*بسمة عبدالعزيز ”ألقونا واحدًا وراء الآخر على الأرض، فتكومنا إلى جوار بعضنا البعض دون حِراك. أرضٌ بلاط، هذه المرة جامدة وثابتة، كنت أسمع دَبَّة الجسم الوافد حين يُلقى إليها، فأطمئن أنني لست وحدي وأننا كثيرون. طاف بنا شخصٌ ينزع عن أعيننا الغطاء، فأدركت أن الجبارين ساقونا إلى حجرة واسعة، خاوية من كلّ شيء إلا منضدة كبيرة، نظرت حولي فرأيت حوائط مُتقرحة تساقط جيرُها، أما بأعلى فقد ظهرت خطوط سماء باهتة بين قضبان صغيرة. تركونا وحدنا في مُنتصف الحجرة، تحيط بنا الجدران ولا نمسُّها بظهورنا، أعيننا مُبصرة، وأيدينا مَشدودة إلى الوراء، أقدامنا مُقيدة وأفواهنا مُكمَّمة، ولا شيء بيننا سوى نظرات ذاهلة مذعورة. حدَّقت في الوجوه وجهًا وجهًا، لم أجد صاحبيّ بين الأولاد، كدت أبكي لولا أن فكّرت في سخريةِ عماد مِنّي حين يظهر، لا بد سيظهر. مرّ الوقت ونحن جلوس في كرب مَكين، كان عجزنا تامًا كاملًا، ربما لم يجربه أحدٌ مِنا مِن قبل، سعى بعضنا إلى الاعتدال في قعدته، والبعض الآخر أراد الاتجاه نحو الجدران، لكن هذه الحركات البسيطة التي ما أعجزتنا أبدًا، ولا خطر ببالنا في الأحوال العادية أن نفشل في أدائها، بدت اللحظة مستحيلة. حاول أولاد آخرون أن يتحدثوا، لكن الأصوات الممدودة المشوهة كمواء القطط في مواسم النكاح، والمُتصاعدة من الأفواه المربوطة، ضاعفت من حجم رعبي وإحساسي بقلة الحيلة. أعرف بعض الموجودين معي في الحجرة؛ معظمهم يجول في المنطقة ذاتها التي نتحرك فيها أنا ويوسف وعماد، هناك أيضًا أولاد لم أرهم مِن قبل، وإن كانت مناظرهم تشبه مناظرنا نحن الثلاثة حدَّ التطابق، لا فارق بين المنكوبين في هذه الحجرة على الإطلاق، ولا ميزة لي وسطهم. لم أفهم لماذا نحن جميعًا هنا. وصل اثنان مِن الجبارين حين سطعت الشمس ودخلت مِن فتحات السقف قوية لاسعة، وكان أغلبنا قد انخرط في بكاء وعويل زادا مِن سوءِ الحال. امتزجت دموعي بمخاط أنفي المتدفق، فجعلت أزدرد الخليط اللاذع كي لا أبدو مقرفًا أمام الآخرين. وصول الجبارين رغم مغبّاته المُحتمَلة وعواقبه غير المأمونة، أفضل عندي مِن الانتظار، تقول أمي دائمًا: "وقوع البلاء ولا انتظاره". نظرا إلينا دون أن يلتفت أحدهما إلى الآخر، نظرة واحدة جامدة، لا استفهام فيها ولا تفكير، وكأن وجودنا في الحجرة أمر مفروغ منه، وكأنهما رتبا كل شيء وعرفا كل شيء، بل وكأن القادم قدر مَحسوم كتبوه علينا؛ لا يستدعي بينهما نقاشًا ولا مداولة. لم أنتبه إلى حزمة الصحف التي حملها أولهما، إلا حين أشار إليها بصرامة: "هذه تخصكم؛ ربما لن تسنح الفرصة لتعرفوا ما فيها كله، لكني سأطلعكم الآن على ما يُهم". انتشل ورقة بعينها من جريدة وفردها أمامنا، ووضع أصبعه على صورة رجل يحيط بها كلامٌ كثير. رأيت الرجل في الصورة أصلع الرأس، لامع الوجنتين، ولديه نظارة، لم أبعد عينيّ عنه إلى أن قال الجبار: "هذا رجل له وزن، له شنّة ورنّة أينما ذهب؛ يملك صلات واسعة وعلاقات متينة ويعرف الكبار، وهو يمقتكم مقتًا لا حدود له. حشرات أنتم في نظره، تلوثون البلد، وتشوهون أرجائها. لم ينجُ مكانٌ رقيقٌ، شاعريّ ولطيف منكم. روائحكم نتنة، وأبدانكم تقتات عليها الهوام، وتفقس في مداخلها ومخارجها البيوض. يعرف أنكم تمارسون السرقة، وتنامون مع بعضكم في مقالب القمامة، وتتعاطون الأقراص وغيرها. يعرفكم حقّ المعرفة، ولا يكذب في كلمة مما يذكر عنكم. الرجل تحدث إلى الحاكم بشخصه حين التقاه في الاحتفالية الأخيرة؛ اقترب منه وهو يقصّ شريط الافتتاح، وهمس في أذنه يطلب مقابلة خاصة لأمر مُهم. لم يخذله الحاكم عالمًا بقدْرَه، لكنه أناب الجنرال عنه لضيق الوقت، وأوصاه في غمرة انشغاله أن يلتقي الرجل بصفة عاجلة وأن يهتم بمطلبه، فإذا بالرجل لا يُكذِّب خبرًا، ويقصد مكتب الجنرال في اليوم التالي مباشرة، ويعرض عليه مستندات ووثائق تتعلق بكم، ثم يقترح حملة اصطياد شاملة تنهي وجودكم المقزِّز. نجح الرجل، وأقنع الجنرال بضرورة إبعادكم عن الشوارع، وها قد اصطدناكم خطوةً أولى". كان الجبار جادًا متجهمًا. خرج من الحجرة وتبعه الآخر. أغلقا الباب، وسمعنا الجنزير ينعقد والقفل الحديديّ يصطكّ فيه، فشارفت قلوبنا على التوقف ونحن نحاول استنتاج ما سيفعلون بنا في الخطوة الثانية. لو أرادوا منذ البداية لوضعونا في السجون، أو نقلونا إلى الإصلاحيات، لكنهم لم يفعلوا، ربما سيشعلون فينا النيران، أو يخنقوننا بقنابل الغاز، أو يحبسوننا هنا إلى أن نموت جوعًا وعطشًا. اشتدت الشمس وحولت الحجرة إلى لظى كذلك المنبعث من الفرن البلدي على ناصية مَقلبنا، شعرت أنني أذوب وأمتزج بالأرض، ورحت أضيف إلى مخاطي ودموعي حباتِ عرق كبيرة، ألصقت لباسي بجلدي وأورثتني حرقانًا مؤلمًا، وأكلانًا لا يُقاوَم. لم ترتخ أجفاننا ولو لحظة واحدة، راح كل ولد منا يحدق في الآخرين لفترة، ثم اختار بقعة ركز نظره عليها، وكأنه لم يعد يرى ما حوله، وانكفأ على نفسه مُنهنِهًا دون توقف. باتت الحال مريعة. راح الجوع يقرص بطني ودماغي، ويذكّرني بأنني ما زلت حيًّا، وأنني قد أفقد هذه الميزة عما قريب. لا أدري كم ساعة مرت، لكننا لبثنا على وضعنا هذا إلى أن انفتح الباب من جديد. هذه المرة جاء جبار واحد، زعق طالبًا الانتباه والكفّ عن النهنهة، وعن محاولات الالتجاء إلى الحائط التي هَمَّ بها بعض الأولاد -وكانوا قلة- فور وصوله، ظنًا منهم أنهم قادرون على تجنُّب الأذى الوشيك، والحقيقة أنه لم تعد لدى أغلبنا قوة لبذل أي محاولات أخرى، ولا حتى للبكاء، فانصعنا تمامًا للأمر. "تعلمون أننا نبحث مشكلتكم منذ سنوات، وأن مجلس المستشارين الذي شكّله الحاكم مع توليه المنصب، اجتهد في وضع تصورات متكاملة حولها، وخصَّص ميزانية كبيرة لدراستها. تذكرون د. عبد السميع مختار الذي رأيتم صورته بالأمس؟ عالم مِن علماء البلد الكبار، له أبحاث وافرة وطلاب عديدون. لقد اقترح بعدما أعياه التفكير وأرهقه البحث عن مَخرَج، أن نعدَّكم غير موجودين؛ نمحوكم تمامًا، ونشطب أسماءَكم من السجلات الرسمية إن كانت لكم فيها أسماء، نفعل معكم مثلما نفعل بالكلاب الضالة، لا يُجدي معكم حلٌّ إلا القتل، ولا أسهل مِن تسميمكم أو رميكم بالرصاص، ونقل جثثكم مع أكوام القمامة حيث الدفن أو الحرق. عمل دكتور مختار معنا لسنوات طويلة وخدمنا بإخلاص، وهو يحب الحلول التقليدية التي أثبتت بالتجربة صلاحيتها، والحقّ أن مُقترَحه هذا لاقى قبولًا واسعًا بين أعضاء المجلس، فالبلد لا يتحمل الإنفاق على طعامكم، وشرابكم، وتعليمكم، وإسكانكم؛ هكذا بلا مقابل تؤدونه". زأم وقطب جبينه مُستطردًا: “البلد فقير وبه كثير من العاطلين، ولا يتحمل الخسائر التي تتسببون فيها، وأنتم لا تحسّون ولا تدركون الأزمة. آلاف الشكاوى وصلتنا. مواطن يشكو تعرُّضَكم لأبنائه في طريقهم يوميًا إلى المدارس والجامعات، وآخر يشكو تشويهكم سيارته؛ يرى بصمات أيديكم القذرة على زجاجها كل صباح، ويراقبكم من الشرفة تتقافزون فوقها قرب الفجر. الناس ممتعضون لمرآكم على الأرصفة ومحطات المترو والأوتوبيسات، وبجانب المطاعم التي يرتادونها، والسوبر ماركت الكبيرة التي يتسوقون منها.. ما لكم وإياها؟ لا يتحملون إلحاحكم البارد غير المفهوم، وقد سئموا استجداءكم المال والطعام حتى لتعاف نفوسهم ما يبتاعون مِن بضائع؛ إذ يشعرون أن عيونكم تنظرها وتحسدها، صرتم تفسدون عليهم نزهاتهم، وتفقدونهم الشهية والبهجة أينما حلّوا“.

  • باحثة وروائية مصرية صدرت لها سنة 2013 رواية "الطابور" من دار التنوير وترجمت إلى الانجليزية ولقت نجاحا كبيرا حيث أشاد بها عدد من النقاد هذا إضافة إلى مؤلفاتها الروائية نشرت بسمة عبدالعزيز كتابا بعنوان ذاكرة القهر توثق فيه أساليب التعذيب والتنكيل في الأنظمة التوتاليتارية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم