زارا صالح

قاربت الساعة السابعة صباحاً حيث موعد الاجتماع الصباحي اليومي للفرقة، على ما يبدو أن هذا اليوم غير عادي، فهول نبأ الموت أثر على الجميع وألقى بظلاله المتخمة بالصدمة على الفضاء المحيط. الصباح يجر أذياله بتؤدة، ترتسم على الوجوه علامات القلق والوجل من القادم الغامض بعد الارتكان للقدر الصلد كالحجر عبر عقود. كان الاضطراب قد سيطر على النفوس... والقلق من القادم مسد بكفيه على مخيلة شعبٍ بأكمله.

الأنظار كانت مصوبة نحو اللواء قائد الفرقة الذي يبدو عليه التوجس والاضطراب أيضا؛ فحين تقدم نحو الميكرفون حاول أن يتماسك أمامنا ثم أخرج ورقة صفراء من جيب بدلته العسكرية بصعوبة؛ رجفة يديه أظهرت زيف ما أبداه من تماسك... كل ذلك ما هو إلا تظاهر وكذب، فتحها وانفجر ببكاء مدوٍّ -ربما كان تمثيلياً- وهو يعلن نبأ وفاة الرئيس، أخرج معها أنفاسه المحتقنة ليعطي لنفسه فرصة جديدة لاستعادة الثقة.  الصمت أطبق على الأنفاس... معظمنا ظل يراقب رقصة الورقة التي بين يديه... حاول مرة ثانية أن ينطق اسم القائد لكن على أنه "الفقيد المتوفى"... حنجرته بدت مبحوحة مشوشةً فخلط الأسماء والكلمات التي يقرأها ببعضها البعض؛ ليصبح الأب الخالد ابناً؛ والابن أباً، والسلف خلفاً والخلف سلفاً تكررت مرات، لينهار الرجل في نهاية المطاف خوفاً وحزناً... مشهد مسرحي عجيب؛ شعرنا أن الرئيس الذي أعلن عن وفاته ما يزال حياً يراقبه وأعين المخابرات مصوّبة نحوه في انتظار المصير المحتوم.

بعد رحلة طويلة وصل أخيراً ليردد الشعار الروتيني... وإكمال هذه الوصلة بتخليد القائد الأبدي وإحيائه في النفوس.

 يا له من مشهد متوتر عندما نطق "قائدنا إلى الأبد" كان صدى اسمين مختلفين يتردد في طبلة أذنه؛ لقد كرر اللواء النطق ليبعد عن نفسه تهمة مرتكباً خطأ قد يكلفه حياته، فكرر الشعار ثانية في انتظار اسم وحيد تربى ودجّن عليه.

القلق والخوف من القادم جعلاه لا يميز الأصوات الصداحة الخارجة من تلك الأفواه الكئيبة والخائفة فترك الشعار يرسم أبديته تزاوجاً بين الأب والابن وغادر الاجتماع مطاطئ الرأس صوب غرفته التي احتضنت فزعه ورعبه من هول الحدث.

 الجميع عاد إلى مواقعهم لاستكمال مسيرة الحداد العام وما رافقه من حزن وخوف، الكثير منهم اختلطت عليه المشاعر، فهم لا يكادون يصدقون النبأ، تحت وقع فكرة أن القائد الخالد لا يموت كأي منهم.

مع مجموعة الكتيبة الطبية إلى المهجع عاد جوان إبراهيم؛ وهو الطبيب الذي يخدم إلزاميّا في هذه الفرقة برفقة مجموعة من الأطباء المجندين، لم يكن الموقف مفاجئا بالنسبة لجوان وزميله أحمد ابن مدينة التل القريبة من دمشق.

منذ عصر أمس انقطعت قنوات التلفزيون عن بث برامجها المعتادة حيث بدأت تنشر مقاطع من الذكر الحكيم حداداً، حقاً ارتبكت المشاعر، ما بين فرح وسعادة مكبوتين وحزن ظاهر يكاد يبدو حقيقياً، نعم سنوات عاش الناس مسحًا دماغيّا نفسانيّا أطبق بحقهم على العقول والقلوب عبر المنظومة الإعلامية.

لا شيء واضح في هذه الأثناء؛ الارتباك والحيرة هما المعلم الأهم في التعبير عن أحوال الكتلة البشرية هناك.

ضباط ومجندون، قادة ومتبوعون! لثد لزم الجميع غرفهم ومهاجعهم؛ فهو الخيار أمثل لتلقي الصدمة والتعبير عن تفاعلهم مع الخبر بصمت.

شُلّت الحركة، وأصبحت الفرقة نائمة بسكونها، توقفت الحياة وألغيت النشاطات والبرامج جميعها، حتى الطعام لم يوزّع على المهاجع لأن أحدًا لم يتجرأ أن يبادر للقيام بأيّ خطوة قد توحي بأن الخبر لم يؤثر فيه

كانت خطوة صعبة جداً أن تقوم بأيّ حركة خارج المألوف... وفي الوقت نفسه لم تصدر أي تعليمات بشأن ذلك، فلقد كان "الرقيب الذاتي" لكل منهم شديد الصحوة ليرسم لهم قواعد سلوكهم في أثناء ذلك. وكانت النتيجة وحدة التعبير في حضرة الموت والغياب العظيم.

قبل مغيب الشمس أصرّ أحمد على زميله جوان إبراهيم على الخروج من الغرفة وزيارة صديق لهم من الملازمين المجندين، ولاسيّما أنهم ملّوا من أجواء الصمت والحزن السائدة داخلا.

خرجا معاً وعلى ما يبدو أن الفرقة هي التي ماتت، فلا يوجد أي مظهر يوحي بالحياة، وكأن هناك عناصر وأفرادا بمثابة جثث أو أشلاء لا روح فيها. رؤوس تبحث عن ملاذ لتختفي خوفاً، وآخرون يغطونها بأيديهم وبعضهم ممدّد على الأرض ليكون أكثر أمناً وللتعبير عن مدى تأثره. لم يتجرأ أحد على الحديث أو الدردشة مع الآخر، كان الحوار سكوناً.

لم تمض لحظات على مغادرة الطبيبين الكتيبة الطبية مشياً، حتى حدث ما هو غير متوقع. فعندما وصلا سيراً إلى جمع من المجندين والمساعدين المتطوعين، كانوا ممددين ومنهم من هو جالس أمام رصيف المهجع، وعلى الرغم من تحاشيهم النظر إليهم إلا أنهم توقفوا فجأة على صوت أحدهم وهو ينادي غضباً:

هيه أنتم... كيف تسيرون هكذا؟  ألا تعلمون ما الذي حدث!!!! لقد فقدنا القائد وأنتم تخرجون للتنزه... اتصلوا بضابط الأمن فورا... أنت يا عسكري.

حار الاثنان معاً وتجمّدا من وقع الصدمة وما قد يحدث بعدها. لقد وقعا في شرك ذلك الشخص، تمتما ببضع كلمات غير مفهومة ليبررا سبب خروجهما بزيارة الكتيبة المجاورة بقصد العمل فحسب. لكن كل ذلك لم يبرر فعلتهما... حيث أصبح أغلب الجالسين هناك يوزعون الوطنيات، ويوبخونهما، وكأنهم كانوا في انتظار هكذا لحظة من التحرر للكلام، ومجرد الكلام لكسر حاجز الصمت المهيمن ذاك، فكانت الوليمة.

من دون سؤال أو تحقيق وبأمر من ضابط الكتيبة اقتيدا إلى ضابط الأمن الذي حولهما في دوره إلى سجن الفرقة فوراً فالتوقيت ليس مناسباً، ومن يأبه لهما والرئيس قد مات؟!.

أمضيا تلك الليلة في الغرفة الصغيرة المعتمة والحارة وهما يصارعان الهواجس حول ما قد ينتظرهما... كان البق شريكاً في هذه اللوحة التراجيدية، فلم يغفُ لهم جفن حتى بزوغ الفجر

حينما سمعا صوت العسكري المناوب وهو يكيل الشتائم بحقهما ويطلب منهما المغادرة فوراً لحضور الاجتماع الصباحي. تنفسا الصعداء معًا فقد فرج الهم وزال الكرب عنهما، بعد أن ذهب بهما الخيال بعيداً، وتملكهما يقين بأن الخروج من هذه الغرفة المظلمة لن يكون قريباً قطّ، وقد يقبعان هناك لأمد غير محدد. لكن في تلك اللحظة أصبح الأمل قائماً وقد تكون رحمة العفو الذي يتحول إلى عطاء ومنح من "القائد" حياً أو ميتاً ليكون هو ولي النعم وراسم القدر في مملكة الخوف أينما كان.

امتزجت مشاعر الفرحة لديهما بالخوف والريبة بما يلي ذلك من محاكمة بذريعة تجاوز خطوط حمراء رسمت للسوريين ليسيروا وفقها.

بعد انتهاء الاجتماع عادا معا إلى قسم الكتيبة الطبية بخُفَّي حنين، قلقي النظرات، خافقي القلب نتيجة ارتفاع منسوب الأدرينالين خشية استدعائهما مرة أخرى.

-٢-

لم يكن الملازم المجند جوان إبراهيم سعيداً بنتيجة فرزه العسكري إلى الفرقة السابعة عشرة القريبة من مدينة الرستن (بين مدينتي حماة و حمص) وكان قد أمضى أربعة أشهر صعبة من دورة الأغرار في مدرسة المشاة بالمسلمية -شمال حلب- ولاسيّما أن المسافة ورحلة العذاب ستكون أطول مابين القامشلي وحمص هذه المرة، تاركاً عائلته  صغيرتيه بهار وباران وزوجته جالا التي ستتحمل مسؤوليتهما وحنين البعد معًا.

غادر جوان مدرسة المشاة حاملاً معه فقط الاسم ورقم الفرقة التي ينبغي عليه الالتحاق بها فوراً، ولكونه لا يعلم العنوان فقد قرر زيارة صديقه العفريني "جومرد" المقيم في حلب علّه يجد لديه جواباً عن موقع فرقته بدقة، كما ستكون فرصة سعيدة ليلتقي به مجددًا بعد سنوات من الفراق.

بقي في ضيافة جومرد لعدة ساعات وعندما قرر المغادرة، أصر صديقه أن يظل عنده وينام الليلة ثم يتوجه في الصباح الباكر صوب حمص حيث يستطيع التوجه من هناك عبر وسائط النقل إلى مكان الفرقة السابعة عشرة.

كان الكراج في مدينة حمص يعج بالحافلات والركاب. كان سهلاً على جوان أن يجد نفسه على كرسي الحافلة الأمامي لأن الدلالين أكثر من الركاب أحيانا. وهناك كما العادة تصدح أصوات الموسيقا والأغاني الشعبية ذات الطابع الكراجي- الشعبي ليرتد صداها العالي لمسافات بعيدة جداً خارج الحافلة، كل هذا لم يؤثر على الصخب الذي تعيشه روحه؛ وبقي معزولاً عن عالمه الخارجي، كان يفكر جلياً في موقع الفرز الجديد، وكذلك راودته الأفكار عن عائلته التي تركها خلفه بعيداً.

لم تدم الرحلة أكثر من عشرين دقيقة بعد انطلاقه من كراج حمص، فقد وجد نفسه أمام الفرقة بعد أن استفسر من السائق كي ينزله هناك حيث الطريق العام بين مدينة الرستن وبلدة صوران.

وحال وطئت قدماه أرض الفرقة. أخرج الورقة للمجند حاجب البوابة الرئيسية ثم سأله عن طريق الكتيبة الطبية. عندما وصل هناك انفرجت أساريره لحظة معرفته بأن زملاء له من دورة الأغرار كانوا قد سبقوه إليها، لكنهم استغربوا جداً عندما شاهدوه بلباسه المدني؛ ولم يحمل معه حتى حقيبة يده.

كانت الكتيبة الطبية مستنفرة في ذلك اليوم؛ فقد شاءت الصدف أن قائد الفرقة طلب اللقاء بالملازمين الأطباء المفرزين حديثاً، ومن سوء حظ جوان أنّه وصل في ذلك اليوم.

توجه مع زملائه نحو مركز القيادة حيث مكتب اللواء وعندما دخلوا غرفته بعد دقائق من الانتظار أمام المحرس، لتكون ردة الفعل الأولى قوية وملفتة. فقد لمح اللواء بين الحضور شخصاً غريباً بسبب لباسه المدني وهذا في حدّ ذاته غير مألوف داخل الفرقة العسكرية، بادر اللواء مباشرة بالتعليق بعد أن سأل الجميع عن أسمائهم لكنه توقف مطولا عند الضابط الجديد بالثياب المدنية وأخذ يلقنه محاضرة في التربية العسكرية، وكيف للعسكري من دون بدلته النظامية العسكرية أن يواجه العدو في المعركة؟!! حاول جوان إبراهيم تقديم مبررات قد تسعفه قليلاً أمام هجوم اللواء.

لكن دفاعه هذا؛ فتح شهية الرجل ليظهر للعلن عن سلطته أولاً وعن مدى معرفته العسكرية وأهميتها في الاستعداد للمعركة ووصل الحديث به إلى حد القول:

كيف تخوض المعركة هكذا!؟ أنت مثل الذي نسي بدلة العرس في يوم زواجه... وعندها كيف سيدخل على عروسته من دون سلاحه...).

لم يجد جوان بداً من الحديث لأن ذلك سيزيد من شهية الكلام لدى اللواء ذي الهيئة والشكل والطابع الكلاسيكي.

خاب أمل جوان منذ يومه الأول وفقد الأمل في الحصول على إذن للعودة إلى قامشلي قريباً، لكنّ زملاءه طلبوا منه الصبر والتفاؤل حتى المساء حيث سيكون العميد المناوب هناك وهو كما يشاع عنه طيب الخلق وقد يساعده.

انتظر حتى المساء ليتوجه إلى مكتب العميد بعد أن رسم صورة عن شخصية الرجل ونفسيته بناء على ما سمعه عنه، وعن ميله للمزاح وكذلك "العشق" الغالب لديه مثل أغلب زملائه الضباط المتطوعين حب استهلاك مجاني للأدوية، الصادات الحيوية، المقويات وحبوب المعدة استعد جوان وملأ جيبه منها لتكون عوناً له في حضرة "القائد" للحصول على الإجازة.

دخل جوان إلى مكتب العميد عدنان الذي يُعدّ نائباً لقائد الفرقة بعد أن سمح له الحاجب بذلك. كان العميد ذو السحنة الساحلية و البشرة الشقراء جالسا مع صديق له، يتبادلان أطراف الحديث، يبدو من ملامح الاثنين أنه حديث مشوّق حتى إنهما لم يأبها لدخوله، وهما يتابعان الكلام والضحك، ثم لفت انتباه العميد وجود شخص ما في الغرفة مبادراً نحوه بالقول:

شو في يا ابني..... خيراً؟

تقدم جوان وعرّف عن نفسه بعد أداء التحية، ثم تابع كلامه بالحديث عن وضعه وعن سبب زيارته وطلب لقاء العميد، وأنه في حاجة إلى إجازة كي يجلب أغراضه من مدينته البعيدة، وذلك لأن الفرصة لم تسنح له كي يعود من "المسلمية" عندما استلم ورقة فرزه وهو في القامشلي.

عندما سمع العميد عدنان اسم القامشلي قطع الكلام فوراً: (أنت كردي أكيد ..... هل تعرف محمد منصورة؟ هو ابن دورتي..... نحن من الضيعة نفسها القريبة من القرداحة...كيفو وكيف وضعو؟ هو مبسوط عندكم...دائما كان يقول بأنه مكيف في الجزيرة).

سرت قشعريرة من الفرح والطمأنينة إلى كيان جوان وهو يرى الحماسة في وجه العميد ومستمعاً لحديثه وكله أمل في نيل مراده، حتى إنه لاحظ ظهور التورد على خدوده أيضًا انعكست بسرعة على بشرته الشقراء.

تابع العميد عدنان بشوق: (يا بني أهل الجزيرة طيبون جداً......ما هو طلبك؟ أكيد إجازة...كم يوم ستكفيك من أجل رحلة القامشلي؟  أسبوع؟).

لم يصدق جوان أذنيه وشكر العميد بحرارة بعد أن ناوله ورقة الإجازة مع توقيعه. لكن شهية العميد عدنان بدت وكأنها مفتوحة للحديث ولم ترتوِ بعد، فتابع: (دكتور بلغ سلامي لصديقي محمد منصورة كثيراً وذكره بأنه من العميد عدنان ابن دورته... على فكرة لقد زرت مناطقكم، إنها جميلة ..والأكل أيضاً لذيذ... دكتور شو؟ قصدي شو اختصاصك؟).

“لم أختص بعد سيادة العميد، أنا طبيب عام"  رد عليه جوان بحرية وحماسة وكان سعيداً جداً بعد الذي حصل معه وانطلق بحرية بعيداً في تفكيره عن أجواء الفرقة في لحظة ما.

ذهب إلى قامشلي حيث جالا وبناته الصغار بهار وباران، فكان يهز برأسه مبتسماً للعميد ليبين له تفاعله معه وشكره.

وفي غمرة حديثه عن منطقة الجزيرة كما يسميها السكان السوريون من خارجها، تلك المنطقة في الجزء الشمال- الشرقي من سوريا حيث يعيش الكرد، تبين أنه قد زار المنطقة وقام بجولات وزيارات مع صديقه محمد منصورة. ثم تساءل مازحاً: (كيف وضعه مع النساء؟  ألم يتزوج بعد؟ أعرف الكثير عن مغامراته... ليش بدو يتزوج يا دكتور؟!!) متوجها بعدها بالحديث نحو ضيفه ليشاركه الضحك والقهقهة.

ثم تابع كلامه بحماسة: "على كل حال أهلا وسهلا بك وبأهل الجزيرة وبس ترجع من الإجازة حاول تمر عليّ... انت قلت لي اسمك جوان؟ على فكرة كان في زلمة من عندكم كمان اسمو أبو جوان، كان حباب وطيب وعزمنا على سهرة...  والله ذكرتني بأيام حلوة كتير... ياخي بحب الجزيرة وأهلها... كمان كنت بدي قلّك بأن معدتي دايماً توجعني وتعصر عصر خاصة لما تكون فاضية... شو فيك تنصحنا دكتور؟". جاءت اللحظة المناسبة التي كان يتوقعها جوان، ثم أخرج من جيبه ظرفين من حبوب الالتهاب وحبوب أجنبية للمعدة وناولها له بعد أن سأله بعض الأسئلة عن وضعه الصحي.

أخذها العميد ثم تناول حبة المعدة مباشرة وهو يتمتم في الكلام واصفا تلك الحبوب بالجيدة والمفيدة.

ظل جوان يتأمل في ما حصل معه بعد أن خرج من مكتب العميد عدنان في ذلك الليل وهو لا يصدق عينيه على تلك المفاجأة السارة. لكنه في الوقت نفسه تعجّب فرحاً من تلك الصدفة بأن يكون العميد عدنان على معرفة بضابط الأمن المعروف محمد منصورة. لم يكن يحلم يوما أن يستفيد من معرفة شخص لم يلتقِ به، ولا يحبذ ذلك، ولايحب حتى سماع اسمه ليكون اليوم فال خير في فضاء القدر المرسوم لمجهول الأيام. فهو يعلم جيدآ من هو محمد منصورة رئيس فرع الأمن العسكري الذي ذاع صيته السلبي في الجزيرة وتحديداً في قامشلي عبر قبضته الأمنية على الوضع السياسي في ما يخص الملف الكردي وبقية الملفات السياسية في المنطقة وتحركاته بين مختلف الطوائف الاجتماعية و الدينية و القومية هناك. كان يكنى بـ"أبو جاسم" على الرغم من بقائه أعزب، و كان حاكماً عاماً لمحافظة الحسكة، واستطاع بحنكته و خبثه مع قوة السلطة امتلاكًا أن تكون له اليد الطولى بين جميع المكونات الاجتماعية. كان الاسم يشكل رعباً لأن عناوينها العملية مثل السجن القسري أو الاختفاء كانت جاهزة بالنسبة إليه عندما يتعلق الأمر بـ"الانفصاليين" الكرد، وكذلك الأمر عند عرب الجزيرة وتهمة "الصدامية" كافية أن يلغى اسمك من سجلات الدولة، أما أبناء الطائفة المسيحية فكان سهلاً عليه ربطهم بـ"الكتائب" في لبنان.

عدا عن ذلك كله فقد بنى أبو جاسم علاقات عميقة مع شبكة المهربين في المنطقة من مهربي الدخان وتجار تهريب المواشي بين الحدود السورية- العراقية. حتى القوادون كانوا يتنافسون على خدمته ولهذا لم يستغرب جوان من سؤال العميد عدنان عندما ذكره بحياته الخاصة وقضية النساء. كان يتعامل مع الجميع بلغة حاكم أمني مطلق، مجنداً حتى رجال الدين حول دائرته. وجهاء وشيوخ وأغوات من أبناء المنطقة يتنافسون ليحظوا بفرصة شرب فنجان القهوة معه لخدمة مصالحهم، وتقديم ولاء الطاعة، وصكوك الغفران عبر هدايا مواسم الخير الوفير.

" يا للأقدار! " قالها جوان في قرارة نفسه وهو يسير في ذلك الليل نحو مركز الكتيبة الطبية.

الغبطة بالحصول على ورقة الإجازة حالت مت دون نومه هنيهة واحدة، بقي يصارع الأفكار حتى بزوغ الخيوط الأولى للفجر، تسيطر عليه الآمال بالعودة لقضاء أسبوع بطوله في قامشلي في حضن العائلة العزيزة.

  • الرواية صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول.
  • زارا صالح: كاتب وروائي كردي من سوريا مقيم في بريطانيا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم