زياد الأحمد

مع بدايات الثورة السورية 2011 صدرت رواية التائهون لأمين معلوف. شعرت يومها؛ وأنا أقرؤها أن الكاتب يأخذ بيدي إلى تلة عالية استشرف من خلالها مسافة عشرين عاماً إلى الأمام، ليس من تاريخ لبنان الذي كان قد مضى وانقضى، بل من تاريخ سورية الذي نعيشه اليوم2020 والذي لم يكن يومها قد أتى....

فالرواية التي تناولت تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية، ورصدت آثارها بعد عشرين عاماً من نشوبها على المجتمع اللبناني، وأكدت في النهاية استحالة لمّ شمل هذا المجتمع الذي مزقته الحرب؛ تلك الرواية رصدت بشكل غير مباشر ولنقل بشكل تنبُّئيّ ما سيحدث في دول الربيع العربي، قبل أن يبدأ، وما ستخلفه ثوراتها من حروب وشقاقات ونزاعات. وقد كتبت أيامها أكثر من دراسة تناولت فيها تلك الرواية بالدراسة والتحليل، وأعيد اليوم بعد أن تحققت نبوءتُها نشرَ سطور وضعتُ يومَها تحتها خطوطاً عريضة وإشارات تعجب واستفهام، سطور يبرهن الواقع الذي نعيشه هذه الأيام صدقَ رؤيتها ونبوءتها، سطور تلخص في كلمات ما يعيشه مواطننا العربي اليوم بعد أن انهكته الحروب. وأبدؤها بمقدمة تلخص رؤيتي لموقع هذه الرواية من روايات الحرب.

  رواية التائهون وروايات الحروب العربية:

 رواية "التائهون" كغيرها من روايات الحرب؛ حاولت أن تقرأ الواقع العربي بتصورات رمادية، يختلط فيها التداعي بالموت، كما أنها كغيرها من روايات الحروب العربية الأخيرة تبدو كمرثية لماض جميل...

ومعلوف كان همُّه وصفَ التداعيات التي ورّثتها الحرب فكرياً لنخبة كان الفكر اليساري يوحدها، وبذلك يتقاطع مع غيره من الروائيين الذين تناولوا موضوع الحروب الأخيرة كفؤاد التكرلي وشاكر الأنباري وأحمد سعداوي وهدى بركات وأحمد الزين في الاكتفاء بوصف الواقع وتداعياته وطرح الأسئلة، فهم جميعاً يعالجون واقعاً عربياً ضبابيّ الأفق مسكوناً بالدمار؛ لكن معلوف زادهم أنه قرأ ما سيتلو ذاك الواقع لا أكثر.

ومن ناحية أخرى تتميز رواية التائهون بأنها تناولت فكرة الهويّة من الجانب الاجتماعي والنفسي وشرحت مأزق الانتماء والعلاقة مع الوطن (ولا ننسى أنّ معلوف هو صاحب الهويات القاتلة)

 فالرواية في العالم بدأت تاريخها متبنيّة الوعي القومي لكنها انحرفت عن مهمتها مع ماركيز وإيزابيل ليندي  وباولو كويلو وماريو فارغاس لوسا  وغيرهم إلى تبني عولمة الأفكار والثقافات لنزع فتيل التأزّم الروحي والعقلي الناجم عن الشعور بالدونية الثقافية فإحدى الشخصيات في "التائهون" تقول : "إني انتمي بحكم الولادة إلى حضارة مهزومة وإذا لم أشأ التنكر لأصلي فأنا محكوم بالعيش مع هذه الوصمة على جبيني" فالرواية ترصد حرباً بين المهاجر المنتمي إلى وطن في الذاكرة؛ وبين ذاته التي تعيش في وطن آخر والمتحارَب عليه هو الهوية" .

سطور من الرواية:

 “في بلداننا تقوم الثورات باسم الشعب، ويجد الشعب نفسه مطروداً ومرمياً على الطرقات"

"الحرب لم تكتف بالكشف عن أسوأ غرائزنا بل هي التي تصنّعها وتقولبها فكم من الأشخاص تحولوا إلى سارقين ومهربين وخاطفين وقتلة وجزارين وكان بوسعهم أن يكونوا أفضل الأشخاص على وجه البسيطة لو لم تقوّض الحرب مجتمعاتهم "

"ماذا تفعل حين يخيب صديق أملك؟ لا يعود صديقك، ماذا تفعل حين يخيب البلد أملك؟ لا يعود بلدك وبما أنك تصاب بخيبة الأمل، بسهولة سوف تصبح في نهاية المطاف بلا أصدقاء بلا بلد..."

 “لكل امرئ الحق في الرحيل، وعلى وطنه أن يقنعه بالبقاء، مهما ادعى رجال السياسة العظام عكس ذلك"

"حين لا تستطيع في بلدك إيجاد وظيفة، ولا تلقى الرعاية الصحية، ولا إيجاد المسكن، ولا الاستفادة من التعليم، ولا الانتخاب بحرية، ولا التعبير عن الرأي بل ولا حتى السير في الشوارع على هواك! فعلى وطنك أن يفي إزاءك ببعض التعهدات، أن تعتبر فيه مواطنًا عن حق، وألا تخضع فيه لقمع أو لتمييز أو لأي شكل من أشكال الحرمان بغير وجه حق، ومن واجب وطنك وقياداته أن يضمنوا لك ذلك..."

"أيكون المرء متعجرفاً لو تمنى أن يكون بلده أقل رجعية، وأقل فساداً، وأقل عنفاً؟ أيكون متعجرفاً أو غير متسامح لو رفض عدم الاكتفاء بدمقراطية تقريبية وبسلم متقطع؟ إذا كان هذا هو الحال فأنا أجاهر بخطيئة التعجرف وألعن قناعتهم الفاضلة"

"الوطن الذي بوسعك أن تعيش فيه مرفوع الرأس، تعطيه كل ما لديك وتضحي من أجله بالنفيس والغالي، حتى بحياتك، أما الوطن الذي تضطر فيه للعيش مطأطئ الرأس فلا تعطيه شيئاً سواء تعلق الأمر بالبلد الذي استقبلك أو ببلدك الأم، فالنبل يستدعي العظمة، واللامبالاة تستدعي اللامبالاة، والازدراء يستدعي الازدراء"

"الرحيل عن الوطن هو سُنَّة الحياة، وأحياناً، تفرضه الأحداث، وإلا فيجب أن نخترع له عُذراً. لقد ولدت على كوكب، لا في بلد. أجل بالطبع، ولدت أيضاً في مدينة، في طائفة، في أسرة، في حضانة، في فراش. ولكن المهم عندي، وعند جميع البشر على السواء، أنني جئت إلى هذا العالم، إلى هذا العالم! فالولادة هي المجيء إلى العالم، لا إلى هذا البلد أو ذاك، لا إلى هذا البيت أو ذاك"

“أنا لم أرحل إلى أي مكان، بل لقد رحل البلد"

"بوسعنا أن نردد باستمرار الحق على الآخرين، الحق على الآخرين. ولكن يجدر بنا أن نواجه في نهاية المطاف نواقصنا وعيوبنا وعاهاتنا. يجدر بنا أن نواجه في نهاية المطاف هزيمتنا والاندحار التاريخي الهائل والمدوي لحضارتنا"

"المرء دومًا يزدري عصره، مثلما يُعظِّم الماضي. من السهل أن أتخيل نفسي جمهوريًا في برشلونة عام ١٩٣٧، أو مقاومًا في فرنسا ١٩٤٢، أو من رفاق تشي غيفارا. ولكن حياتي تجري هنا والآن، هنا وعليَّ الآن أن أختار: إما أن أنخرط، وإما أبقى بمنأى عن ذلك"

"إننا نجد بسهولة العزاء لفقدان الماضي؛ ولكن ما من شيء يعزينا لفقدان المستقبل فالبلد الذي يحزنني غيابه ويؤرقني ليس ذاك الذي عرفته في شبابي بل ذاك الذي حلمت به والذي لم يُقدر له أن يُبصر النور أبداً"

                                ************

"لستُ من أتباع أي دين، ولا أشعر بالحاجة لأن أصبح كذلك وموقفي من هذه المسألة غير مريح لا سيما وأنني لا أشعر بنفسي ملحدًا كذلك. لا أستطيع أن أؤمن بأن السماء فارغة، وبأنه لا يوجد بعد الموت سوى العدم. فماذا يوجد وراء ذلك؟ لا أدري. هل يوجد شيء ما؟ لا علم لي. أرجو ذلك، إنما لا أعرف؛ وأشعر بالريبة إزاء من يدعون المعرفة، سواء كانت أشكال يقينهم دينية أم ملحدة...

إنني في منزلة بين الإيمان وعدم الإيمان مثلما أنا في منزلة بين وطنين، ألاطف هذا وألاطف ذاك، ولا أنتمي لأي منهما. لا أشعر بنفسي غير مؤمن إلا حين أستمع إلى عظة رجل دين؛ ففي كل عظة، وكل إشارة إلى كتاب مقدس، يتمرد عقلي، ويتشتت انتباهي، وتتمتم شفتاي لعنات. غير أني أرتعش في أعماقي حين أحضر مأتمًا علمانيًا، وتتملكني الرغبة بدندنة تراتيل سريانية، أو بيزنطية، أو حتى ترتيلة القربان المقدس القديمة التي يقال إنها من تأليف توما الأكويني.

ذلك هو درب التيه الذي أسلكه في مجال الدين. وبالطبع، أسير فيه وحيدًا، بدون أن أتبع أحدًا، وبدون أن أدعو أحدًا لأن يتبعني"

"الغرب هو المؤمن، حتى في علمانيته، والغرب هو المتدين، حتى في إلحاده. وهنا، في المشرق لا يكترث الناس للعقائد الإيمانية بل للانتماءات، فطوائفنا عشائر وغلونا الديني شكل من أشكال القومية لا غير" 

 “هناك أشخاص آخرون يشعرون بأنهم يتعرضون للاعتداء بسبب سعادة الآخرين"

"في مسيرة الزمن، سيكون هناك دوماً، وأينما كنت، قبل وبعد، أشياء صارت خلفك واشياء سترتسم عند خط الأفق، ولن تأتي إليك إلا ببطء، يوماً بعد يوم"

 "لأن لديهم ديانة يظنون أن الأمر يعفيهم من التحليّ بالأخلاق"

*********

"يثير غيظي للغاية أولئك الذين يسألونك وفي عيونهم هلع مصطنع: "أتصدر عليّ حكماً؟ أجل بالطبع أصدر عليكم حكماً، ولا أكف عن الحكم عليكم. ولكن الأحكام التي أصدرها لا تؤثر في حياة المتهمين. أمنح احترامي أو أسحبه، أحدد جرعة دماثتي، أعلق صداقتي بانتظار الحصول على المزيد من القرائن، أبتعد، أقترب، أنتحي جانباً، أمهل، أعفو عما مضى أو أتظاهر بذلك ومعظم المعنيين بالأمر لا يتنبهون حتى لذلك".

"نحبهم ثم يموتون وعبثاً نحاول استبقاءهم ولكنهم ينزلقون من بين أصابعنا ويرحلون ويموتون"

 "إنني أنتمي بحكم الولادة إلى حضارة مهزومة، وإذا لم أشأ التنكر لأصلي فأنا محكوم بالعيش مع هذه الوصمة على جبيني"

"تضيع ذاكرة الكلمات، إنما ليس ذاكرة الانفعالات."

"المرء لا يكون بريئاً تماماً من أفعال الأشخاص الذين يحبهم. ولكن هل يتحتم عليه أن يتنكر لهم بسبب ذلك؟" 

"أجل اليوم حتى الموت نفسه يبدو لي ملطخاً مشوهاً."

"إننا نجد بسهولة العزاء لفقدان الماضي؛ ولكن ما من شيء يعزينا لفقدان المستقبل"

                             ***********

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم