسير ببطء أخرى. يتوقف ليلتفت خلفه أو على جانبي الطريق. أحيانا يتكئ على عمود كهرباء أو سيارة رابضة أو يجلس على رصيف، دون أن يلتفت إليه أحد من الناس القلائل الذين يمرون مسرعين خائفين. تمرّ عربة عسكرية أحيانا أو شاحنة تقل جندا أو سيارة إسعاف أو إطفاء تسبقها  صافرتها الحزينة. أرخى جسده إلى الخلف ممدّدا على ظهره كالسلحفاة ومد ذراعيه يمينا ويسارا. سحب سيجارة أشعلها فيما لا تزال السكين ملطخة بالدماء ملتصقة بيده اليمنى كأنها جزء من الجسد. سحب نفسا طويلا وألقى ببصره إلى السماء الملبدة بسحب حزينة رمادية يسأل نفسه لماذا اقترف تلك الجريمة النكراء؟ أيعقل أن يقتل أمه؟

هل ساندته الطبيعة في حزنه، دافعت عن حقّه في أن لا يكون سعيدا، وأن يمرّغ مشاعره في دماء مدنّسة بالخيانة، بل وألقته تلك الطبيعة إلى أرصفة بلد يعيش مخاضا عسيرا، والدماء تسيل هنا وهناك. وكأنّ حاتم أراد أن يساهم بدماء غير تلك الدماء التي من المفترض أن تسيل.

بدأ يحادث نفسه بصوت مسموع:

ما لم أستسغه، أن تكون لأمي علاقة بالشيخ علي. الشيخ علي الإمام التقيّ المُتّزن؟ وإن يكن.. لا.. لا.. هذا زنا.. هذه خيانة لي ولوالدي. أنا لم أقصد قتلها.. حَضَر الشيطان وحضَر الغضب.. لماذا يحصل معي هذا؟

أنا كنت رحيما بها طعنتها طعنة واحدة. لا أعرف إن كانت الطعنة قاتلة أم لا. تركت لها مجالا لتحيا..

فهمتُ الآن لماذا رمى البرني الشيخ علي بالزنا. آه كان يقصد علاقته بأمي. هل هذا مؤكد؟ لا أعرف. ما أعرفه أنني كنت بجانبه كالغبي "الطحّان" لم أفهم ما يدور حولي، والموضوع يتعلّق بأمي..

لولا أن الاجتماع انتهى قبل موعده لمَا حضرتُ إلى بيتنا في ذلك الوقت، ولما رأيت ذلك المشهد الصادم ولبقيتُ عمري كله "طرطورا" يتهامس الناس خلف ظهري، ومن حولي ولا أفقه شيئا.

لو لم يكن السكين معي في طيات ثيابي، ربما لما وجدت ما به أطعنها. كان السكين معي لحماية نفسي من الانقلابيين. مهما يكن، لو انتهى الاجتماع في وقته، لما أمكن لي أن أوجد في ذلك الوقت في بيتنا. في تلك الغرفة.. نفس الغرفة التي كان والدي يقضي فيها أغلب وقته نائما أو يحتسي خمرته المقدّسة. نفس الغرفة التي كانت تجمع والدي بأمي. أمي الزانية التي حتقرت أبي وخانته في قبره.

 ولما رأيتُ أمي عارية والشيخ علي يحاول أن يستر جسده، بعد أن اعتلاها كبغل، حضرت صورة والدي في ذلك البخار الذي خرج ساخنا من قاع الغرفة. رغم أنّ صورته ما زالت معلّقة على جدار من غياب.

أنا لبّيتُ نداء الواجب، حين طُلبَ مني أن ألتحق بالإخوة، للنظر فيما آلت إليه البلاد بعد هروب السيد الرئيس إلى الخارج. كان لا بدّ أن نجد حلا لما آلت إليه الأوضاع، ومما فهمته فإنّ كلمة السرّ مرّت من القيادات إلى القاعدة في كلّ الجهات، من أجل قطع الطريق أمام الانقلابيين.

كان القرار الوحيد الذي اتخذناه، هو استئجار بعض المجرمين والعاطلين، لحرق المحاكم ولجان التنسيق والمكاتب المحلية والجهوية للحزب، بغية التخلّص من الوثائق والأدلّة التي يمكن أن تدين الحزب. هذا أهمّ قرار وقع اتخاذه لإنقاذ البلاد من الانقلابيين والفوضويين، وحتى لا تقع تلك الوثائق بين أيديهم، ليستغلوها ضد الحزب ومناضليه.

كان الاجتماع يسير بشكل عاديّ في أحد منازل مناضلي الحزب، في حيّ شعبي حتى لا تطالنا عيون المتطفلين.

كنا نسمع صوت الرصاص مِن حين إلى آخر دون أن نُعيره أي انتباه، ولكن يبدو أنّ الوشاية فعلت فعلتها، وأصابت إحدى الرصاصات نافذة الغرفة واخترقتها لتستقر في الحائط المقابل. عندها كان لا بد أن نغادر المكان مخافة اقتحامه خاصة وقد تناهى إلى أسماعنا أصوات الغاضبين يقتربون من المكان. لم نكن لنتأكّد أن الجمع يسير نحونا وإلينا، ولكن من باب الحيطة رفعنا الاجتماع وأُمِرنا أن نلزم منازلنا في انتظار التعليمات.

خرجنا مسرعين، كلّ في اتجاه بيته. خرجنا فُرادى، وكلّ في اتجاه مغاير، حتى لا نلفت الانتباه. غير أنني وخلافا لبقية المناضلين، وجدتُ في بيتي حريقا. تمنيتُ لو قُتلتُ برصاصة قناص قبل أن ألج باب باب المنزل.

تمنيت لو وقعتُ بين الأيادي الغاضبة لتنهشني النقمة والفوضى. وتسعد الجماهير الغاضبة بانتصارها على النظام الآيل إلى السقوط.

حينها سأصيح صيحة القتيل، وأنا أمسك بجرحي وأهوي ببطء كتمثال على الرصيف. أظل أضغط على الجرح، والدماء تنبع حارة من بين أصابعي. تسيل بسرعة نحو الفراغات المحفورة في مكعبات الرصيف. تظل الدماء تسيل فوق الرصيف ببطء ساخن، ثمّ تنحدر إلى الطريق. تظلّ تسيل حتى تعبره خائفة. تمرّ سيارة عجلى، فتدهسه ليلفظ أنفاسه بين قطرات الأسفلت المحنط.

لكن هذا لم يحصل. لم تصبني رصاصة قناص، ولم أسقط جريحا أو قتيلا، ولم تدهس سيارة عجلى دمي الممدد على الأسفلت. ما حصل أنّ طعنة عوض الرصاصة أصابتْ أمّي، وأنها هي من سقطت تتخبّط في دمائها، دون أن يسيل الدم فوق السرير. ظل الدم ينزف وظلّت الوسائد والأغطية تمتصّ الدم ولا تشبع.

الآن وأنا ممدّد على قارعة الطريق، وأمي هناك ممدّدة على سريرها. لا شيء يجمعنا عدا الجريمة.

والدي أكله البحر بعد أن استهلكته المومسات والحانات، وأمي نهش لحمها شيخ متصابي، وانتهت إلى ما انتهت إليه.

إذن ما مصيري أنا؟ إلى أين أنا ذاهب؟ كيف سأقضي ما تبقى من حياتي؟ كانت زانية بنت زانية.. لكنها أمي. لم تهتم لأمري وتركت العنان لشهواتها وغرائزها.

كان أبي سكيرا، هذا صحيح. وكان لا يتوانى عن أن يصرّح بمعاشرته للمومسات ونساء الأرصفة المتمعشات بقوت البحارة المنهكين. " بعد كلّ رحلة صيد أعود من الموت إلى الحياة. هل تستكثرون عليّ مجرّد مومس" كثيرا ما يردّد هذا الكلام، بعد أن تمطره أمي بوابل من الأسئلة والاستفسارات عن أمواله التي ينفقها دون حساب، وعن الكلام الذي يقال في شأنه حول علاقاته العديدة بنساء الشوارع والفاسدات.

لكن والدي يترك ما به يسدد ديونه وينفق عليّ وعلى أمي. مع ذلك بدأت الخلافات تشبّ في البيت كحريق، مع كثرة غيابات والدي وكثرة نسائه. صحيح أنها امرأة ولها الحق في أن تشبع حاجاتها، ولكن أن يصل بها الأمر إلى أن تخون والدي وهو في قبره، فهذا غير مقبول. لو طلبت منّي أن تتزوّج لزوّجتها، فأمي ما زالت إمرأة شابة وجميلة ومحل أنظار الطامعين. حقها في الزواج مسألة شرعية. نعم مسألة شرعية. ولكن أن تخون.. أن تخون.. هذا غير مقبول. ومع من؟ مع الشيخ علي؟؟؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.

ها أنا الآن ملقى كجثّة سقطت في حرب خاسرة ونهشتها الكلاب.

الشيخ علي الكلب، طعنني في الظهر غرس فيّ سكينا كبيرا. غرسه في شرفي بإحكام، وقد كنتُ أعتبره قدوتي. أحترمه وأجلّه كوالدي الذي لم أره. والدي الذي مات غرقا وتركني ابن سبع سنوات، لا أفقه شيئا. ذلك العمر يكفي ليتبيّن الطفل وجه والده، يجب أن تكون صورة والده محفورة في الذاكرة، لكن والدي كان يغيب كثيرا، ولا يأتي إلا نادرا. وحتى إذا عاد يأتي ليلا ويظل نائما لمدّة طويلة، كنت أخالها فاقت الشهر. يفيق من سكره ـ كما تقول أمي ـ ليخرج إلى المقهى أو الحانة، ويعود ليلا كعادته مترنحا ثملا لينام من جديد.

الخميس الأسود الذي أفقت فيه من نومي، كانت أصوات النواح والنحيب والنديب تشقّ جدران المنزل، وتخرج إلى الحي لتنتشر فيه كصدى صوت آت من بئر. حالة من الفوضى. نساء ورجال يدخلون ويخرجون، وأنا شارد لا أفهم ما الذي يحصل، ولم أستوعب حينها أن والدي مات.. وما معنى الموت في ذلك السن؟

كانت أمّي ملقاة وسط المنزل تولول بصوت عال وبعض النسوة يمسكن بها لتهدئتها.

حين كبرتُ، عرفتُ لماذا لم يأت الرجال بالنعش، كما يحصل مع أي ميّت، حيث يضعونه أمام منزله، وبعد حضور أغلب الأقارب من الأبناء والإخوة والأعمام والأخوال، وقبل صلاة الظهر أو العصر بقليل، يُدخلون النعش إلى البيت الذي يسجى فيه الميت، ويضعونه فوقه ثم يخرجونه وسط نحيب ونديب وصراخ. لم يُخرجوا أبي من البيت بعد تغسيله وتكفينه. فهمت بعدها أنّ من ابتلعه البحر، سيظل البحر قبره وكفنه وغسله. كنتُ كثيرا ما أتوجّه إلى الشاطئ لأقرأ الفاتحة على روحه.

أبي ليس كغيره، لا قبر له نحج إليه، ونقرأ الفاتحة على روحه. أبي مسجّى في أكبر مقبرة عرفتها البشرية، هو البحر. البحر بعظمته وشدّته وكرمه وملحه أيضا. وربما من البحر دخلت الفوضى إلى البلاد. من البحر دخلت البواخر والأسلحة والجواسيس. 

لذلك منذ وعيتُ، لم أعد آكل السمك لا مشويا ولا مطبوخا. كلّ سمكة أراها، أرى والدي في ملامحها. أتخيّل أنها تلك السمكة قضمت إحدى أصابعه أو نهشت جسده أو أطرافه.

في إحدى ليالي الشتاء البارد، كنت أقف على الشاطئ أمدّ بصري إلى البحر الهائج، أتأمّل موجه العالي وزبده المتطاير على الشاطئ يكسر الموج صمت المكان، ويمرّ على الصخر الصلد، يدخل في تجاويفه فيحدث موسيقى متعددة الأصوات.

بدأت قطرات المطر تُحدث دوائر فوق سطح الموج الغاضب، فيبتلعها ويحملها إلى الشاطئ. واصل المطر هطوله، فأصابتني قشعريرة، فهمت منها أن والدي في تلك اللحظة ربما يشعر بنفس ذلك الإحساس. يشعر بالبرد والخوف. خلعتُ معطفي وألقيته إلى والدي في البحر ليساعده على اتقاء البرد القارس.

لا أعرف لماذا يخطر ببالي أن أزور البحر كلما هطلت الأمطار. ولا أعرف أيضا لماذا ألقي للبحر بمعطفي، وأعود عاريا منّي.

واصل المطر هطوله، وأنا ما زلتُ ملقى على ظهري فوق رصيف في الشارع الرئيس للمدينة الخالية من المارة. في ظل حالة من الخوف والهدوء الحذر.

تناهت إلى سمعي بعض طلقات الرصاص المتقطّع، وتغيّرت رائحة العجلات المطاطية المحترقة بفعل المطر. لملمت جسدي وأطلقته بهدوء وانكسار في اتجاه اللامكان.

يمشي حاتم منكسرا بهدوء، بعد أن ترك سكّينه ملقى على الرصيف. اقترب من النهج المؤدي إلى مؤسسات حكومية، حيث تناهى إلى سمعه لغط وضجيج وهتاف. رأى عن بُعد، بعض الناس يركضون في اتجاهات مختلفة. ورأى النار من بعيد تلتهم بناية المحكمة الابتدائية. وبعض الناس يحملون أغراضا وحواسيب وأشياء أخرى نَهَبوها من مقر المحكمة. بعضها وثائق في صناديق أرشيف لا أحد يعرف محتواها وقيمتها غير حاملها.

ظل حاتم واجِما لا يعرف هل أنّ مناضلي حزبه هم من نفّذوا الأمر بتلك السرعة، أم هي أعمال منفردة لفوضويين ومفسدين ولصوص.

لحظتها قرّر أن يتوجّه إلى حانوت الشيخ علي ليحرقه بدوره انتقاما منه على فعلته تلك. هذا ما يستطيع فعله الآن على الأقلّ. تحسس جيوبه بحثا عن ولاعة، فلم يجدها. بحث في كل مكان في ثيابه، فعثر عليها في علبة السجائر. تحسّسها، ثم أمسك بها ضاغطا عليها، كأنه يمسك بمسدس، ثم قربها من وجهه أكثر. تأكّد من أنها تعمل كعادتها، وأنها لن تخذله عندما يريد إشعال ذلك القن.. حانوت الحاج علي. أو كما أراد أن يسميه "سوبيرات" بعد أن أصلحه وأعاد ترتيب محتوياته.

"سأكسر ذلك الباب وسأجد داخل الحانوت ما به أستعين على إحراق ذلك القنّ من أوراق وصحف وعلب وصناديق من ورق. وسأحرق كبده على رزقه، كما أحرق كبدي. هذا لا يكفي، لكن هذا ما أستطيع فعله".

حين أدرك المكان، كان الحانوت يحترق. أتت النار على كل شيء. تنبعث النار من الباب ومن النوافذ، فلا مجال لمحاولة إطفائها. ترتفع النار فترسم خيالات اشباح في محيط الحانوت، ولا أحد هناك.. الكل مختبئ في انتظار الآتي المخيف.

أما الخفافيش التي تراها في الظلام، فهي من صنع الآني والراهن. فإما من اللصوص أو من الفوضويين أو من المندسّين. هم صنيعة هذه الفوضى التي ألقت بهم دفعة واحدة إلى المشهد، يبحثون عن عالم آخر مغاير. أو هم يدافعون عن الراهن، أو يريدون الإبقاء على الفوضى.

بقي حاتم واقفا يراقب من بعيد، تضيء النار وجهه وتلفحه الحرارة القادمة من اللهيب. ابتسم بمرارة، وتعمّق جرحه، لأنه لم يستطع أن يُشفي غليله حتى بحرق الحانوت. اقترب من الرصيف المقابل، وجلس يراقب ما ترسمه النار من خيالات وسواد على الجدران. أشعل سيجارة وتماهى مع المشهد، وهو يضغط على الولاعة، يراقب رذاذا من ورق محترق يتطاير في الأرجاء. فيما قطرات الماء النازلة من السماء تحاول جاهدة أن تصل إلى الأرض قبل أن تحترق في الهواء على بعد بعض الأمتار من الأرض. قطرات بعضها تتبخّر مباشرة فور ملامستها جدران الحانوت أو الإسمنت القريب منه.

صورة سريالية تتلاقى فيها النار والماء في ليل يخفي بين جنباته مصيرا لا أحد يتوقّع سماته أو ملامحه.

المهدي عثمان

كاتب تونسي/ عضو اتحاد الكتاب التونسيين

يهتم بالشعر والنقد والرواية، وله دراسات عديدة في الصحف والمجلات التونسية والعربية حول الشعر التونسي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم