حمص([1])، شتاء 2018

شهقت أم ماهر حين رأته يقف بباب المطبخ، سقط غطاء الإناء المعدني من يدها فأحدث صوتاً قوياً عند ارتطامه بالأرض، لكنّ سلام لم يبدِ أيّة ردة فعل، وقف تماماً كما اعتاد أن يفعل لسنوات، ذراعاه مكتوفتان على صدره، يتكئ بكتفه على حافة الباب، يميل برأسه قليلاً وعيناه تلاحقان أم ماهر التي تعدّ الطعام بينما يحدّثها عن يومه وجديده، لكنّه اليوم لم يخبرها أي شيء، كان صامتاً، لاحظ اندهاشها حين رأته فبدا مستغرباً لكنه لم يسأل عن السبب وكأنه لم يغبْ عن البيت وعن الوجود وعن حياتهم يوماً!

"كيف؟ متى أأاأ أتيت؟ أنتَ هنا؟ عدتَ يا عيون أمّك؟!" تلعثمت وانعقد لسانها، لم يُجبْها، كان يرمقها بدهشةٍ وكأنّه لا يعلم عمّا تتحدث، بدا الأمر بالنسبة إليه وكأنه كان يغطّ في نومٍ عميقٍ وصحا للتو ليتفقّد والدته في المطبخ، موجودًا وغائبًا بآنٍ معاً، صاحياً وغير صاحٍ، واعياً وغير واعٍ، كانت تتحدث إليه وتناديه فينظر إليها دون أن يجيب، ثم يرفع عينيه عنها وينظر إلى أفق بعيد، سألته عن أحواله وأين أخذوه وما الذي فعلوه به، اكتفى بهزّ رأسه دون أن ينبسَ ببنت شفة. أدار ظهره وهمّ بالمشي، نادته: "هل ستنتظر الطعام في غرفة الجلوس؟ يا ابني قلْ كلمةً واحدةً فقط يا ماما، والله اشتاقت أذني لسماع صوتك يا روحي!" لم يجبْ وكأنه لا يسمع أبدا، أدمى صمتُه قلبَها، وكانت روحها تسيل على كلمة "يا بني"، بكتْ، هرولت إليه تعثرتْ حين علق طرف جلابيتها بأحد كراسي المطبخ حتى كادت تسقط، لكنّها تداركت نفسها في اللحظة الأخيرة وعيناها معلقتان بسلام الذي يدير ظهره لها، كانت تراه ولا يفصل بينهما سوى مترين أو ثلاثة فقط، لكنها لا تصل إليه، ولا تدركه، هرولت وهرولت فبدا المطبخ وكأنه ملعبٌ لا تنتهي مساحته، تهرول دون أن تصل ولا تقطع شبرا إضافياً، فتلهث وتلهث فلا يرحمها الزمن ولا المسافة، قدماها مثقلتان لا تتحركان، شعرت أنها تراوح في مكانها بل وأنها تهرول بالاتجاه المعاكس، فكان يبتعد ويبتعد، وصورته تبهت وتبهت تدريجيا وكأنها على وشك الاختفاء، والأم على وشك الاختناق، خافت، ذعرت، وشهقت شهقت كثيراً أرادت أن تصرخ بأعلى صوتها: "لا لا لا تغب ثانية أرجوك لا تغبْ"، لكنّ صوتها كان مكتوماً.. مكتوماً لا يخرج من حنجرتها التي تختنق رافضةً غيابه والخيبة القاتلة هذه المرة، صرختْ صرخةً ملؤها الألم والقهر والاحتجاج والتمرد هذه المرة استطاعت أن تسمع صراخها قويا مدوّيا وكأن المدينة كلّها تسمعها. يدٌ مسحت على جبينها وخديها بقوة، ضمّها إلى صدره: " هيا ..هيا ..هوّني عليكِ!، كل شيء على مايرام! كل شيء على مايرام!"

لم تكن المرة الأولى التي زار سلام أحلامها، لكنّها كانت الأقسى، ولم تكن المرة الأولى التي يقتلها حضوره والغياب، لكنّ شيئاً ما أخبرها أن الأمر ليس أضغاث أحلام. لم تكن كذلك المرة الأولى التي يصحو فيها أبو ماهر على صرخاتها ويهدئ من روعها، لقد اعتاد ذلك حتى أنّ الليالي التي مرّت دون كوابيس كانت تعتبر استثناءً يثير تساؤله واستغرابه.

بقدر ما كانت لحظات عصيبةً على كليهما إلا أنها كانت لا تخلو من غبطةٍ مغلفة بالأسى، كان يسعد كثيراً حين يخاطب لا شعورُها شعورَه، بعيداً عن كل الأعباء والمشكلات اليومية والهموم التي تحيق بهما، حين تستنجد به وتنادي: "مراد!" كان يشعر أنها ما زالت، يسرا، الأنثى التي يحبها وتحتاج إليه بقربها، لمسةٌ حانيةٌ، منه وعبارات بسيطة جداً كانت تكفيها لترتاح، أما هو فقد كانت تكفيه الحالة الوحيدة التي تبقت له كي يشعر من خلالها أن الحرب لم تسلبه كل شيء وأن دوراً ما زال يمارسه كرجل.

كان لأبي ماهر جسدٌ ضخمٌ متناسقٌ جميل، حين يستلقي يكاد يملأ السرير كلّه، ومن الصعب أن يظهر لأحد أنه مصابٌ بالشلل، فإصابته أولى سني الحرب لم تؤثر إلا على طرفيه السفليين فقط، فظلت معالم رجولته كما كانت وما زالت، كانت ترى في كتفيه المليئتين العريضتين شفاءً لرأسها المثقل بالهواجس، وفي ذراعيه القويتين اللتين يضمها بهما على صدره كانت ترى أماناً وسط الحروب والأزمات والصواريخ والقذائف، ورغم قوّة واستقلال الأنثى بداخلها، كان يروق لها استسلامها، وترى في ضعفها، هنا فقط قوّة خاصّة. في ليالي الذعر اعتاد أبو ماهر أن يبقي جسده لصيقاً بجسدها، ويشدها إليه بقوّه حين تهمس له: "مراد!"، إلى أن تمرَ الأمور بخير، وغالباً ما كانت لحظاتهما تتوّج ببعض الحبِّ والكثير من الدّفء. ورغم أنّ أبا ماهر كان يعشقها كأنثى، كجسدٍ يغريه ويشتهيه، لا كرفيقة دربٍ وشريكة عمر فحسب، إلا أنّ ممارسة الحبّ الحميمة في ظل الخوف والفقد واليأس تكون أبعد من تشابك جسدين، وأعمق من اختلاط النور بالظلام فيهما ومن خلالهما، إنّ القلق والخيبة والقهر أمور تجعل من ممارسة الحبِّ طقساً مقدساً وعناق أرواحٍ في فضاءٍ عصيٍّ على الوصف. هنيهات تحمل كل التناقضات التي ينطوي عليها زمن الحرب، زمنٌ عنوانه الألم المجانيّ. ساعات بل أيام وسنوات مليئة بالكرب وبالعبث، كلّ ذلك لم يحلْ دون حضور رجولة أبي ماهر وأنوثة أم ماهر على سريرٍ مظلمٍ في منزلٍ مقهورٍ بمدينةٍ حوَّلتها الحربُ إلى مدينة أشباح، مصير أبنائها على كف عفريت والمجهول وحده ما ينتظرها.

وكالسّجين المنتظر النطق بالحكم إما بالبراءة أو بالإعدام، كان انتظار عائلة سلام له، حين انتشرت الأخبار حول تحرير بعض المختطفين في مدينة عدرا العمالية وفي غوطة دمشق قبل أربع سنوات، قرر ماهر، مدفوعاً بالأمل، التقصّي حول أخيه سلام علّه يكون أحد المحررين. في اتصال هاتفي صباحي أخبر أخته سماح أنّه سيقضي إجازته هذه المرّة في العاصمة دمشق للسؤال والتحري حول سلام، حذّرها بشدة أن يبقى الأمر سرّاً بينهما إلى أن يتأكد إن كان فعلاً سلام بين المحررين أم لا. أراد ماهر أن يجنّب والديه ألم الانتظار. "اخترعي أية حجة، قولي إن العقيد لم يوافق على إجازة لي، يجب أن أفعل ما بوسعي، يجب أن أجد سلام! إياكِ أن تقولي شيئاً عن هذا أفهمتِ؟!"

قال بحزم فردّت: "حسناً ماهر بالتوفيق!" أنهت المكالمة وقد استبد بها القلق والترقب، وفي رأسها صورتان تتصارعان: سلام أخوها المختطف، ووليد حبيبها، تحيط بهما عشرات الأسئلةِ التي تجيب عنها أسئلةٌ أخرى إلى مالا نهاية. انتابتها رغبةٌ عاصفة بالبكاء لولا صرير باب غرفة والدتها الذي جعلها تتدارك نفسها، دخلت أم ماهر غرفة الجلوس دون أن تقول شيئاً، تبادلت هي وسماح النظرات حيث لاحظت كلّ منهما التعب والحزن البادي على وجه الأخرى.

"يبدو أنك لم تنامي جيداً ماما! كابوسٌ جديد؟!" سألت سماح.

لم تجبْ أم ماهر مباشرة وإنما أطالت النظر في وجه سماح وكأنها تقرأ صحيفةً، تنهّدت وقالت:

"ما الأمر يا سماح، لستِ على مايرام! ما الذي يحزنكِ، أخبريني؟!" قالت الأم بصوتٍ امتزج فيه الحزن مع الحنان فخرج مبحوحاً مجروحاً، فكان ما سمعته سماح أنيناً لا كلمات.

أرادت التهرب : "لا أبداً، عادي، سأعدُّ لكِ القهوة ماما".

جاء صوت أبيها وهو يدخل دافعاً كرسيه المتحرك: "أريد فنجاناً أيضاً يا سماح، سادة هذه المرة، ثم اقترب من أم ماهر وهمس: "وزوجتي الحبيبة هي السكّر".

"أي سكّر هذا يا أبا ماهر؟ أنا أنطفئ. أنطفئ" قالت أم ماهر بصوتٍ خافت.

كانت تلك المرة الأولى التي تشعر فيها سماح بالتهديد. وكأنها طفلة تمسك بيد أمها وفجأة تشعر أنّ هذه اليد ترتخي فاقدةً قوتها المعهودة. لم يكن من السهل عليها أبداً أن ترى أمها واهنةً إلى هذا الحدّ، وكأنّ اليأس بدأ ينال منها. وبينما تحضّر القهوة، سمعت والدتها في غرفة الجلوس تتحدث بصوت هو الحزن ذاته.

"كابوس الأمس لم يطمئنني يا أبا ماهر".

"وهل سنصدق الأحلام يا يسرا؟ استهدِي بالله ولا تقلقي أرجوكِ!".

ضعفت سماح أمام اليأس والهمِّ الذي قرأته في صوت والدتها، فلم تستطع كتمان سرّ ماهر: "ماما.. ماما! افرحي قد يكون أخي سلام حياً يرزق، قد يكون بين المخطوفين المحررين" قالت بصوتٍ مضطرب.

خلال ساعات "حرب الأعصاب" كما يسميها أبو ماهر، كانت الأسرة الصغيرة أمام موسمٍ جديدٍ من مواسم الحرب لتحصدَه، المنزل صامتٌ جداً رغم أن التلفاز يعمل، الأب المقعد والأم المنفطر قلبها والابنة التي تساندها، رابعهم يسأل عن الخامس المفقود منذ سنوات، الأملُ حاضرٌ والألمُ يتربّص، الفرحُ محتملٌ والكرب وشيك. عودة سلام التي حولتها الحرب إلى حلمٍ، إن تحقق فسيتيح لروح أم ماهر التي جفّت أن تزهرَ من جديد وإلا فسوف يتجدد حزنها ويستمر قلبها المنفطر في النزف، كم صلّت وابتهلتْ ألا تحمل لها الساعات القليلة القادمة تجديداً لجرحها الذي لم يشفَ. طالت ساعات الانتظار واشتد اضطراب الهواجس داخلها، تأجّج الحريق في قلبها، وكابوس الأمس حضر بقوة.

دخل ماهر من الباب نظر في عيني سماح أولاً، الارتباك والذنب اللذان يأكلان ملامحها، كفاها المتشابكتان المرتجفتان، الطريقة التي جلس بها والداه بترقّبٍ وقلق، الجوّ المريب الذي يخيم على المنزل، كلّ ذلك أخبره أن سماحَ لم تكتم الأمر، انتقل بعينيه إلى أمه التي كانت على وشك الانهيار، هرولت إليه وقالت بصوتٍ مرتجف: "ما الأخبار؟!" لم يطل انتظارها حتى جاءها ردّ ماهر الذي أعلن بداية فصلٍ جديدٍ من الألم.

"لكن ماذا يعني هذا، لا معلومات حوله؟! لا جثة إذن هو حيّ!" تساءلت سماح بارتباك وقلق.

"الأفضل أن تصمتي أيتها الحمقاء!" قال بحنق.

على كرسيه المتحرك، كان مطرقاً رأسه بصمتٍ، غير منتبهٍ لشجار ولديه، أم ماهر التي اعتادت أن تتدخل بينهما لتهدئ الأجواء، كانت شاردةً أشبه بالغائب عن الوعي، عيناها مفتوحتان وكأنها في عالم آخر. سماح التي انفجرت بالبكاء وهرولت إلى غرفتها مغلقةً البابَ خلفها بقوّةٍ، لم تكن مدركةً أن الأصعب من الجراح هو نكء الجراح بعد شيءٍ من التعافي، وأن الأقسى من اليأسِ هو إحياءُ الأملِ ثم قتله ثانيةً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) حمص هي مدينة سوريّة، تعتبر ثالث أكبر مدن البلاد من حيث عدد السكان، بعد دمشق وحلب، تقع على نهر العاصي في سهل الغاب، متوسطة البلاد وواصلة المحافظات والمدن الجنوبية بالمحافظات والمدن الساحليّة والشماليّة والشرقية، على بعد حوالي 162 كم من شمال العاصمة دمشق وهي العقدة الأكبر للمواصلات في سوريا بحكم موقعها، وهو ما أكسبها موقعًا تجاريًا فريدًا، وأغناها بالعديد من المرافق الحيوية والصناعية والتجاريّة؛ فضلاً عن ذلك فإن المدينة هي المركز الإداري لمحافظة حمص. مناخها معتدل غنية بالآثار. أما أصل التسمية، فهو مستمد من اليونانية إيميسا وتعني إلهة الشمس. يبلغ عدد سكانها حوالي مليون ونصف المليون نسمة.

  • رواية إميسا صادرة عن منشورات التكوين في دمشق، 2019

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم