عبدالله ناجي

عادا إلى السجادة الحمراء، وفي صدريهما تتفجر ينابيع اللذة، كلٌ منطوٍ على نفسه، يغترف من ينبوعه الخاص. راح الغريب يستعيد بعض اللقطات في آلة تصويره، مستمتعًا بمشاهد السفينة، بينما محمود يستعيدها في ذاكرته، إلى أن دعاه، فاقترب منه وصارا جالسين كتفًا لكتف، وهي المرة الأولى والوحيدة التي يتقاربان إلى هذا الحد. ثم أخذا يستعيدان مشاهد السفينة معًا، معلّقين على بعض الصور حينًا، ومُكتفيين بالمشاهدة الصامتة للبعض الآخر أحيانًا، فجلّ تلك المشاهد كانت أكبر من الكلام. جنح الوقت إلى الثالثة والنصف صباحًا، وانتهيا من جلسة المشاهدة تلك، فانفصلا وسبح كل واحد منهما في عالمه ومحيطه، كان محمود وقد امتلأت روحه بلذة غريبة، يحاول الاحتفاظ بتلك اللّذة لأطول زمن ممكن، لقد اختزن في ذاكرته مشاهد السفينة مرتين، مرة على الطبيعة، وأخرى عبر آلة التصوير، فأخذ يقلّب تلك المشاهد في باطنه، لتفيض عليه مزيدًا من اللذائذ، غير مُفرّقٍ بين لذة روحية ولذة جسدية، إنها لذة وكفى، وهو ممتلئ بها، وشاعر بأنها تتنقل بين روحه وجسده، أو أنّها فاضت من روحه حتى ملأت جسده، ثم فاضت من جسده أيضًا، وهاهو يشعر بنشوة تعتريه من رأسه حتى أخمص قدميه، تمنى أن يرقص، ويتمايل طربًا، بل أن يجري على رمل الشاطئ، ولولا حياؤه من الغريب لفعل ذلك.

            "ولمَ لا أرقص؟ سيحول الظلام بيني وبينه، فلا يراني"

 ما إن فرغ من محادثة نفسه حتّى انتفض واقفًا، استأذن من الغريب لقضاء حاجته وأوغل في الظلام، وبعد مسافة لا بأس بها أطلق ساقيه للريح، راكضًا في خط مستقيم، بمحاذاة الشاطئ، إحدى قدميه تنغمس في الماء، والأخرى تنغرس في الرمل، يلتصق رمل الشاطئ بقدم الرمل ثمّ ينتثر منها، وينتثر الماء عند قدم الماء ويطيش حولها، وحين أحس بوحدة خالصة، توقف عن الركض، وتسمّر في مكانه برهة من الزمن، ثم بدأ في الدوران حول نفسه، دورات متتابعة. أخذت سرعته في التزايد، فرد ذراعيه، ليحافظ على توازنه، أغمض عينيه، بالرغم من أن الظلمة لم تكن تسمح له برؤية شيء، وتخيّل نقطة واحدة يدور حولها، وهكذا اكتسب مركزًا داخل روحه يطوف حوله، ولا يشعره بالدوار في الوقت ذاته. رفع إحدى رجليه، واستمر في الدوران على قدم واحدة، كانت القدم اليمنى مركز دورانه الأرضي، والسفينة مركز دورانه الروحي، لقد تنبه أثناء الدوران -وَكان عكس عقارب الساعة- إلى أنّ السفينة هي النقطة التي اختارها لتكون المركز داخل روحه. رفع رأسه إلى الأعلى، كأنما ينظر إلى السماء، وهو مستمر في الرقص والدوران، فتح عينيه بعد الدورة السابعة أو العاشرة، أو المائة.....، وصافحت حدقتاه النجوم المعلقة فوق رأسه، شعر بأنها قريبة جدًا، وكلما زاد في دورانه، أحس بامتزاجها، واقترابها منه أكثر. شعر بأنها ستتحول إلى ثقب أبيض سيبتلعه لو استمر في الدوران والنظر إليها، فأغمض عينيه، ولكنه لم يتوقف عن الدوران، وفي دورانه أحس بأن الأشياء بدأت تدور معه، كأنما كانت ذراعاه مفتوحتان لتحتضنا تلك الأشياء، أخذت الدائرة تتسع، والأشياء تمتزج، الهواء والبحر والرمل والسماء والنجوم، وكلّ الموجودات من حوله. زادت سرعة دورانه، وزاد انصهار تلك الأشياء داخله، أو داخل السفينة التي كانت مركز دورانه، ودوران الأشياء معه، ثمّ بدأت صرخة تنمو داخل وجدانه، وتكبر، صرخة نبتت في منتصف صدره، وأخذت أغصانها تتصاعد وتعلو لتصل إلى حلقه، ومنه إلى فمه ثم إلى الفراغ المحيط به. لقد ذابت كل الأشياء من حوله، وذاب فيها، ولم يعد من وجود لشيء إلا للسفينة, أو له. انطلقت تلك الصرخة من أعماق روحه كبرق، أحدثت شرخًا في الفراغ الهائل المظلم، لم يعد يعلم أين هو بعد تلك الصرخة، تداخلت الأزمنة والأمكنة داخل وجدانه، ومرّت عليه كل اللحظات التي عاشها في سرعة الضوء، لقد ارتفع، وأصبح يشاهد ما جرى له في حياته أسفل منه، كان ينظر إلى قدمه اليمنى أثناء الدوران في الظلام، فلا يراها، ولكنه يبصر الوجوه التي ارتسمت على الفئران من قبل. عادت الفئران تقرض قدمه اليمنى، وَتتعلق بساقه، محاولة التسلق والانتشار في جميع أرجاء جسده، الذي انتفض لحظتها ودار بأقصى سرعته، جاعلاً الفئران تتطاير حوله، إلاّ أنّها كانت تعود مرة أخرى لتتسلق جسده، عبر ساقه الوحيدة المرتكزة على الأرض، وكلما عادت زاد من سرعة دورانه، حتّى وصل إلى سرعات هائلة، لم يكن يتوقع أن يصلها. عند ذاك الحدّ أحس بأن جسده بدأ يرتفع، فرفع قامته وصار يدور على أطراف أصابعه، استمر على ذلك، واستمرت الفئران في محاولة الصعود إليه، أحسّ بازديادها، وتكاثرها على ساقه، فاندفع جسده يدور بأقصى سرعة، ما أشعره بخفة هائلة، إلى حدّ أنّه فقد الإحساس بجرمه ووزنه. وفي لحظة فائقة، وهائلة الخفة قفز إلى الأعلى قفزة عظيمة انخلع فيها عن الوجود، وَانفصل جسمه عن الأرض تمامًا. غاب عن وعيه في ذلك الانفصال وتلك القفزة، ثم أوغل في عالم البياض. 

عبدالله ناجي:  

• شاعر وروائي يمني

• يسكن مكة وتسكنه منذ صرخة الميلاد

• صدرت له ثلاث مجموعات شعرية : 

•  أتصاعد في الصمت 2007

•  الألواح 2014

•  منازل الرؤيا 2018

• ورواية منبوذ الجبل 2018

. رواية حارس السفينة 2019

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم