ماجد سليمان ــ السعودية

أسكن في الطابق العلوي وعيّوش في الطابق الأرضي، في حي السليمانية الصغير، الذي تتلاصق منازل سكانه بشكل شعبي واضح في طريقة بنائه، وطرقاته الضيقة التي تنبعث منها رائحة الحميميّة الأصيلة، أغلب ساكنيه من أصول نجدية خالصة، عدا البعض من مناطق أخرى، كالحجاز وتهامة والأحساء وشمال الجزيرة، وبعض الأسر الفلسطينية، والحضرمية، لم أتغلغل بشكل جيد في بداية حياتنا هنا إلا بعد أشهر قليلة تعرفت فيها على فتون ونسوة أخريات، حين كنت وعيوش نجيء إلى السوق الداخلي وكأننا ملاحقتان، وقتها كان البراء في سفرٍ كعادته.

نسوة كزهور الأرض، كُنَّ يأتين إذا الشفق غاب، حسناوات مليحات لا يصطحبن طفلاً كبقية المتبضّعات، تشغل على الدوام أجَسَادهنّ البهيّة أبصار الحيارى، وكيف يزداد الشيخ صِبَاً حين يلتحم بهنّ بصره، لم تفارق أعينهنَّ الدعجاوات أعين الهائمين، فنظراتهم السخية إليهنَّ لا تغيب.

أبطأت كل ليلة أرى كيف يبدو هدوء الحركة في الشوارع المحيطة بالسوق الداخلي، ساعة أطفأت الحوانيت أضواءها، وعلت أصوات قرقعة الأقفال الحديدية في أبواب شدّت ليأمن الباعة على بضائعهم، وتداخلت أصوات الحضارم الذين ألفنا تمركزهم في أغلب الحوانيت، نِسوة يتناسلن عائدات إلى الحارات القريبة والملاصقة للسوق، أعينٌ تنظر من أبواب الحكايات العتيقة.    

تربطني بالبراء صلة قرابة بعيدة، فأنا وهو نلتقي في الجد السابع، ولكن هذه القرابة وهذا التلاقي في ذلك الجد الهالك على طريق الحجاز في زمن مضى لم تنفع البراء بشربة ماء، فقد كان كل أقربائه يتجنّبونه، بل لم يكونوا حريصين على دعوته إلى مناسباتهم الخاصة والعامة، لأنّه لا يتورّع عن إمطارهم بوابل من الوعظ والاستشهاد والاسترسال في سرد طويل عن محرمات ابتكرها مشائخه.

       البراء وحيد أبوين قرويَّين، ورث من أبيه صعوبة الإنجاب، فقد حبلت به أُمه وهي ابنة تسعٍ وثلاثين، وأبوه ابن أربعٍ وخمسين، إلا أنّها لم تهنأ به، ولم تمطر عليه بأمومتها، فقد ماتت وهي نَفْسَاء، وأظن أن الله رحمها بموتها قبل أن ترى البراء وهو يتقلّب على نار كُرهه للحياة والناس، لقد عانت في فترة النفاس، في زمن كان الطب ليس بهذه القوة والحضور، بعد أن فتكت الآلام بأرحامها وتفشّت في بطنها، وكأنها تمزقها تمزيقاً، فكان الموت ليلتها في طريقه إليها، ليجدوها في الصباح ميتة والبراء رضيع جوارها، ويداه تتحرّكان في الهواء، كما تتحرك الآن مُتوعدا الأعداء غير المرئيين.

       وكأي رضيع يُبلى بفقد أمه، أرضعته زوجة خاله، ورُبِّيَ في بيت خاله أحد البيوت القديمة في الحي، القائم على طريق لا يتجاوز عرضها ستة أمتار، هناك كانت نشأة البراء، وانغماسه في أفكار ليست ببعيد عمّا هي عليه الآن، قيل أنه لم يكن يفكّر في اللعب مع أطفال الحي الذين يُكثرون اللعب قرب باب خاله، حين يخطّون أضلاعاً على الأرض لتكون حدودهم للعب الكرة، أما خاله فهو أحد خطباء ذلك الوقت، والذي عُرف أنه كان على سوء فهم للحياة كما هو البراء الآن، فقد رويت لنا الحكايات الكثيرة أنه كان المغذّي الرئيس لأفكار البراء التي تتلمذ على جدول خاله الحياتي.

       من المرويات التي أكاد اختنق ضحكاً حين تُروى، أن خاله حين تزوج، ذهب في الصباح الباكر من اليوم التالي لحضور درس ديني، تاركاً عروسه وحيدة في البيت، كانوا يرون في تلك الدروس كل شيء، لدرجة جعلتهم في مثابرة ومرابطة في المساجد والجوامع على شكل جماعات متكيّفة مع أفكار بعضها وعلى وفاق تام، وانسياق عجيب خلف من يُمطرونهم بالدروس التي ما فتئت تُفرخ لكره الحياة قدر الجهد المبذول.

       وفي كل مرحلة تجيء نفقد جزءاً من أقاربنا بسبب تعنّت البراء، ومجاهرته بأفكاره الجهادية، فتوالى بتر العلاقة معه كما تتوالى أسنان المنشار في قلب اللّوح حتى ينقسم نصفين، فقد صرت بالكاد أزور أهلي، ولم يكن بتلك السهولة، فما آل إليه البراء من غموض وتغيّب بالأيام عن البيت، جعل أهلي لا يفكرون بأن يأتوا إلي إلا حين تقع الوقائع الكبار التي يكون البراء الطرف الأبرز فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نسوة السوق العتيق، سيرة روائية - نشر خاص 2020م

ماجد سليمان، أديب سعودي

صدر له حتى الآن أكثر من 18 عملاً أدبيَّاً تنوّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

ماجد سليمان

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم