ترجمة: خالد الجبيلي

كما قلت، كانت تدور هذه المناقشات في أغلب الأحيان في الحديقة. وإذا توفر لنا قدر من المال كنت أجلب له بضع زجاجات من البيرة. ولم يكن يحب سوى البيرة والفودكا. وكنا بين الحين والآخر ندخل في حديث مع أحد الجيران السوريين، الذي كان يطل علينا من نافذة في الطابق الثاني. كم كان هؤلاء السوريون أناساً طيبين وودّيين ودمثين؛ وكم كانت نساؤهم جميلات وفاتنات. وخيلّ للجميع في بادئ الأمر أن مونا، بخصلات شعرها السوداء، سورية. غير أننا علمنا بعد ذلك، أن صاحبة بيتنا لم تكن تحب السوريين وتكنّ لهم مشاعر الكراهية. فقد كانوا بالنسبة لها، حثالة المجتمع وذلك لأنهم كانوا أولاً، سمر البشرة، وثانياً، لأنهم يتكلمون لغة لا يفهمها أحد غيرهم. وقالت لنا إن الاهتمام الذي كنا نوليهم إياه يثير فزعها، وأنها واثقة من أننا نمتلك الإحساس الكافي الذي يجعلنا لا ندعوهم إلى بيتنا. وفي النهاية، قالت باختصار إنها تدير نزلاً "محترماً"

ابتلعتُ ملاحظاتها على مضض، لأني كنت دائماً أضع نصب عيني أنني قد لا أتمكن من دفع الأجرة في موعدها. وصرفتها باعتبارها عجوزاً شمطاء، ساحرة، غريبة الأطوار، والتي مهما قلت عنها فلن أوفيها حقها. واحتطت للأمر بأن نبهت مونا ألاّ تترك باب دارنا دون إغلاق بالقفل عندما لا نكون في البيت. فنظرة واحدة منها إلى مخطوطاتي ويقضى علينا.

ثم نشبت مشاجرة حادة بين مونا والعجوز الشمطاء، صاحبة البيت السليطة اللسان. فبينما كانت مونا تتحدّث مع جارتها السورية الجميلة، اندفعت صاحبة البيت إلى الحديقة وأخذت تكيل الشتائم إلى المرأة السورية. وبعد أن تملكّها الغضب، راحت مونا تشتم العجوز الشمطاء، فيما أخذت هذه الأخيرة تنعتها بأقذع وأغرب الكلمات، وقالت لها إنها هي سورية أيضاً، وعاهرة، وهذا وذاك. وكادت تنتهي المشاجرة بمبارزة في شدّ الشعر.

الخلاصة أنها وجهت إلينا إنذاراً بالإخلاء بعد أسبوع. وبما أننا كنا ننوي أن نترك البيت، لم نشعر بالحزن. وبدأت تعتمل في نفسي فكرة واحدة، وهي كيف يمكنني أن أنتقم من هذه الكلبة العجوز؟ وكان ستانلي هو الذي دلّني إلى الطريقة. فبما أننا كنا سنخلي البيت إلى غير رجعة، فلماذا لا ننتقم منها بطريقة ملوكية؟" حسناً" قلت، "لكن كيف؟" وكان الأمر برأيه في غاية البساطة. وهو أن نحضر الطفلين في اليوم الأخير، ويعطي كل واحد منهما زجاجة من الصلصة والخردل، وشريط ورقي لاصطياد الذباب، وزجاجة حبر، وطحين، كلّ شيء يمكن أن يساعد المرء في القيام بعمل شيطاني. "دعهما يفعلان ما يحلو لهما"، قال. "ما رأيك في هذا؟" ثم أردف: " إن الأولاد يحبون أن يخربّوا كل شيء".

قلت في نفسي يا لها من فكرة رائعة. وقلت "سأساعدهما أنا بنفسي، فعندما يتعلق الأمر بالقيام بعمل قذر، فأنا مخرّب جيد إلى حدّ ما"..

"احزم أشياءك"، قال ستانلي. "ماذا عندك لتأخذه معك؟"

"حقيبتان وآلة كاتبة، هذا كل ما في الأمر".

هيا إذن. ليبدأ الولدان عملهما". وأزاح الأريكة ووضعها أمام الباب، لكي لا يتمكن أحد من الدخول. وفيما أخذت مونا تحزم الحقائب، رحت أعبث بالأشياء في الخزانة. وكان الصبيان يتطلعان بلهفة إلى هذا الحدث. فقد بدءا عملهما بروح من الانتقام. وخلال عشر دقائق أتى الولدان على الأخضر واليابس. فقد لُطّخ كل شيء يمكن تلطّيخه بالصلصة، بالخلّ، بالخردل، بالطحين، بالبيض المكسور. وألصقا على الكراسي أوراق اصطياد الذباب، ونثرا القمامة فوق الأرضية، وأخذا يهرسانها بكعوب أحذيتهما. والأجمل من كل ذلك، التلطيخ بالحبر. إذ أخذا يرشانه على الجدران، والسجاجيد والمرايا. وعملا من ورق التواليت أكاليل يلفان بها قطع الأثاث الملطّخة.

أما أنا وستانلي، فقد وقفنا على المنضدة ورحنا نزخرف السقف بالصلصة والخردل، وبالطحين والحبوب التي جعلناها معجوناً سميكاً. ومزقنا الشراشف وأغطية السرير بالسكاكين والمقص. وبسكين المطبخ الكبيرة، أخذنا نحدث فجوات في الأريكة ونخرج منها كتلاً ضخمة من شعر الحصان. وحول مقعد المرحاض، دهنا قليلاً من مربى البرتقال والعسل الفاسدين. وقلبنا كل شيء يمكن أن يقلب رأسا على عقب، وفككناه، وفصلناه أو قطعناه إربا إربا. وقد تم كل شيء بثوران هادئ. وتركت القطعة الأخيرة التي كنا سنخرّبها للولدين لكي يفعلا ذلك، أي تمزيق الكتاب المقدس. فقد غطساه أولاً في حوض الحمام، ثم لطخّاه بالمراهم القذرة، ثم مزقا بعض الصفحات وبعثراها حول الغرفة. ثم وضعنا ما تبقى من الكتاب في قفص للعصافير وعلقّناه في الثريا. أما الثريات، فقد لويناها وجعلناها في أشكال يستحيل تمييزها. ولم يكن لدينا الوقت لكي يغتسل الطفلان، بل مسحناهما بأفضل ما يمكننا بالشراشف الممزقة. كانا في قمة السعادة والبهجة. ياله من عمل! فلن تتاح لهما فرصة أخرى ليفعلا ذلك... وبعد أن انتهينا من عملنا هذا، بدأنا نتشاور. وأجلس ستانلي الطفلين على ركبتيه، وأخذ يعطيهما بجدية تعليمات عما يجب أن يفعلاه. كان عليهما أن يغادرا المنزل أولاً، من الباب الخلفي. وأن يسيرا بهدوء وتمهل حتى البوابة الأمامية، وما أن يصلا إلى نهاية الشارع حتى يسرعا الخطى، ثم يركضان بأسرع ما يمكنهما وأن ينتظرانا عند ناصية الشارع. أما نحن، فإذا صادفنا العجوز الشمطاء ذات الأنف الأزرق، فسنسلمها المفاتيح ونودعها بلطف. إذ سيكون أمامها عمل شاق لكي تفتح الباب، بافتراض أنها ارتابت في أن هناك شيئاً على غير ما يرام، نكون قد لحقنا بالطفلين واستقللنا سيارة أجرة.

سار كل شيء حسب الخطة. لم تظهر السيدة العجوز. وكنت أحمل حقيبة، ويحمل ستانلي الحقيبة الأخرى، وكانت مونا تحمل الآلة الكاتبة. وعند الناصية، كان الطفلان بانتظارنا، فرحين. أخذنا سيارة أجرة وانطلقنا إلى بيت ستانلي.

من صفحة المترجم خالد الجبيلي على الفيسبوك.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم