"استيقظي يجب أن تكتبي المقدمة. " تستيقظ من نومها فلا ترى أحداً، لكنها تسمع الصوت نفسه: "المقدمة جاهزة." فتجيب: "و لكنني لم أكتب الرواية بعد و ليس لدي إلا بعض النصوص." "لا تقلقي، الرواية بدأت لذلك حتماً ستنتهي. أغمضي عينيك وستشاهدين المقدمة." يا لجنون هذا الصوت! ولكنها تطيعه، فتترك فراشها لتكتشف بأن الساعة الثالثة فجراً. تحضّر لنفسها القهوة وتغمض عينيها لدقائق فتتضارب الصور في خيالها، ثم تمسك القلم وتكتب "اركضي بسرعة، اركضي، لا تتوقفي!" فتركض كالمجنونة و لا تعرف لماذا تطيع هذا الصوت؟ وممّ تهرب؟ "اركضي أسرع لربما تنجين من اللامصير." تفتش عن صاحب الصوت، فلا ترى أحداً، فتركض بخوف أكبر و بسرعة. فجأة ترى إمرأة تستلقي على سرير لوحدها و تبكي، فتتوقف و تراقبها: "أرجوك يا رب لا تتركني... لا تتخلى عني كما تخلى عني هذا العالم!" وإذ بالمرأة تتوقف عن البكاء و تنظر إلى البعيد و تبتسم... تفتش بعينيها عن ما يبهج هذه المرأة، فترى في الضباب إمرأة تركض إلى أحضان رجل ينتظرها تحت شجرة في الليل. كم قريبة النجوم منهما! "لماذا تأخرت؟ انتظرتك دهراً. عندما أتعب من كل العالم، لا أحد يريحني إلاّك." ترى المرأة تضمه و تلمس وجهه بشوق. "لا يستكين قلبي إلا بين أحضانك..." وفجأة تنتبه بأن المرأة في السرير هي نفسها في أحضان الرجل. وما هي إلا دقائق حتى يتلاشى العاشقان في الضباب، ثم يضمحل الضباب و يسيل حبراً في الهواء و التراب، و المرأة على السرير تعود الى بكائها وحزنها". "أركضي، ما بك؟ ألا تفهمين؟" أشاحت بنظرها عن المرأة وركضت كالمجنونة لساعات، ولم يوقفها إلا صوت أمها يناديها، فتتوقف وتنظر إلى الوراء لتراها تمسك بيد فتاة ضعيفة جداً. "لقد قلت لكِ يا طفلتي أن تنظري إلى العالم ولكنك مصرّة أن تري الأحلام فقط!" "أنا أنظر يا أمي، ولكنك تريدينني أن أرى العالم بعينيك! أنا لست أنت. متى ستتقبلين هذا الواقع؟" تبتسم بسخرية وتقول لنفسها: "كنت أنظر يا أمي، ولكنني لم أعرف بأنني عمياء، وما كنت أراه هو خيالي فقط؟ وعندما اكتشفت بأنني لا أبصر، استعدت نظري، لكن قلبي الرقيق منعني من أن أنظر إلى بشاعة هذا العالم لذلك ابتعدت عن الجميع، وأغمضت عينيّ !" وإذ بأمها و الفتاة تختفيان و الصوت يصرخ: "اركضي، أهربي من مصيرك، لا تتوقفي..." تركض حتى يضنيها التعب، فتتوقف للحظات. وإذ بها ترى بعض المارة يمشون ولا يتكلمون والإرهاق يطوف على وجوههم. و بينما هي تمشي و تتأمل المارة بحذر، ترى شاباً في العشرين من عمره يطرق باب بيت قديم، ولكن لا أحد يفتح له، فيتوقف للحظات ثم يطرق بقوة أكبر، ولكن من دون جدوى، فيركع على الأرض و يبكي. فكّرت "وجهه مألوف." وتذكرته: "يابني، توقف عن البكاء وتعالى لنتكلم." " من أنت ؟" "منذ فترة أخبروني عنك و أتيت لأراك، و لكنك رفضت أن تكلمني!" تأملها و تذكر وجهها. "نعم ، نعم، تذكرتك، أنا آسف. كنت محبطا"وخجلي منعني من التكلم معك. سأموت والعار يحيط بي...سأموت وحيدا"،حتى أمي لا تكلمني!" "لماذا تفكر بالموت ؟" ضحك بسخرية: "لأن هذا مصيري !! وبماذا افكر؟ بمستقبل زاهر؟" "لماذا تتكلمين معي؟" "لأنني لا أحاكم أحداً يا بني." "أنا لست إبنك وأمي أكبر منك بكثير.كم أنت غريبة!" "الغرابة ليست بأمر مزموم. إسمعني، أنت تعيش على الحافة، و لكن إذا إستمريت هكذا ستقع." "حافة؟ ماذا تقصدين ؟" "كل الذين تراهم هنا يعيشون على الحافة، ولكنهم يتّبعون قوانين معينة لذلك لا يقعون!" " ماذ؟لم أفهمك."
"يا بني، تجرفنا أحيانا" الحياة إلى الحافة، ولكي نستطيع الإستمرار يجب علينا أن نولد من جديد، و بعد الولادة الثانية، فرحك ، و حزنك ، ودينك، لن يكونوا كالاخرين. ستصبح غريباً حتى عن نفسك، ومع الوقت ستتعرف الى ذاتك الجديدة." "لماذا تخبرينني بكل هذه الامور ؟!" "إسمع، هنالك شاب يدعى تيموسي راي، و هو الوحيد في العالم الذي شفي من مرض الإيدز وحالته هذه يجب أن تعطيك الأمل!؟" " هذه الحالة الوحيدة في العالم، وأنت تريدينني أن أتعلق بأمل الشفاء." "نعم، أنا أعرف بأن ما أقوله يبدو غريباً عليك، لكن البحر يستعبد كل رمال الشاطئ، ولكن تأكد هنالك حبة رمل مطمورة روحها حرة. ولا يهاب البحر إلاّ من روحها التي حتماً ستكسر قضبان سجنها." تأملها: "مجنونة هذه المرأة، ولكنها طيبة فعلى الأقل تحادثني." "شكراً لك، ولكن يجب أن أذهب." ودّعها بسرعة و اختفى. بالرغم من أنّها لم تسمع الصوت المجنون، إلا أنها مشت: "أين ذهب المارة؟ أين اختفى الجميع؟" و بينما هي تمشي، لاحظت إختفاء زرقة غيوم السماء وتحول الأشجار والعشب إلى يباس. لم تفهم شيئا،ً فمشت بحذر وخوف وشعرت برجفة تجتاحها. وما هي إلاّ لحظات حتى وصلت إلى مكان مغمس بالرماد، وكأن حريق عظيم شبّ فيه فدمّر كل شيء. لطالما اعتبرت نفسها قوية، ولكن تفاجأت من نفسها تغرق في مخاوفها. حاولت أن تهرب من هذا المكان المشؤوم وأن ترجع الى الوراء ولكنها لم تستطع. وكأن هذا الطريق قدرها. وإذ بالمكان يغرق في ليل حالك، لا أثر لأشعة النور، فتركع على الأرض وتبكي، ثم تنظر إلى السماء الحالكة وتصرخ: "لماذا؟ هل من أحد يمكنه أن يخبرني لماذا؟" لا أحد يجيب. وما هي إلاّ لحظات حتى تحولت السماء إلى بلورة زرقاء رائعة الجمال. واذ بأشعة تنبثق منها تدريجيا"؛ و فجأة سمعت صوت إنفجار في الهواء لتنكسر مرآة السماء الزرقاء وتهطل زجاجاً على عينيها و جسدها. حاولت أن تحمي نفسها بيديها، ولكن الزجاج لم يتوقف عن الهطول بغزارة وشعرت بالدماء تسيل من عينيها و جسدها فخافت أكثر. و بعد دقائق، توقّفت العاصفة المجنونة لترفع رأسها وتكتشف بأنها فقدت نظرها دون أوجاع. مشت بحذر و هي تشعر بالزجاج يتكسّر تحت قدميها، فتوقفت وصرخت كالمجنونة:"أين أنا؟ وما هي هذه الأرض لتأخذ بصري؟" وسمعت الصوت المجنون: "أنت لست في ارض غريبة، بل في قدر ليلك الأبدي... وصدقيني أفضل لك أن تكوني كفيفة."

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم