احتجت لزمن طويل كي أفهم بأن نوبات الألم التي تضرب رأسي وظهري وبطني وعظامي بعد انتهاء عملية نقل الدم أو خلالها. وتلك السخونة التي تبدأ من أذنيّ وتمتد لوجهي ثم تنسكب على جسدي كله ليست مجرد حساسية بسبب عدم فلتره الدم وفصل أجزاءه كما قال الأطباء. بل كان أمراً يشبه حلول شيء من روح المتبرع في جسدي. فأرى بعد زوال الألم جانباً من حياته وتجاربه، أحلامه، أفراحه وأحزانه لكنني لم أكن أستطيع وأنا بتلك السن الصغيرة شرح ذلك بالكلمات. وعندما كبرت صار هذا متعتي الوحيدة وسراً لم أفشيه لسوى شخصٍ واحدٍ لم يمكث في عالم الأحياء طويلا.

كان أبي هو من يتولى شؤوني خارج المنزل، يأخذني لإجراء الفحوصات المختبرية وكشوفات الأطباء الدورية وتلقي الدم أو التفتيش عن متبرعين به. وكان يندهش حد الصدمة عندما أقول له واحدة من تلك الأشياء التي من المستحيل أن يعرفها طفل محدود العالم مثلي. بدأ ذلك يوم كنا جالسين في جامع النبي يونس بانتظار صلاة الظهر لكي يطلب أبي من المصلين التبرع لي بالدم. فالبلاد كانت تعيش أيام الاحتلال الأمريكي الأولى ولم يكن في مصرف الدم مخزونٌ كافٍ. لذا كان أبي يصطحب المتبرعين معه إلى هناك أو للمستشفى لنقل الدم مباشرة اليّ بعد فحصه. قلت والكلمات تخرج من فمي دون أن أعرف ما تعنيه:

"أجزاء القرآن ثلاثون وسوره 114. وعدد أحزابه 60، وآياته 6348 بما في ذلك البسملات التي تعد آيات وعددها 113. أطول سورة هي البقرة واقصرها الكوثر. آية الدين هي الأطول في سورة البقرة والتي هي الأطول من بين كل السور. وأقصر آية هي ألم. وذُكِر أسمُ الله 2697 مرة".

عندما كررت عليه حرفياً ما قلته، حملني على كتفه وأخذني فوراً إلى جامع الحي. كان الإمام شجاع متكوراً مثل كرة عملاقة يحاول فك شفرة قراءة شيء ما في ورقة لأنه كان قد نسي جلب نظارته الطبية في ذلك اليوم من البيت. جذبني وأجلسني في حجره. وطلب مني ممازحاً واللعاب يتطاير من فمه الكبير ان لا أتبول او أتقيأ في ثيابه. وبعد أن مسحت بيدي لعابه من وجهي أعدت له مثل ببغاء مطيعة ما ذكرته لأبي وأضفت قارئاً ما تيسر لي من سورة الكهف. رفع ذِراعيه لتفوح رائحة عرقه القوية التي تشبه رائحة مبيضات الغسيل السائلة التي كانت تضيفها أمي إلى طشت الملابس في الحمام. دعا ووجهه ناحية الثرية الكبيرة المعلقة بسلسلة طويلة إلى القبة: "يا من تأخذ بمقدار وتعوض بما هو أفضل. تعز من تشاء وتذل من تشاء".

دخل بعدها في نوبة بكاء رجتني مع كرشه بعنف فركضت إلى أبي واختبأت خلف ظهره وكان هو الأخر يهزه البكاء فبكيت بدوري دون أن أعرف ما يجري.

في المرة الثانية، كنا نمر مشيا على الأقدام فوق جسر المدينة الحديدي القديم، ذكرت بلا وعي بأن ملكاً أسمه غازي افتتح الجسر سنة 1934. وقد استغرق بناءه ثلاث سنوات وصُب حديده الذي يشبه قفصاً كبيراً في بريطانيا وشُحن بالباخرة ووصل إلى هنا عبر ميناء طرطوس السوري. أوقفه الذهول منتصف الجسر وراحت عيناه تتنقلان بيني وبين أعمدة وسقف الجسر الحديدية. كان في صوته شيء من الخوف عندما سألني: "كيف عرفت هذا؟ ".

كنت أتابع لحظتها فوضى النوارس وزعيقها في السماء ولم تكن لدي إجابة في الأصل.

قرفص على الأرض واستند بظهره على سياج الجسر. أراد قول شيء لكنه تراجع. فرك جبهته وسألني متأتئاً: "هل يظهرون لك أم يكتفون فقط بالتحدث إليك".

                   ****                  ****                 ****

لم تكن أمي تفهم كثيراً من الأشياء التي أقولها وأنا أدور في البيت مثل قط تائه. وحتى التي كانت واضحة المعاني بالنسبة إليها أو التي نقلها إليها أبي بكثير من التوجس، لم تعرها أهمية كبيرة لقناعتها التامة باستحالة صدورها عن طفل مثلي لم يتعلم بعد القراءة والكتابة. وفسرتها لجدتي في حواراتهما اليومية لقتل الوقت على أنها مجرد أحاديث التقطتها أسماعي وأنا مع أبي خارج البيت. إذ كانت مؤمنة بأنني عبارة عن جهاز تسجيل بشري يمشي على قدمين لامتلاكي موهبة حفظ أسماء الاشخاص والأماكن وقدرة ذاكرتي على تخزين أي حوار يجري ضمن حدود نطاق سمعي حتى وإن كان همساً.

لكن في صباح ذلك اليوم الذي كانت تنتف فيه ريش مؤخرة دجاجة غارقة في ماء قدر ساخن بالمطبخ انتبهت إلى أنني أكلم الأطباق والملاعق التي ألعب بها بلغة أخرى ليست عربية. وفيها الكثير من حرفي(الثاء والخاء)، تشبه الأغنية التي كنت أرددها قبل يومين وأنا شبه فاقدٍ للوعي بعد نهار طويلٍ قضيته في مستشفى مدينة قرقوش المسيحية حيث تبرعوا لي بالدم هناك.

كان عمود بخار القدر يحول بيننا حين سمعتني أذكر أسم المسيح، فهرعت إلى جدتي في الصالة والريش يتساقط منها. وحين دخلتا ممسكتين ببعضهما ويرددان سوية أدعية الخوف. وجدتاني فوق الدولاب ويدأي المتشابكتين قريبتان من وجهي، أقول مُغمض العينين بصوت فيه غلظة:

"لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض. خُبزنا الذي للغد أعطنا اليوم. وأغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير. بالمسيح يسوع ربنا لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد. آمين".

سألتها جدتي وهي تشير للقِدر: "هل سميت باسم الله قبل أن تملئيه بالماء الساخن؟".

أجابت أمي بحيرة: " لا أعرف أنا أبسمل دائما".

قالت جدتي بحماس وهي تترنح في مشيتها نحو الباب: "راقبيه جيداً، لدي علاجه ".

ارتفع بعد لحظاتٍ صوت عبد الباسط عبد الصمد من جهاز التسجيل في الصالة بقراءة مجودة لسورة الجن. وأخذت جدتي القرآن المعلق داخل كيس قماش أخضر اللون من جدار غرفتها وجلبته لتضعه على رأسي في المطبخ وأمي خلفها وبيَديها عودا بخور يتصاعد منهما خيطا دخان.

وحين وصل أبي ظهراً كانت أمي قد أشعلت للتو عود البخور العاشر وجدتي ترش التواليت بالماء الممزوج بالملح وأنا في المطبخ أحاول إنقاذ الدجاجة الغريقة. ضم اليهما جهوده لطرد الشياطين والجن الكافر من البيت من خلال قراءة المعوذات متنقلاً من غرفة إلى أخرى وسبابته مرفوعة أمامه.

وقبل أن يمدوا أيديهم لطعام الغداء قُلتُ فجأة وأنا أشبك يدي مجدداً والصقهما بجبينيّ:

"يا ربنا أنت المنبع الدائم لجميع الخيرات، إليك نتوسل بأن تبارك وتقدس لنا هذا الطعام الذي نستلمه من وجودك لكي نستعمل مأكلنا بتعقل كما أنك تتوقع ذلك منا. ساعدنا لنعترف بك دوماً كالأب السماوي صانع كل الخيرات وأن نطلب قبل كل شيء الغذاء الروحي الكائن في كلمته المقدسة لكي تتغذى أرواحنا أبدياً بيسوع المسيح مخلصنا. آمين".

ظلوا يراقبون بصمت التهامي فخذ الدجاجة مع رقبتها والرز الذي في الطبق. وتابعوا بدهشة وقوفي الاحتفالي بعد آخر لقمة وكيف رفعت ذراعي إلى الجانبين وقلت بخشوع:
"سبحوا الرب يا كل الأمم. حمدوه يا كل الشعوب. لأن رحمته قد قويت علينا وأمانة الرب إلى الدهر. هللويا".

كررت مرة أخرى وأنا أضُم يدي إلى صدري: " هللويا ". قال أبي وقد جمدته الصدمة على كرسيه: " زاهدة. أبنك تمسح!" .


في المساء شكل أصدقاء أبي من مصلي الجامع صفين متقابلين على الأرض في صالة الضيوف. وفي الوسط تماماً كان رأسي في حجر الإمام شجاع، يقرأ عليّ الرقية الشرعية ولعابه ينهمر مثل المطر. وجلس أبي عند قدمي يراقب بتركيز ويداه على ركبتيه كأن شيئاً ما سيخرج مني في أية لحظة. كانت أمي قد ألبستني دشداشة العيد الفائت القصيرة ذات النقوش المذهبة عند نهاية الكمين والرقبة فبدونا جميعاً بزي موحد قصير لعند الساق مع اختلاف بسيط يتعلق باللحية وقطع السواك التي كانت تخرج بالتزامن أحيانا من جيوب الصدر والجانبين وتمرر على الأسنان مثل أقواس الكمان في حفل موسيقي.

قال الأمام بعد انتهائه بأنني أصبحت نظيفاً ولن يصدر عني ما يريب بعد الآن. وهذا ما حصل لاحقا وبنحو حرفي. ليس لأن جسدي تحرر من احتلال الجان وكُنِست منه الشياطين كما توهموا وتفاخروا فيما بينهم على مدى سنوات لاحقة، بل لأنني اكتشفت درسي الحياتي الأول بأن الكلمات أكثر شيء يخشاه الناس، لذا تعلمت إبقاء كل ما أعرف في جوفي وصِرت أقضي منذ ذالك اليوم معظم الوقت مع نفسي.

طلب الإمامُ طاس ماء ليقرأ عليه ويُرش منه بعناية فائقة في كل شبر من المنزل. حركتُ رجليّ على الأرض مثل مقص مستفيدا من المساحة التي تركها أبي الذي نهض لجلب الماء فارتفع ثوبي كاشفاً عن شيئي. في تلك الأثناء زحف الحلاق بشير على يديه وركبتيه مثل دبٍ نحوي. أمعن النظر قليلاً قبل أن يُعلن بصيحة أجفلتني:

"هذا الولد ليس مختوناً".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرواية صدرت عن داري نشر (سطور وسنا) في العراق 2019. تتألف من 256 صفحة من القطع المتوسط

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم