الدافع، كان ولا بد لي أن أعثر على دليل، مهما كلف، في هذا السياق وأنا أقتفي أثر دمية، كنت على خطأ، هي ذي النتيجة، أو النهاية، أو لربما على الأصح الحقيبة السوداء الفارغة، التي خرجت بها من النفق، لا ألوي على شيء، لأني وأنا كذلك، في الآن متعقبا ومقتفيا، وبغض النظر عن السماء التي وافقت وكانت يومها ملبدة بالغيوم ، في استرجاع بطئ لميلاد بدايات الحدث الأليم، وبعيدا عن مسألة الحظ وما قد يوافق وما قد يخطئ، كنت حينها محاصرا بأفكار قبْلية، هجينة، وقعت في قبضتها هي التي كانت المنارة على الشاطئ والبوصلة في البحر، أي كانت المرجع، لا أقول أفكارا سيئة بدرجة كبيرة، حتى يسود الاعتقاد بأني كنت حينها يائسا، أو أفكارا عديمة الجدوى، لم أقل بهذا. ولا أعتقد، ولو من باب المزاح، صدَر عني قدر يسير ولو كلمة يتيمة من ذلك الهراء، ولو في السابق كنت كما الآخرين شغوفا وتسوقني الحمية، أحكم بقسوة أو بالأحرى أحاكم وأُقيم سلوك ونوايا الأفكار، فأصنفها على أساس، سطحي وعميق، انطلاقا من المعابد أو الحانات أو الحفر التي كانت ترتادهاـ هذه الأفكارـ وهي  في فساتينها الغامقة أو الكاشفة تارة أخرى، من حق الأفكار، من دون زعم، أن تكون عارية من غير ثمار ولا أوراق ولا جذور ولا أتربة، كما من حقها أيضا أن تكون مُغلفة وغامضة ومتسترة وراء الحجب، من يسلبها هذا الحق الذي هو لها من غير منازع؟ أفكار كان بعضها يجيء وبعضها يذهب في متوالية كما الأمواج، وبين هذا المد والجزر كنت كساق للخيزران أراود المعنى والعاصفة، أقوم وانحني، هل أنا فعلا موجود كما الآخرين أوزع التحايا والمجاملات متى دعت الحاجة إلى ذلك، أم فقط كائن بالنيابة؟ أم ثمة رجل يحمل من أوصافي وملامحي اسمه هو الآخر أبيروفلانتين، هو الذي يقوم عني تم الوظيفة و العلاقات في الطابق السادس من شارع بيلغاوس كموظف كبير، وهو الذي يقف بدلا عني الآن أمام المرآة في ابتهال وخشوع! أفكار وهبوبها مع الريح في مجملها كانت تدعو إلى الريبة، من حيث هي رذاذا وزبدا وغبارا عالقا. فكرة مع نزاهتها ونقاء سريرتها، أقول، ترتاد ملجأ أو مغارة مظلمة كلما تأتت لها الفرصة، هي فكرة سقيمة من غير حدث كما قد يراها البعض، ولو أن الأفكار التي تسمى سقيمة أو معوجة، مع تكتمي الشديد على هذه العبارة الزلة التي لا تروق، أو هذه الفلتة، هي التي، من تصنع الحدث الفارق أحيانا وتقلب جسد المعادلة رأسا على عقب، فاقتفاء أثر دمية فكرة سقيمة! لا تقبل التصديق، لكنها مع ذلك تبقى فكرة تسلك سبيلا مجهولا، من شأنها في النهاية أن تفضي بعد التقصي المضني إلى دمية أو إلى شيء شبيه إلى الدمية من حيث الخطوط العريضة والخدوش، تماما كسائر الأفكار الَمَعِيبة التي لها بداية وعقدة ونهاية، ويطوى ملف الاقتفاء برمته، ولا سبيل للنبش في شيء بعد ذلك، من شأنه أن يؤرق أو ينغص البال مادام المنطلق الغير المقبول لجل السائرين هو الوصول إلى النهاية، وهو الشيء الذي يجبُّ الحكمة وينافيها، لكن ما وراء الأجمة والغريب، هو أن لا يفضي الأثر إلى المراد، ويبقى الاقتفاء في ذاته لغزا محيرا، على سبيل القياس، ألاّ يُحيل إلى الدمية المرغوبة، المقتفية، وينتهي الطريق برمته شائكا وغامضا، غموض الاقتفاء والأثر والدمية والفكرة العليلة، وبكثير من السماجة يحُول إلى شيء  مخاتل أو أكثر مخاتلة. كنت خاطئا، وهذا اعتراف بمحض الإرادة، لم يلزمني ولم يرغمني عليه أحد من الأفاضل، لا تعنت زوجتي باربارا ولا إلحاح ابنتي الصغيرة ليثا ذات  الست السنوات، ليس لأني لا أعرف الوجهة التي أخذتها الدمية كملاذ آمن للهروب، وهو تحصيل حاصل ومعطى معلوما، لا يخفى على مقتفٍ يتعقب ويرغب في إجلاء الغموض الذي يلف  المُقتفى ويُشمّع بإحكام الأبواب المؤدية إليه، و قد أكون خاطئا كذلك، ربما إلى ضحالة الفعل الذي ركبت صهوته وأنا وكامل قواي، في البحث عنها، لسبب قد يبدو غارقا في التفاهة، لا يقبل كثرة التأويلات ولا المواربات، لأن الدمية في أصلها لا تملك من قرار، يجعلها تفعل، أي، أن تختفي وتغيب بمفردها عن الأنظار، إلا بفعل فاعل حذق، سواء ذكرا كان ـ هذا الحذق ـ أو أنثى. وثانيا، حتى وإن تأتت لها الإرادة وشاءت فعل الغياب، وهو مجرد تقدير محتمل بعيد، ليس لها من قدمين سليمتين تجعلانها تمشي وتغادر وتخلع وراءها من أثر ظاهر، يمكن تلمس خطواتها على يسر أو تتبعها من خلاله. إلى الحديقة الخلفية راحت، كما تخيلتها في الوهلة الأولى،وبين العشب والممرات، تجلس في اطمئنان على راحتها أسفل شجرة المشمش، واضعة رجلها  البلاستيكية البلقاء على الرجل الأخرى، كما يحلو لزوجتي باربارا مع سيجارتها أو مع قهوتها ساعات الصحو وصفو المزاج، وفي مرتبة أقل، ظننتها وهي تنزل مع الدرج، درجة درجة، إلى القبو المظلم على مهل، مستعينة بالمصباح اليدوي والحنق يعلو محياها خوفا من مهاجمة صراصير أو جرذان أو هي تطرد أعشاش العناكب عن وجهها النحيف، كما تفعل الخادمة سماثا عندما ترغب في جلب بعض الأغراض والأمتعة المركونة هناك، مع ما يصحب ذلك من عويل أو شيء أشبه بالعويل أو الصراخ المخجل، لكن مع هذين الاحتمالين الغريبين والمدهشين، فعلا، أقصد احتمال (الذهاب إلى الحديقة) مع احتمال(النزول إلى القبو المظلم)، للأسف، غاب عني، لسبب ما، أو أجلت عنها، فكرة اللعب ولم تراودني كاحتمال قاس، ورأيته نقصانا من قيمتها كدمية وقورة وذات كبرياء ومكانة، لأن الدمى في اعتقادي جدية في كل تصرفاتها ولا يمكنها اللعب. كان احتمال  (نفي اللعب) عن الدمية المفقودة بمثابة الأداة أو المعول الذي هدم صرح الاحتمالين  السابقين وذهب بهما أدراج الرياح، ربما لما للعب من علاقة كبيرة بالذهاب والنزول وأشياء أخرى مشابهة، بقي أمامي احتمال أخير وأنصرف، في داخلي كنت منجذبا للغاية لمعانقة فسحة، هذا ما كنت أروم وأودُّ القيام به قبل الاستيقاظ، مشي على الرمال بمحاذاة  البحر على شاطئ "الأوسكا" أو الجلوس بباحة مقهى (لافوزييه) مع الركام المتناثر للجرائد، أتحرر على الأقل من قبضة الأيام الست وتبعاتها، ويوم الأحد مع القيمة التي يحظى بها، يحفل بالمفارقات الغريبة دائما أو بالأشياء الغير المنتظرة، في الخلفية يبقى زمنا سائبا ومراوغا وذكيا بامتياز، لا كما بقية الأيام التي تمشي بمفردها في انصياع كامل على سكة الروتين، وكل الدقائق التي تمضي منه تضيع، لا تعوض بقيمة، وسرعان ما يبدأ في التلاشي والاضمحلال توًّا مع أول إطلالة للشمس من على أكتاف الأسوار، إنه بقياس الشهر الغير المكتمل أو فبراير الأسبوع، ولم أتوقع أن الاحتمال الخجول الذي أدفع به إلى الخارج من داخل قفص الأحد كي أنعم بقليل من التيه والشرود ، أو بالأحرى الاحتمال الذي يدفع بذاته  إلى داخل القفص، هو الذي ينتصر في النهاية على الاحتمالين السابقين، أي، احتمال (السقوط) ! في المحصلة هي لعبة قذرة للاحتمالات والخيارات الضائعة. هذا الاحتمال الذي كان يقف في نهاية الطابور غير مبالٍ لما يعبأُ به المكان أو يؤجج من شعلته. وبالفعل كما لم يكن متوقعا، كانت الدمية التي لا يليق بعظمتها اللعب والذهاب إلى الحديقة كالأستاذة باربارا مع السيجارة والقهوة أو النزول إلى القبو كالخادمة سماثا وكل طيش أو نزق يدنس سمعتها من فعل الصبية الصغار، ملقاة في حاشية الممر !، محشوة في فستانها الأبيض، لا يبدو منها ما يشير إلى وجودها في أسفل الثوب، باستثناء أنامل قدميها الصغيرتين المتضمختان بالدم أو بشيء قاني، به احمرار، قريب في لونه من الدم، وفوقها فراغ صغير، لم أستطع مجاراته وأنا أقلب النظر متحسرا، ذات اليمين وذات الشمال، إلى فوق المنصة أو "المنيصة" الزجاجية التي كانت تؤويها إلى جوار المرآة. مع هذا الحدث الفارق، حدث سقوط دمية، إلى غاية الأمس القريب جدا، كانت على مرتبة وعلو شأن، إلى جانب المرآة ذات الإطار واللوحة الزيتية من الجدار المقابل من الممر. أمر ومحتواه، وللغرابة محزن حقا، لسبب،  قد أجد له جرحا دفينا أو مكانا شاغرا في الأعماق، الألفة ربما أو التوافق على سبيل المثال، أو ربما شيء آخر، لا أجد له بالمناسبة التفسير الملائم، لكن مع  ذلك الحزن الخفيف وعودته من قعر النسيان، وللمفارقة، كنت سعيدا كذلك ومنتشيا للغاية، ولا يخلو انتشاء من حزن البتة، ولا بد وأن يحفظ له بين ثناياه من بقية، كما لا يخلو حزن من انتشاء، هذه طبيعة الأشياء، مرد ذلك الانتشاء أو ذلك الفرح أو الشيء الغامض الذي عبر محلقا ومرفرفا في سماء الصدر، لا يعود لحدث إيجاد، الدمية المفقودة، أو ما نجم تبعا لذلك من قراءات أو تكهنات بعضها صادق وبعضها الآخر مريب، بل، وأنا ألوي عائدا، كما شأن المنهزمين، صفر اليدين، من غابة الاحتمالات الشائكة والخيارات الممكنة، أمام المرآة، بكثير من الفضل والامتنان أرجعه إلى الصغيرة ليثا، ابنتي، الساحرة ليثا !، التي من جانبها احتفت بالدمية على نحو مذهل، إذ نسجت لها كرسيا على قدِّ خاصرتها، بخيوط لعِبٍ ملونة ومتداخلة، طريقة لف وإعادة لف، وربما الحدس يمشي بي بعيدا، أنها التي من أصّرت بعنادها وصراخها لأن تكون الدمية فوق المنصة إلى جوار المرآة من الممر المفتوح على باب الحديقة، أيمكن التغاضي عن هذا؟ أو كذا التقليل من شأنه واعتباره جنونا عاديا من طفلة مشاكسة، لا يُحمد، ولا يستوجب التوقف، الصغار وحدهم، في العادة، هم، من يصنعون الكبار، ويجعلون منهم تماثيل أو آلهة، وليس العكس، ليثا الساحرة الصغيرة، من فرط الحب، من لاشيء، من دمية مرمية صنعت تمثالا لأبيروفلانتين، أبوها، عرفت هي ذلك أم لم تعرفه، وجعلت منه ذا مكانة أو هكذا على الأقل، أب بكرسي، إلى جوار المرآة، وكأنها مع سنها الذي لم يتعدى بعد السادسة من العمر، والشغب  التي تحدثه وهي تبعثر الأشياء، وتعيد ترتيبها وفق منطق حاد وصعب، تدرك أن دميتها في حاجة كما بقية البشر إلى مكان، يُعلي من شأنها، كما تَخَيلَتْ، أو يزيدها بهاء ونضارة ـ كما بدا لها ـ فوق منصة، ضدا على الصُّدف،ربما.

عبد القادر لحميني: كاتب من المغرب

lahminiabdelkader@gmail.com

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم