المَعْمِي بالوهم السحري لهذا العالم المرتبك

اسمي (ناصر سالم العتمي) أمتلك بوفية داخل كلية العلوم، ملاصقة للسور، وتطل على حديقة.

أكسب لقمة عيشي في هذا المكان منذ عشرين عاماً. وأعرف كل ما يدور في الإدارة والقاعات، كما يعرف الرجل الحصيف بيته. وعندي من أخبار الدكاترة والطلبة ما ليس معروفاً حتى لعائلاتهم. أنا الأرشيف الحقيقي لكلية العلوم! لطول خبرتي بأنماط البشر التي تقرقع بأقدامها على هذه الرقعة من الأرض، فإنني بت أعرف مسبقاً ما هو قدرهم المحتوم.

إنها خبرة تكتسب بمرور آلاف الأيام، وهي معرفة لا يمكن شرحها في كتب أو تعليمها لأحد. الذي يريد أن يصير مثلي، عليه أن يزاول عملي هذا مدة عشرين سنة. لم يُخلق بعد ذلك الذي يتبجح بأنه يستطيع التحكم في قدره.. وتغييره. قدرنا مرسوم في ملابسنا وسلوكنا وحركة أجسادنا، وهو أوضح ما يكون في نظرات عيوننا. من ملاحظتي لأشياء بسيطة كهذه، أستطيع أن أتنبأ بالغيب، أن أدرك الاتجاه، أن أفهم كيف يعمل الإنسان على اكتشاف مصيره. كل طلبة العلوم الذين كانوا يفضلون ارتداء القمصان الصفراء الفاقعة انتهى بهم المطاف إلى الجنون.

من بيع السندوتشات والعصائر والشبس تزوجت، واشتريت بيتاً في القرية أسكنت فيه عائلتي، وفي رأس كل شهر هجري أبعث لهم بالمصاريف. رزقت بعشرة، أربعة أولاد، وست بنات، درَّستهم جميعاً حتى نالوا الشهادة الإعدادية. لم أشجعهم البتة على إكمال تعليمهم، نزعت من رؤوسهم نهائياً فكرة الالتحاق بالجامعة. الذي عايشته في الجامعة لا يمت إلى العلم بصلة، فخلف الواجهة الأكاديمية المبهرجة، لا يحصد الطلاب سوى الغائط. هل تعرفون ما هو أكبر إنجاز تحققه جامعاتنا؟ إنه تحويل الطالب الذي ينتمي إليها من بني آدم إلى حمار!

هذه الشغلة ليست سهلة، حتى عتاولة الشعوذة في أريافنا لا يقدرون أن يحولوا هذا العدد الضخم من البشر إلى حمير. في قريتي يقام سوق "الثلوث" الأسبوعي، وفيه يتم بيع وشراء الحمير التي يتراوح عددها في الغالب ما بين خمسة إلى عشرة. وأما هنا فيوجد أكبر سوق للحمير. والظريف أن كل حمار يحمل بطاقة، لكيلا يخلطوا بينه وبين الحمير الأخرى! أما في سوق قريتي فلا يحدث ذلك، لأن كل حمار معروف بما فيه الكفاية لتمييزه عن غيره من الحمير. إن الدكتور في جامعاتنا يخدع الطلاب، ويقدم لهم محاضرات مفذلكة، أشبه بألعاب الحواة، فيما الطلاب يخدعونه مستخدمين أساليبه نفسها، ويكتب لهم النجاح. ما من عالم أو مخترع طلع من هنا.. ولو حاول أحدهم أن يفعل، فإن الأغلبية الغبية ستدفعها آفة الحسد إلى شطبه من المجتمع، وتصفيته معنوياً وجسدياً؛ الذي يُظهر نبوغاً هنا هو كالساعي إلى حتفه بظلفه.. مواهبه سوف تحول كل من حوله إلى مسدسات مُذخرة موجهة صوب صدره. أبنائي أذكياء جداً، ولذلك حرمتهم من التعليم العالي، خوفاً عليهم من غضبة الخاملين وانتقامهم. أنا لا أمزح، ولا أبالغ. لقد رأيت بعينيّ هاتين على مدى عشرين عاماً، العشرات من العباقرة الفطريين الذين دمرتهم آلة الحقد الجهنمية وأحالتهم إلى حطام.

الفساد الأخلاقي متوطن هنا، يكاد المرء يشمه في الهواء! شبكات الدعارة تجوس بين الطالبات، وتحصل على غلة وفيرة. وسماسرة الزواج السياحي يقدمون خدماتهم في وضح النهار. وأما الشيء المروع، فهو نظرة الطالب إلى زميلته.. إنها نظرة غير لائقة، وتفتقر إلى الاحترام، إنه لا يتعامل معها بوصفها طالبة علم، وإنما بوصفها طالبة نكاح! غالبية الدكاترة مهذبون وعلى خلق، ولكن حتى في هيئة التدريس توجد رقعة من العفن. العام الماضي كان الدكتور عقلان بطل فضيحة أخلاقية، انتهت فصولها بكارثة محزنة. كان عندنا طالب اسمه (وضاح) ذكي بشكل استثنائي، وهو الوحيد بين أقرانه الذي كان يحرز الدرجات النهائية في أغلب المواد. لكنه ومع ذكائه الخارق لم يتمكن من إحراز المركز الأول، لأنه رسب في إحدى المواد، وتحديداً المادة التي يُدرسها الدكتور عقلان. هل تعرفون سبب رسوبه؟ وسامته المفرطة! الفتيات كن يتحلقن حوله ويتشاجرن عليه. جماله الفتان حوله إلى أسطورة في عيونهن، فلم يعد لهن من حديث إلا عنه. بوفيتي يوجد بها قسم للبنات، محجوب عن العيون بستائر، لكي تتمكن الطالبات المنقبات من خلع النقاب، وتناول طعامهن براحة. أنا الوحيد الذي يحق له الدخول والخروج إلى عشهن، ورؤية وجوههن، وسماع ثرثرتهن. هن أيضاً يتعاملن معي دون حرج، ويرفعن الكلفة، ربما لأنني أبدو في عمر آبائهن. هذا الوضع الخاص، أتاح لي معرفة ما يدور في عالم البنات المغلق، وأن ألمس مقدار تعلقهن العشقي بوضاح، بل إني سمعت إحداهن تقول بلا حياء، أن وضاح هو الرجل الوحيد في الكلية الذي يحرك الشهوة فيها، وأنها عندما تراه تشعر برعشة..........

كلنا كنا نقول في أنفسنا – نحن الذكور – كم هو محظوظ. ولكن الحظ توقف عن مساندته، عندما لاحظته عينا الدكتور عقلان، فتحولت وسامته وبالاً عليه. حاول المسكين بشتى الوسائل مراجعة ورقة امتحانه، ولكن الدكتور عقلان لم يكن له إلا مطلب واحد.. وهدده بأنه سيرسبه في جميع المواد التي يدرسها له إذا لم يستجب لمطلبه. تعيش عائلة الدكتور عقلان في الريف، وأما هو فيسكن وحيداً في الشقة المعطاة له من الجامعة. وفي هذه الشقة الفارغة يستدرج الدكتور عقلان ضحاياه من الذكور والإناث، ويستغلهم جنسيا. إلى تلك الشقة النجسة انسل وضاح ورضخ للضغوط. بعدها بأيام علق الدكتور عقلان ورقة في لوحة إعلانات القسم، يعلن فيها تصحيح درجة وضاح، ومنحه 100% في مادته! كان هذا الإعلان بمثابة فضيحة مدمرة لسمعة وضاح. وصمة عار في جبين وضاح. دليل إدانة لا يقبل الشك على سلوك وضاح. جميع الطلاب والطالبات عرفوا بأن وضاح قد تنازل عن كبريائه، ونام في فراش ذلك اللوطي. صار الأمر حديث الكلية، حتى عمال وعاملات النظافة كانوا ينمّون عليه، ويستهزئون به، ويرددون أغنيات كلماتها محوّرة.

زملاؤه الذين يكنون له البغض بسبب تهافت الفتيات عليه، كانوا يُعيرونه ويزدرونه، ويلمحون إلى علاقته الشاذة. انقلبت حياته إلى جحيم، وفقد ثقته العالية بنفسه، ولم يعد يقدر أن يرفع بصره في عين أحد.. كان يتكسر ويتحطم أمام عيوننا، ونحن نراقبه ببرود وتشف، وكأنه صرصار محاصر بين كتيبة من الجزمات الجاهزة لهرسه.

لم يصمد ..................

غاب أسبوعاً عن الكلية، ثم سمعنا أنه انتحر.

وفي هذه السنة كرر الدكتور عقلان فعلته، ولكن الضحية في هذه المرة كانت أنثى، طالبة حسناء اسمها (سماء ناشر النعم). لقد رسبها في مادته، مع العلم أن درجاتها في بقية المواد تتراوح بين جيد جداً وممتاز. وعندما ذهبت إليه لمراجعته، عرض عليها تسوية الأمر بطريقته المعهودة. سَمعتها تستفسر من زميلاتها، وهي تفطر بسندوتش كبد عن معنى كلمة (بردقوش)؟ لم تفهم أية واحدة منهن معنى الكلمة، وأما أنا فقد أرهفت سمع، وأعطيتهن ظهري. قالت لهن موضحة: الدكتور عقلان وعدني أن يُنجِّحني في مادته إذا سمحت له أن يَدُق البردقوش.

توقفن عن بلع الطعام، وخفضن رؤوسهن.. لقد فهمن، ولم يعلقن بكلمة.

قبل خمس سنوات نقل الدكتور عقلان مكتبه إلى الطبقة الثالثة، واختار تحديداً الحجرة التي تطل نافذتها عليّ وعلى الحديقة. ولأن هذه النافذة تقع في الجانب الأقرب للسور، فهي تعتبر أفضل مرصد على الإطلاق للتلصص على الطالبات اللواتي يترددن على جناح البنات في بوفيتي.

من تلك النافذة المنحوسة، تمكن الدكتور عقلان من رؤية وجه سماء، وتأمل محاسنها بروية، وكأنه يحتسي قدح عسل فائق اللذاذة والحلاوة.

سماء سمراء البشرة، قامتها نحيلة كعود قصب السكر، أنوثتها تفتك بالقلوب حتى وهي منقبة، عيناها واسعتان، وحدقتاها سوداوان تشعان رقة وعذوبة، ورموشها كثيفة طويلة لها تأثير أشبه بالسحر، إذا رمت بطرفها إلى واحد من الرجال أصابه سقم لا براء منه، وسوف يجري عشقها في عروقه مختلطاً بدمه إلى يوم القيامة، فإما يحظى منها بالقرب والوصال، وإما يتردى في مهاوي الجنون والموت.

أقسم بالله أن عينيّ لم تريا بنتاً في مثل جمالها منذ أتيت إلى هذه الكلية قبل عشرين عاماً. ولن تظهر بنت تضاهيها في الجمال ولا حتى بعد عشرين عاماً أخرى.

أظن أن الله يجود علينا ببلقيس واحدة كل ألف عام. يرسل إلينا مع بداية كل ألفية جديدة هدية فاخرة: ملكة سبئية ذات جمال خرافي لا نظير لمثيله على وجه الأرض.. هدية ثمينة لا تتكرر إلا مرة واحدة كل ألف عام.. هكذا هي عطايا ملك الملوك! يُحلق بوم فوق هامات كل الذين يروحون ويجيئون إلى الكلية متخذاً صيغة هذا السؤال: هل تستسلم سماء وتمنح عذريتها للدكتور عقلان أم تقاوم؟

لا حديث للطلبة والطالبات والموظفين إلا عن هذا الموضوع.

الغالبية ترجح سقوطها، زميلاتها المقربات اللائي يعرفنها معرفة وثيقة، يؤكدن أنها لن تساوم في شرفها، وإذا اقتضى الأمر، فإنها ستتخلى عن الدراسة الجامعية، وتمكث في البيت.

أنا أيضاً أرجح رأي زميلات سماء، فمن خلال تأملي لقسمات وجهها، استشففت أنها بنت قوية الشخصية، إرادتها صلبة، تحمل في داخلها روحاً متحدية، شامخة، تفيض كبرياءً واعتداداً بالنفس. ولذلك أرى أن الدكتور عقلان قد ارتكب خطأ جسيماً، لأنه مهما أوتي من السلطان والسلطة، لن يتمكن أبداً من إخضاعها، لأن سماء لن تسلمه جسدها، ولو أدى ذلك إلى مصرعها.

طار خبر مشئوم في سماء الكلية، إشاعة قذرة أن سماء التي يبحث أهلها عنها، تقيم منذ أسبوع في شقة الدكتور عقلان. لعنهم الله، يتهمونها بالفجور، بينما المظلومة لا يعلم أحد أهي حية أم ميتة. الشرطة تحوم حول الدكتور عقلان وشقته، إنهم يشكون فيه.. هناك مبررات قوية تدعم شكوكهم. يظنون أن سماء قد ذهبت إليه في شقته، لتعالج مشكلتها معه، وأنها صدت محاولاته في التودد إليها، فلجأ إلى اغتصابها بالقوة، ولتخوفه من ثأر رجال قبيلتها، أقدم على قتلها، وإخفاء جثتها.

زارني أمس ضابط شرطة لا أتذكر اسمه، أسمر طويل القامة، حليق الذقن وله شارب، شعره جعد كشعر الزنوج، أنفه حاد كخنجر، وأسنانه صفراء من التدخين.

حضر إلى هنا قبيل الغروب بنصف ساعة، وكنت قد أنهيت أعمال التنظيف والترتيب، وعلى وشك المغادرة.

قال لي: نحن نبحث عن طالبة اسمها سماء، مختفية منذ أسبوع، هل تعرفها؟

جازفت وصدرت مني همهمة موافقة. نقر أسفل علبة السجائر بسبابته، فقفزت سيجارة إلى الأعلى كأنها سمكة، فالتقطها وأشعلها بقداحة حمراء رخيصة.

استغربت من مهارته ودقته في انتزاع سيجارة واحدة فقط وبنقرة خفيفة!

قال نافثاً الدخان إلى السقف: متى رأيتها آخر مرة؟

قلت له: يوم عيد الحب.. في ذلك اليوم دخلت إلى جناح البنات، ونادت عليّ، وأهدت لي غصن ريحان، فشكرتها وعلقت الغصن بأذني، مبادرتها جعلتني أحمرّ خجلاً وأرتبك، رغم أني صراحة لا أستحي من النساء البتة، ولكن سماء حالة خاصة، تحرك مشاعر الحجر.. طلبت سندوتش كبد ساخن، وعصير رمان مثلج.. جلست في تلك الزاوية المواجهة لأشعة الشمس، وتحلقت حولها صديقاتها، ورحن يسألنها ما إذا كانت قد حصلت على هدية من حبيب أو حتى معجب، فأخبرتهن أنها لم تلتق بعد بحبيب العمر، وفتحت شنطتها السوداء وأرتهن محتوياتها.. ربما أرادت أن تخرس ألسنة السوء، وتؤكد أمام أكبر عدد من الشهود، أنها لم تقبل هدية عيد الحب من الدكتور عقلان. سمعتُ الطلاب يثرثرون أن الدكتور عقلان بعد انتهاء محاضرته، طلب من سماء البقاء في الفصل.. لا أحد يعرف ما هو الحوار الذي دار بينهما.. لقد مكثا وحدهما مدة ربع ساعة.. الطلاب يعتقدون أنه قد قدم لها هدية غالية الثمن بمناسبة عيد الحب.. الخبثاء منهم كانوا يضحكون بسخرية، ويقولون أن الدكتور عقلان قد هداه الله، وأقلع عن الشذوذ، وأصبح يبحث عن الجنس الطبيعي. في ذلك اليوم لم تكمل سماء سندوتش الكبد، قضمت منه شيئاً يسيراً، وتجرعت شراب الرمان ببطء وكأنه دواء مر. ذهبت صديقاتها إلى المحاضرة التالية، وأما هي فقد تخلفت، بقيت وحدها تدير الكأس بين كفيها، وترشف منه جرعات صغيرة، تمجها في فمها زمناً قبل أن تبلعها، كانت غارقة في تفكير عميق، وحزن لا يوصف يظلل وجهها. كان قلبي يتقطع من الألم عليها، ولكن ماذا يمكن لواحد مثلي أن يفعل؟ كنت أشرد في أحلام يقظة، وأتخيل نفسي أحمل بندقية آلية، أهدد بها الدكتور عقلان، وأجبره على منح سماء الدرجات التي تستحقها، ولكنها بطولة جوفاء، تنتهي بتنهيدة طويلة. قرابة الساعة الحادية عشرة، نهضت سماء بتثاقل ودفعت حسابها، ثم رأيتها تتجه ناحية الحديقة، واختارت الجلوس على ذلك المقعد المجاور لشجرة الرمان. لا أدري لماذا انتابني في تلك اللحظة، شعور قوي بأنها كانت تبكي. هبت عاصفة رملية، أعمت عيوننا بغبارها، وبعض المظلات سقطت على الأرض، فخرجت من مطبخي لأعيد نصبها. استغرقت خمس دقائق في هذا العمل، وحين رجعت، ورنوت ببصري إلى سماء، فوجئت بوجود رجل يجلس أمامها، وظهره إلى جهتي. كنت أختلس النظر إليها قدر استطاعتي، رغم مشاغلي الكثيرة جداً، وأصارحك بأن قلبي لم يرتح لذلك الرجل، وشعرت بغم وضيق في صدري، وكنت أخطئ في طلبات الزبائن، بسبب توتري وتشتت ذهني، ووقعت مشادة مع طالب بذئ، كادت تؤدي إلى عراك بالأيدي، لولا تدخل أهل الخير، وفي هذه الدقيقة التي غفلت فيها عن المراقبة، رحلت سماء، ومن ساعتها لم أرها بعد ذلك أبدا.. وأما الرجل الذي كان معها، فقد أشرت له بيدي بما معناه "أين ذهبت؟". ففتح كتاباً أبيض وأشار إلى صفحاته.. أهملته، ولم أعره اهتماماً، وانشغلت بتلبية الطلبات، فلم أدر متى غادر الحديقة.

قام الضابط بتدوين خربشات سريعة في مفكرته.

سألني مجدداً: اعطني أوصاف ذلك الرجل.

هرشت رأسي وقلت له: لم أتمكن من رؤية وجهه.. رأيت قفاه.. إنه كهل، قوي البنية، عريض المنكبين، شعره أبيض ناعم، يتلألأ تحت أشعة الشمس كالألماس.. الآن حين أستحضر هذه الذكرى، أنتبه إلى فرادة لون شعره ، لقد كان لونه الأبيض يلمع بقوة تبهر الأبصار!

قال لي وهو ينظر إليّ متشككاً في سلامة أوصافي: ماذا كان يلبس؟

قلت : لا أتذكر.

قطب حاجبيه وقال: حاول أن تتذكر.

أطرقت برهة محاولاً التذكر، شيء غريب أنني لم ألاحظ ملابسه، لا شكلها ولا لونها.. الذي ثبت في عقلي هو لون شعره وبريقه كحجر كريم.

باضت الشمس بعد غروبها ظلاماً موحشاً، أشعلتُ قنديلاً أصفر، وتشاغلتُ بإعداد الشاي.

سألني وهو يحسب عليّ أنفاسي: هل تعتقد أن هناك علاقة تربط ذلك الرجل باختفاء سماء؟

قلت: لا أعرف.

قال: هل تعرف من هو؟

قلت: لا.

قال: هل يشبه س أو ص من الناس؟

استدرت إليه وناولته كوب شاي يتصاعد منه البخار: إنه لا يشبه أحداً ممن أعرف.. قلت لك يا فندم هناك علامة مميزة تستطيعون الاستدلال بها على شخصيته.. شعره الأبيض.

امتعض فمه، وبدا كأن حموضة تصعد من معدته إلى حلقه.

سألني بجفاف: هل أنت متزوج؟

رددت عليه: نعم وعندي عشرة أولاد.

قال : أين تسكنون؟

تأتأت في جوابي: أس.. أسكن قريباً من هنا في غرفة بلا حمام.. وأما عائلتي فتعيش في القرية.. في بيت مِلك.

قرّب وجهه من وجهي: لماذا لا يعيشون معك؟

قلت وأنا أرفع كتفي: إمكانياتي المادية لا تسمح لي باستئجار شقة لعائلتي في المدينة.

نظر في عيني مطولاً حتى أن رعدة هلع ضربت معدتي.

استدار وخرج دون أن يودعني بكلمة.

شعرت بالخوف من نظرته الحادة، الاتهامية.

أغلقت البوفية وأنا أرتجف، رحت أتخيل نفسي في قبو تحت الأرض، والجلادين يتناوشونني بالصفع والركل واللكمات، وأنني تحت ضغط التعذيب أعترف بأن دم سماء في رقبتي. لم أذهب إلى أي مكان، توجهت مباشرة إلى حجرتي، وحين مددت يدي في الظلام، لاحظت أن مكان مفصلة القفل قد تغير.. هناك من نزعها مع القفل، وأعاد تثبيتها في مكان أخفض قليلاً.. فتحت القفل، وأشعلت القنديل، وعلى الفور استنتجت أن الشرطة قد قامت بالتفتيش في غيابي. سارعت باستخراج علبة الحليب المجفف من تحت السرير وفتحها، كان مالي على حاله لم يمس، فبرد فؤادي. إنها غلطتي، لقد تكلمت مع كثيرين عن الرجل المجهول الذي صحب سماء في الساعة الأخيرة قبيل غيابها النهائي.. والظاهر أن من بينهم مخبرين، هم الذين وشوا بي للشرطة، ونقلوا إليها أقوالي، ما أدى إلى أن يركزوا أنظارهم عليّ.. لا أعرف ماذا يظنون بي؟ أعتقد أنه من المستحيل أن يتسرب الشك إلى نفوسهم بشأني.. آه ليتني قطعت لساني قبل أن أتفوه بأية كلمة.. سيجرجرونني غصبا، في متاهة هذه القضية، ومتى عنّ لهم سينقضون عليّ ويستجوبونني، وهات يا سين وجيم حتى تنتهي القضية، هذا إذا كانت ستنتهي أصلاً.. كم أكره هذه الجامعة الموبوءة التي تعج بالمخبرين المتخفين كالسحالي في الشقوق والحفر.. عشرون عاماً وأنا حذر في تعاملي معهم، وهاأنذا أقع كصبي غر في بالوعة تقاريرهم.. إذا نجوت من هذه القضية، وخرجت سالماً من الضرب والحبس والإهانة، فإنني أنذر لله أن أذبح كبشاً، أوزع لحمه صدقة على الفقراء والمساكين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *وجدي الأهدل- روائي يمني.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم