في مطار بيروت، عند نقطة التفتيش الأخيرة، وموظف المطار يهم بختم جواز سفري، سائلاً بلطف عن عملي، وهل أنا مشهورة، ضحكت بزهو وغموض متكلفين، كي أضفي أهمية على ما أفعل، وأنا أهمس بخفة كاذبة أني لست ممثلة كما يظن، لدي فقط شركة إنتاج تلفزيوني، وأعمل حالياً على مسلسل رمضاني من ذاك النوع السوري "الغنّوج" الذي فتن المشاهدين العرب في السنوات الأخيرة، لم أخبره عن روايات نشرت باسمي، فذكر الكتابة الرصينة قد يثير الكآبة، أردت إثارة اهتمامه بشيء حداثي فقد كان وسيماً بشكل لافت وأنا كنت أزحف بثقل غريب في روحي تجاه الأربعين.

بينما هممت بسحب جواز سفري من يد موظف المطار الذي غمرني بأسئلته ووسامته الموجعة، اقترب ضابط بلباس عسكري وأخبرني بهدوء أني لن أستطيع الصعود إلى الطائرة، فلديهم بضعة أسئلة عليّ أن أجيب عنها أولاً. امتثلت لطلبه وذهبت لاجلس في غرفة باردة شديدة الاتساع، خالية من الأثاث إلا كرسي مخلّع رمي في زاويتها المعتمة.

كنت عندها في طريقي إلى دبي، بعد أن قضيت عدة أشهر في فندق بيروتي يطل على خليج جونية، فقد تركت الشام بعد ما بدأ كل ما فيها يطردني. كنت أخوض صراعاً غريباً حول بيت العائلة وبالأخص مقبرة بيت العائلة. التركة التي انتقلت بشكل مريب من ملكية مارلا إلى ملكية الدكتور خليل لم تجلب لي سوى الخراب، إنه بيتنا في حارة الزيتون، البيت الذي جذب خليل وأوقعه في حب مارلا ابنة عمه، حتى نهاية حياتها وحياته، قريبته التي عاش والدها معظم حياته مسافراً، أنجب ابنة وحيدة لطالما سمع عنها خليل ولم يرها لكنه عندما وصل الشام لم تفتح له المدينة أبواب دهشتها فقط، بل عمارتها ووجوه نسائها وبيتاً دمشقياً احتلته معشوقته.

البيت الذي طالما أعلنت مارلا أنه بمركزيته يمثل ذكورية مضاعفة، فهو بالنسبة لفلسفتها والسفسطة الهذرة للثقافة المستوردة، أشبه بسجن، صحيح أنه متسع ولا نهائي الجمال، لكنه بالنهاية سجن، ابتلع حيوات بأكملها، أجيال وأجيال مرت في خيالاته، في برده وحره، في وروده ودفقات المياه في بحراته الثلاث، سجن لا يقوى على هندسته غير الرجال، فعمارة المدينة لم تناسب ذوق مارلا أوروبي الصنع، فهي ليست عمارة متسيبة، سهلة ناعمة أو أنثوية، فبيوت الشام بيوت تفتح على داخلها، نوافذها كوى ضوء وشبابيكها مثقبة كي يراك من في الداخل دون أن تراه، نظرة الله تلك، هي نظرة صاحب المكان إلى غريب سيقتحمه، الشام المنهوبة للغزاة، فهمت معنى إخفاء الغنى والجمال ودفنهما في الأزقة المغمّة، في الانعطفات الملتوية للطرقات الضيقية، في حارات "السد" حيث الطريق يودي إلى اللاشيء، تصل فقط إلى الشهقة المفاجأة ، تصل جمال القصور المخبأة بعناية وراء مدخل بيت محشور الزوايا، مدخل للمؤمنين، كأنه جحيم تطهيري، يقودك بعد الاطمئنان على العفة إلى الجنة، حيث بإمكانك أن تحيا عمرك بأكمله دون أن تضطر لمغادرة ذاك البيت، فمن يغادر الجنة؟

ـــــــــــــــ الرواية صادرة حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان في بيروت.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم