فاطمة بن محمود / كاتبة وإعلامية  من تونس

حلّ الظلام بالبيت وعمّ السكون الأرجاء. فوق السرير جسد ضخم، بجانبه جسد نحيف وصغير يكاد لا يظهر؛ يتكوّر على نفسه، كأنّه قط وحيد. دقات الساعة في الصالون تصلها منتظمة ورتيبة، تفسد الهدوء المحيط بهما. تحاول أن تُلهي نفسها بتتبّع أنفاسه وتماثله في الشهيق والزفير. الآن يملأ الهواء فيعلو صدره الكبير. تملأ، مثله، الهواء. يطلقه من أنفه، ينخفض صدره، فتفعل مثله وتبتسم. أخيرا، أصبح لها جسد يمكن أن تحضنه وأنفاس تتبعها ورجل لها وحدها. كانت أمها تصرخ في وجهها في ساعات الغضب "ستبقين رهينة في البيت ولن يتزوجك أحد". تبكي بصمت وهي تتأمل حجمها الصغير وتخجل من النظر في المرآة. اقتربت منه بهدوء؛ كأنها تريد أن تؤكد لنفسها أنها لم تعد رهينة في البيت الذي غادرته ولن تعود إليه.

تحسّست بكفها وجهه وتلمّست ندبا غائرا لجرح قديم على فكه الأيسر يعود لطيش الشباب. اختبأ الجرح تحت شعر لحيته. سيف لا يريد أن يتذكر أن هذا الجرح سببُه بائعة هوى. ظهرت، في ذلك المساء البعيد، في أحد أزقة ساحة برشلونة فاندفع نحوها. وجد نفسه وسط شبان لا يعرفهم لكنهم كانوا، مثله، تقودهم رغبة شرسة نحوها، تمكّنت منهم فحوّلتهم إلى كائنات متوحشة. كل واحد منهم يريد أن يكون أول من يفتتحها وتهدأ أنفاسه بين فخذيها. لم يهتم أحد بأمر بائعة الهوى ولم يسألها أحد عن رأيها، إن كانت ترى في من تجمهروا حولها رجالا يملكون نقودا لها أو ذئابا ينهشون جسدها ويرحلون. لا تطيق أن تكون ضحية، ولم يهتم أحد بنظراتها الفزعة؛ كأنها لم تعد إنسانا وتحوّلت إلى إناء كل يريد الانفراد به. كانت الشتائم والسباب ترتفع بينهم وهم يتدافعون حولها، ثم تشابكوا. امتدت قبضته إلى وجه أحدهم. وبسرعة خاطفة، رد عليه بضربة مشرط، فترك جرحا غائرا في فكه. ينزعج سيف من كل من يسأله عن هذا الجرح، وراقه أن يمتد شعر لحيته فيغطيه و لم يعد الناس ينتبهون إليه. من حكمة اللحية أنها تميز المسلم الحقيقي ومن محاسنها له أنها تستر عيبه وتغطي ماضيه السيئ. يتذكر جيدا كيف أنه تفاجأ بأن اللحية نفسها كانت موضوع خلاف شديد بين رجال الدين، يتنازعون حول القول بتحريمها أو إباحتها أو كراهيتها. لم يفهم إلى الآن كيف يمكن للحية بسيطة أن تكون موضوع جدل حادّ. بالنسبة إليه أطلق لحيته على عادة السلف الصالح واقتداء بإخوته في الإسلام. وقد راقه أن يكون ذلك مخالفة للكفّار، لذلك تميزه لحيته عن جيرانه وأصدقائه القدامى، فالكفار لا يخلو منهم زمن. رفعت كفها إلى رأسه، ثم عادت إلى الجرح القديم تتحسّسه بأناملها، تُبعد شعر لحيته وتقتفي بسبابتها خط الجرح وتضغط عليه بلطف. تململ منزعجا وقال لها، دون أن يفتح عينيه "أبعدي يدك عني". كان ذلك كافيا لأن يجعلها ترفع كفها عن الجرح المخفي وتمدها في اتجاه شاربه المحلوق. بلطف شديد، أخذت تداعب بأناملها شفتيه الغليظتين. الحرارة التي بدأت تسري في جسده جعلته يتململ قليلا. فتح عينيه وهو يقول:

  • ماذا تريدين؟ كان ذلك كافيا لتستيقظ رغبته وتشعّ في ظلام الغرفة. لم تعد تهتمّ بدقات الساعة الرتيبة التي تصلها من الصالون. صارت في حالة أخرى لا يصلح فيها أن تتذكر ملامحها في المرآة ولا أن تستحضر صوت أمها وهي تصرخ بها "ستبقين رهينة في البيت". كانت في حالة لا تُحسن وصفها. الرغبة تعدو بهما مثل حصان جامح وشعرت بأنها ترتفع إلى الأعلى، تكاد تلامس سقف الغرفة. عند ذاك سقط ماء في مجرى بحوضها وانبثقت حياة في نفق مظلم بجدران رطبة ولزجة.
  • يا لَحظّيَ الجميل.! هتف الحيوان المنوي المحظوظ:
  • كم يبدو مثيرا ورائعا أن أحظى بفرصة حياة لن يسرقها منّي أحدٌ! عندما انشغل الحيوان المنوي داخل البويضة بلعبة التقسيمات الممتعة كان في شوق كبير لما ينتظره. قال بزهو: الآن تُصنع حياتي! وهو غافل عما سيحدث له لاحقا.!

تملّك ليلى فرحٌ عارم حين أكدّت لها الطبيبة صحّة الحمل!

.وصلت للقائمة القصيرة في جائزة راشد الشرقي بالامارات ستصدر قريبا من دار زينب -تونس

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم