رواية في أجزاء

١. البدايات

اهداء

الى فلذة كبدي

عبدالله منكرب.

تكساس مايو ٢٠١٧


ما كدنا ننفض أيدينا من تراب قبر رسول الله (ص) حتى أنكرنا قلوبنا.

الإمام أنس بن مالك

قال معاوية بن أبي سفيان لعقيل بن أبي طالب:

"ما أبين الشبق في رجالكم يا بني هاشم؟!"

فرد عليه عقيل:

"لكنّه في نسائكم يا بني أُميّة أبين!"

البلاذري، أنساب الأشراف، ص:٧٢

"لا تثقي في الرعية يا ابنتي مهما اظهروا لك من الود. تذكري حاشيتي. كانوا يقبلون قدمي ويتمسحون بها، والآن بعد أن زال ملكي يطلقون حولي الأقاويل، ثم يقولون لي، ما قالت اليهود لنبيها: إذهب ونارك المقدسة، لا نقاتل معك"

يزدجرد الثالث

آخر أكاسرة فارس

أبوك أبوسفيان لا شكّ قد بدت

لنا فيك منه بيّنات الدلائل

ففاخر به إما فخرت ولا تكن

تفاخر بالعاص الهجين بن وائل

وإنّ التي في ذاك يا عمرو حكمت

فقالت رجاء عند ذاك لنائل

من العاص عمرو تخبر الناس كلّما

تجمّعت الأقوام عند المحامل

من هجاء حسان بن ثابت ل عمرو بن العاص


اللحظة ذاتها تتكرر عندما يثمل، إذ يصبح كتلة من حنين محض.. يدنو كالهمس ببطء شديد، ويتشرب قلبه بمطر "العينة" فينتصب فيه كل بروز، ويصبح دافئا كالزفير، في برد هذه الصحراء القاحلة.. والمستبد كحرها السموم، ثم لا يخمد إلا بعد أن يشعر بأندائهما تسيل حارة على فخذيها، تغطي بربخه.. الذي يضمر بغتة، كإنطفاء فقاعة، مخلفا حوله مزيجا لزجا من الدم والانداء الدافئة!

فيسحب عضوه حتى ينزوي ويذبل بين فخذيه، غريرا هانئا كطفل شقي، أغرقته الهدهدات في الوسن، وأحلام الطفولة الوديعة!

هكذا كان الاعتم بن أبي ليل الظلامي بن رماد الجمري، سيد سادات (الحناجرة)، بكل قبائلهم وفروعهم من (النبشيين) و (الجريديين) وسواهم..

عندما يثمل.. يتشرنق في غلالة شجنه الشقي، تتقاذفه رياح عزلته في أيامه الخوالي، وذكريات الكر والفر المنصرمة، التي لا تفتأ تهدد السلام النفسي، لشيخوخته البديعة!

فيتذكر الثمن الباهظ، الذي دفعه اسلافه جميعا، لإقامة هذا الوطن.. في هذه الصحراء القاحلة، من روحهم التي باعوها دون تردد، مقابل غيب غامض لا يدرون كنهه!

ويقوده هذا الشجن عبر تحولات غريبة. إذ تطغى عليه روح من السخرية والدعابة المأساوية، والمرح الكارثي. ثم لا يلبث بعد ذلك، أن يشعر بأحزان العالم كلها، تتجمع من أقصى عيون الأرض السحيقة، منحدرة إلى ينابيع طفولته، لتنفجر في وجهه، محدثه ألما وقلقا وتوترا، لا طاقة (لمراتع الفقرا) به!

في بعض الأوقات فيما مضى.. ايّام صباه، كانت أبخرة الخمر، تسرح به في أوديتها و فلواتها، ويهيمن عليه نوع يائس من الحزن. فالأعتم وهو مخمور، شخص آخر تماما، ليس هو الأعتم ذاته، سيد الحناجرة الكبرى!

إذ كان تأثير الخمر عليه متناقضا، كفصول السنة الأربعة.. يفجر داخله الينابيع الأزلية للرومانسية، و كوامن الشجن السرمدي، ويشحذ أحاسيسه ويحفز مشاعره، ويجعل حواسه شديدة الكثافة.. فيستحيل إلى نصل محض يخترق جدر العزلة القوية، التي سيجت أعماقه بالحنين الأزلي، لليلة الكر والفر الأولى، و (ورد المدائن) تتلوى تحته، وهو رابض فوقها ك (جبل الرخ) و عضوه يتسلخ، في سعيه الحثيث لهتك فتنتها، لا يكل.. غدوا ورواحا، يصل حنين السماء لأشواق الأرض، في خيط واحد بظمأ صحراء (مراتع الفقرا) القاحلة!

والآن.. أبخرة الخمر، تثير فيه شتى أنواع المشاعر العدوانية وغيرها، فهو يعلم ما ظلت تفعله ورد المدائن، في غيباته الطويلة مع القوافل، لكنه يحبها حد الجنون، ولا يستطيع أن يسرحها أو يبتعد عنها!

عندما تمر عليه مثل هذه الأوقات، يعتزل الناس قليلا ليبكي بحرقة، دون أن يراه أحد.. في أوقات أخرى يهيمن عليه الغضب، فيتمنى لو يهم بها، يمسك رقبتها ويقطعها بحد سيفه، أو يُغمد نصله في فؤادها، بل ولطالما فكر في قتل نفسه، ليرتاح من عذاب أحلامه الجموحة، وخيانة ورد المدائن، وبؤس مراتع الفقرا التي يعشعش فيها الحسد، ومنازعه (المنتظر) له سلطة اسلافه الاماجد.. لكن لا يلبث أن يسقط في الوسن وينام! وعندما يصحو لا يتذكر شيئا، من خواطر ليلة البارحة.

وفِي الحقيقة أن آل الأعتم وأسلافهم، بينما شاع عنهم، أن أهم عناصر فخرهم وإرثهم التاريخي التليد، المؤخرات البديعة الرجراجة! التي تميزت بها نسائهم الفاخرات، الأنيقات والحجم الأسطوري الشرس لأعضاء ذكورتهم، إلا أن ما ظل مثار تندرًمحبب، ًتتداوله نسوة مراتع الفقرا، هو صغر حجم العضو الذكوري للأعتم شخصيا، بصورة مخجلة لأسلافه الغر الميامين، تنال من كرامتهم، و "تمرمط" سمعتهم في الوحل!

ومع ذلك كانت ثمة شائعات، أنه على الرغم من أن أسلاف الأعتم وسلالاتهم، ظلوا يتميزون بقصر القامة، وتقوس الساقين، والعيون القاحلة، ذات البريق الغائر. إلا أن الأهالي في الوقت نفسه، ينسبون خصب نساء مراتع الفقرا، إلى خصب آل الأعتم، الذين كانوا ما أن تلامس أعضاء ذكورهم، مؤخرات النساء، حتى اللاتي انقطع عنهن الحيض، في زحام الطواف، حول (الضريح الكبير) ولو من وراء حجاب، حتى تندى أرحامهن ويحملن.

والأمر نفسه ينطبق على نسائهم، إذ ما أن يلامس أحد العقر مؤخراتهن ولو بصورة عابرة، حتى يسترد خصوبته، فلا تنجب امرأته، سوى توائم!

لذا لم يكن أمرا غريبا، ما ظلت تشهده مراتع الفقرا، من تناسل وتوالد مروع، وازدياد فاجع في أعداد المواليد داخل وخارج التخطيط، والتضاعف بهذه السرعة المخيفة، حتى فاضت على الصحراء القاحلة حولها!

ولولا الغزوات والمعارك والحروبات والأمراض الجنسية المستوطنة، والأوبئة العابرة للصحراء والغابات، لتهدد الأمن الغذائي لكوكب ذلك الزمان، إلى الأبد.. بنضوب موارده كلها!

ومع ذلك كان من اللافت للنظر، أن أهالي مراتع الفقرا، وهم مواليد جدد، يشع من عيونهم عادة بريق عجيب، يختزن ضياع العالم كله! وقد يستمر هذا البريق مع البعض، إلى أن يلحقوا بأسلافهم، وقد يختفي في سن المراهقة!

وعلى كل حال، لطالما اعتقدت نساء مراتع الفقرا الشريفات، ذوات الفروج الحريرية الناعمة، دونا عن ملمس فروج نساء العامة ذو النتوءات الخشنة الجارحة، أن مراتع الفقرا ما نهضت في هذا الحال البائس، إلا لأن علية قومها، الذين يحلون كل معقود، ويربطون كل محلول، خرجو من بين أرحام الرقيق و المحظيات، والجواري والإماء والبغايا، ولطالما تقلب آبائهم، على احضان الزنجيات، ذوات الجسد الأبنوسي المشدود، والنهود الصلبة المنتصبة، التي أوحى لهم عراكهم معها لترويضها، بما اوحى من قرارات، حددت مصير مراتع الفقرا! خلال أجيال من المواليد الحكام الكارثيين، الذين هم ثمرة ذلك العراك الليلي المحموم.

وفِي الحقيقة، أن ادعاءات هؤلاء الشريفات العفيفات المزعومات، لم تكن تخرج عن حملات التزييف العامة، التي لطالما دفعت غيرة النسوة، في استهدافهن لأزواجهن بالابتزاز، يرددن ذات مقولات الغزاة الطامعين، في مراتع الفقرا على علاتها، كبلدة منفية في الجغرافيا والتاريخ وجنائزية الطابع!

أهالي مراتع الفقرا، فضلا عن إدمانهم لسباق الحمير، الذين يتقاطرون زرافاتا ووحدانا، من كل فج في شعابهم، للمشاركة فيه أو الفرجة عليه.. حتى أنهم عندما جاءهم الخبر، في إحدى المرات. أن بلدتهم تتعرض للغزو، رفضوا مبارحة السباق، إلى أن دهمهم العدو ونكل بهم واستباح نساءهم وأسرهم! فهم يدمنون أيضا لعبة (الضالة)، التي يمارسونها أثر قيلولاتهم!

من مفارقات هؤلاء الأهالي أيضا، عشقهم المجنون للسباحة! مع انهم محاصرين بالصحراء من كل اتجاه، بل ويتحاكون في جلسات أسمارهم، ان مقاتلين سود أشداء، في سالف العصر والأوان، قد قدموا على ظهور الفيلة وليس النوق، من خلف الصحاري.. من أعماق الغابات السوداء، وحاصروا مراتع الفقرا مدة من الزمان! دون أن يتساءلوا، كيف أنى لهذه الفيلة التي تموت، لو فارقت الغابات. أن تعبر كل هذه المسافة، إلى صحراء كصحراءهم القاحلة، التي تعبث برمالها رياح السموم القاتلة، وتجد فيها النوق نفسها عناء مروعا؟!

والمدهش حقا، أن أهالي مراتع الفقرا، وهذا هو حالهم، كانوا يتسمون بنوع فريد من الاستعلاء، و العنجهية والصلف والاستبداد، وجملة من العبر التي لا يمكن تبريرها! وربما كان مرد هذا يعود، لما أحدثه أسلاف الأعتم وأحفادهم، من تخريب واسع النطاق، في عقول الأهالي البسطاء!

من أطلال عليائه.. يرى الأعتم الآن، العبد دماس وهو يشحذ سنان رمحه، في النار الموقدة على مبعدة من (مراقد الأولياء الغرباء) و يرى عبدا آخر يهش غنم سيده خارج الحي. ويرى عبيدا آخرين بعضهم يحمل حطبا على كتفيه، يتجهون نحو (الضريح الكبير) للغريب والمراقد. وأكتاف بعضهم الآخر تنوء، تحت ثقل جفان الفخار الفارغة من ثريد!..

يرى رفاقه من سادة مراتع الفقرا، أصواتهم تعلو وتنخفض على الطريق إلى (دار الغلاط)، وزوجة أحدهم من خلفهم، تصيح بكلام لا يتناهى إلى مسامعهم.

كان قلبه يتلفت في أحياء مراتع الفقرا زقاقا فزقاق، ودربا فدرب وساحة فساحة، فيرى نفسه بين آبائه ورفاقه وأقرانه وأبنائه: البعيو بن طويل الأعرج، الحكيم بن أم حكيم، الغالي

بن رخيص بن أبي سفيه، والسفيه بن شجاع الأشرم، المجلود بن جلدة الفزاز، الصعلوك بن شعرور الصابئ، العدل بن عامر، سفير (نبش) ومصارعها المنافح عنها عند الشدائد.. الصارم بن كوكاب العنقرة، قائد خَيلها وصاحب قبتها.. درع الهلاك بن الأعتم، رمحها المسنون، وأخيه الطرباق بن الأعتم الذي لم تعرف نبشًا من هو أحلم منه، وأخيهما عبد التام الذي نسبته أمه، إلى تاي الله بن جبر الدار، الذي بذ دهاة عصره في القبل الأربعة!

"وانا يا ورد المدائن.. أنا الأعتم النبشي.. كنت سيد سادات مراتع الفقرا بلا منازع.. والآن يا ورد المدائن أنا لا شيء.. لم يبق من ظل مقيلي سوى القليل، فقد انصرم العمر، وتغيرت الحياة في مراتع الفقرا، وصار الأعز الأذل! خليفة المنتظر يا ورد المدائن يستوقفني حاجبه على الباب، فيما عبيدنا السابقين ممن شهدوا معارك (الهبايب الأولى)، يدخلون عليه وانا انتظر!

لم يعد الزمان هو الزمان ولا الناس هم الناس ولا الأقران والخلان هم الأقران والخلان. ولا أدري هل أنكر ما أرى أم أنكر نفسي؟!"

ويرمى الأعتم برأسه على صدر ورد المدائن، وينتحب نحيبا مرا! فتنحدر على خديها دمعتان.. كليهما يدركان الآن، أن لا شيء تبقى لهما، سوى الوقوف بين الأطلال وندب الذكرى.

تأوه يرمي ورد المدائن بنظرة متحسرة وهو يردد:

"مضت تلك الأيام. ايّام الودق و الديباج والحلي والحلل. أيام دار الغلاط، حين كان صوتي يجلجل بين الناس، كصليل السيوف في أيام نبش الغاربة"

<ins class="adsbygoogle" style="display:inline-block;width:320px;height:100px" data-ad-client="ca-pub-8970124777397670" data-ad-slot="7675478845">

أطرقت ورد المدائن رأسها. وسالت على خدها الشاحب، دمعة أخرى، لكن يتيمة كيتمها، وتوقفت تجاور الدمعتان في منتصف المسافة إلى حجرها، ثم تدحرجت.. فنهضت من مجلس الأعتم، متجهة إلى خبائها.

كلاهما كان حزينا وبائسا تناوشه الذكريات. كانا مرتبكان مضعضعان لا يدريان أيهما أحق بالمواساة: هو سيد سادات الحناجرة الذي كان، أم هي سيدة نساء نبش، ذات الجمال والحسب والنسب، والحكمة وبأس الرأي.

والآن في هذه الظهيرة الغامضة، تبدل الجو فجأة واختنق بسموم ثقيل، جعل صدره ينقبض مكتوما، وجسمه يتصبب بعرق، أشد كثافة من ماء البحر المالح!..

بدت أشجار النخيل الهزيلة، كأنها تشرع جريدها كاكف متضرعة، وتهتز منتحبة في خشوع، تحت سطوة الريح السموم وهي تلفحها بقسوة!

في صمت هذه الظهيرة، اختزن فضاء مراتع الفقرا، في أنقاض مباهج ماضي سكانه لمئات السنوات، كل أنواع الحزن والأسى.

والان على أنقاض التنهدات، و وقع الخطى المنتظمة، في رنين الخلاخيل ونقرات الدفوف، التي بداخل الأعتم، تنهض حالة من الشعور الكثيف، ينطوي على كل أنواع الحزن والأسى، حتى بحة اللوعة، في عواء الكلاب العميق، الذي يأتي من البعيد، شاقا فضاءات البلدة التعيسة من آن لآخر!

هذه الظهيرة، التي دونا عن كل ظهيرات مراتع الفقرا، احتشدت بنوع غريب من الصمت، الذي صلاه لفح لهيب الشمس الحارقة، "فصنت" كل الكائنات.. تلاشى ثغاء الماعز، وسكنت حركة النياق، حتى الطيور لجأت إلى وكناتها، متحدة في حفيف الصمت، وهو يلامس قش الأعشاش اليابس!

كأن الحياة تتراجع إلى ملجأها الأول، في الصمت المحتقن، بأطياف كل من مر عليه من ساداتها منذ مئات السنوات!

رمى الأعتم من مجلسه ببصره بعيدا، يتخلل هذا الصمت الآسي، تعود به الذاكرة كرا وفرا، فيراقب أطياف اسلافه، العالقة في مسارات الزمن وتعرجاته، التي ازدحمت بأنفاسهم. و رائحة عرقهم، وهي تمتزج بالروائح، التي انبعثت من مخبوزات نساء الحي، ودهن شعورهن، وعطورهن، التي جلبتها القوافل من أصقاع المعمورة، خلف الصحاري والبحر المالح.

آخر شيء يمكن أن يتصوره، أهالي (مراتع الفقرا) أن يكون (المنتظر) من بين ظهرانيهم. لم يكن بامكانهم على الإطلاق، مجرد تخيل حدوث مثل هذا الأمر الجلل. فهم قوم لا يكترثون كثيرا للمعجزات في قومهم، بل ويعتقدون، أنهم أمة منسية ومنفية، محاصرة بالمخاوف الخفية والاحزان المنسية!

فتاريخيا لم ينجب رحم (حوائهم) نبي أو (ولي صالح)، أو اَي نوع من الرجال (الأتقياء والطيبين!)، وربما لهذا السبب بالذات يحتفون ب (الضريح الكبير ومراقد الفقرا) اللذان توسطا قلب بلدتهما.

وخلافا لما قد يعتقد الغرباء عن هذه البلدة.. الحقيقة أن (الضريح والمراقد)، لا ينتميان لهذا المكان من قريب أو بعيد، فالضريح ل (رجل عابر سبيل غريب)، كان مسافرا مع ولده، وتوفي لدى وصوله هذه البلدة، بسبب نوع غامض من الأوبئة الجنسية، كان قد استفحل وقضى على نصف سكانها.. فبنى له ابنه مقبرة كبيرة، على عادة المقابر في قومه، وايضاً لتمييز قبره عن قبور الأهالي، الذين قضوا بنفس الوباء! ثم مضى في حال سبيله، ولَم يشاهد بعدها أبدا، يزور قبر المرحوم والده!

كما أن الفقرا او الاولياء، الذين تم اثواءهم في هذه (المراقد)، هم في الحقيقة ليسوا فقرا ولا يحزنون، ولَم يعرف عنهم أن أوقدوا (نارا للعلم) طيلة حياتهم. وحكايتهم الحقيقية الضائعة في أنفاق التاريخ، أنهم سبعة إخوة (غرباء) قتلوا في معركة ثأر بائسة. فدفنهم قتلتهم أنفسهم بهذا الموضع، لعدم وجود من يدفنهم، فاقربائهم جميعا قتلوا من قبل، في معارك ثأر مغمورة، ولَم يتبق من سلالتهم سواهم!

وأصبح الضريح والمراقد مزاران للحجيج، بعد سيل جارف انحدر من وديان الصحراء، وجرف معه بيوت البلدة وأشجارها، وكل شيء! عدا الضريح والمراقد، إذ بقيا ناهضين على حالهما، كأن شيء من عوامل الدهر لم يمسهما، وكان سيل كذلك السيل العنيف لم يمر بهما، الأمر الذي أثار العجب في نفوس الأهالي، وتحول العجب إلى حكايات وقصص وأساطير!

وكما أن هذه البلدة لا تاريخ لها، فهي جغرافيا محاصرة بالصحراء من كل جانب، وبطبيعة الحال طبعت الصحراء وجدان اَهلها وذاكرتهم وحياتهم، بطابعها المتعطش، الذي لا يروي ظمأه شيء! فان هذه البلدة أيضا أشبه بالمدن المفقودة!

وعلى أية حال حول الضريح والمراقد، نسج أشخاص مجهولون، الكثير من القصص الأسطورية، التي تعدت حدود البلدة، وعبرت الصحراء وطبقت شهرتها الآفاق، ومن ثم لم يعد أحد يدري، متى بالضبط بدا الناس من كل أنحاء المعمورة، يحجون إلى الضريح والمراقد! يتقربون زلفى لقوى غائبة لا يرونها، ولكن يشعرون بوجودها الطاغ!

ومع ذلك كان أهالي هذه البلدة، يؤمنون بأي معجزة حقيقية، أو زائفة تحدث بعيدا عن مضاربهم، في اَي مكان من الكون الواسع، المتسع بأراضيه وسماواته!

ربما لشعورهم، أن الإيمان بأي معجزة تحدث في ديارهم، تهدد ما ألفوه من حياة، تصالحت معها نفوسهم، ولا يرغبون في تغييرها! وهم بشكل عام، لم يألفوا تقدير الأشياء أيا كانت، وتحديد قيمتها.

لذا تراهم غالبا، يسفهون كل شيء!.. فهم حقا لا يأبهون لمعرفة اَي شيء، خارج نطاق معتقداتهم الصحراوية الجافة! وحياتهم اليومية القاحلة، في شعابهم التي انحصرت، على وادي بين سلسلتي جبال، حيث يعيشون، نوعا من العزله شبه التامة.

ولولا حركة القوافل، من والى بلدتهم (مرتع الفقرا)، حيث (الضريح الكبير) و (مراقد الأولياء)، لما عرف أحد في العالم الواسع، عنهم شيئا أبدا! خاصة ان اخبار اَي حدث، كبر أو صغر في العالم، الذين هم جزء منه، لا تصلهم إلا بعد مرور سنوات!

فخبر موت ملك من الملوك، في أي جزء من إمبراطوريات ذلك الزمان، قرب هذا الجزء أو بعد عن ديارهم، لا يصلهم!الا بعد ان تكون جثة الملك، قد تحللت! وصارت عظامه أثرا دارسا، وشارف ولي عهده (الملك الجديد/القديم) على اللحاق به!

مع ان الفكرة الاساسية، التي بموجبها أسس وأنشأ الآباء الأوائل (مراتع الفقرا)، كمركز لوطن قومي، لكل قبائل (الحناجرة)، إنما كانت تنهض، على أساس أن تنمو هذه البلدة الكبيرة، لتصبح محورا للكون، وملتقى لطرق قوافل تجارته، ومركزا لصناعاته.. ولكن الزمن أثبت، أن خيال هؤلاء (الآباء المؤسسون) قد جنح كثيرا، عندما خطرت ببالهم مثل هذه الأفكار، التي كذبها الواقع!

ولَم يكن غريبا، أن تخطر على بالهم مثل هذه الأفكار الخيالية، فالقوم أساسا مجدهم هو (الشعر) والذي بسببه سميو: (حناجرة)، إذ لم يكن ثمة من بإمكانه، أن يبذهم فيه، خاصة مدحه وهجائه وذمه وماجنه ورثائه!

لكن ماهو لافت، ليس ان الغريب المجهول، صاحب الضريح الكبير قتل بوباء جنسي، فعلى اَي حال لم يكن هو الوحيد، الذي قتله ذلك الوباء. فظاهرة الإعاقات البدنية والذهنية، التي تفشت بعد الوباء، قتلت في الناس، أكثر من قتلى الوباء! مراتع الفقرا، عبر تاريخها قبل الوباء، لم تشهد اَي حالة، ولادة معاق بدني أو ذهني، على أراضيها، لكن بمرور الوقت، وبعد ذلك الوباء، أضافت مراتع الفقرا للعالم، غير الهجاء والرثاء والمدح والذم أمرين: مزيد من الأوبئة الجنسية والمعاقين. وكما سنرى للمفارقة أن هذين الأمرين، أسهما في بروز نزعة إنسانية، لم تألفها مراتع الفقرا، التي طبعت على القسوة والاستبداد.

فمراتع الفقرا في غابر أزمانها، كانت تدفن المعاقين، الذين أحياء فور اكتشاف إعاقاتهم! كذلك الأطفال غير المعاقين، ثمرة العلاقات خارج الزواج، كانت أمهاتهم تتخلص منهم، فيتم العثور عليهم ملفوفين بثياب رثة أو فاخرة، على قارعة شعاب مراتع الفقرا ودروبها، أو عند الضريح الكبير، أو بالقرب من مراقد الأولياء، ومن اللفافة كان يمكن تحديد انتماء هذا المولود، هل هو لأم من الأسر الموسرة أو الفقيرة. فهؤلاء على عكس الذين يولدون معاقين، لا تسعى امهاتهم للاحتفاظ بهم، إذا لم يتم قتلهم.

وعندما توقفت الأمهات والأسر عموما عن قتل أبنائها وبناتها، و أصبحوا يكتفون بتخبئة المعاق، فلا يعلم به حتى الجيران! الى ان يموت. لم ينعكس ذلك على مصير المواليد مجهولي النسب، الذين يجدهم الناس في لفافات في شعاب مراتع الفقرا. إذ استمروا يجدون مثل هذه اللفافات مجهولة الأبوين، والتي كان من داخلها قد يكون معاقا أو غير معاق!

لكن بعد مئة قرن من تلك اللحظة، التي كانوا يدفنون فيها المعاقين أو مجهولي النسب، أو يسجنونهم.. أويرمونهم على قارعة الطرقات. سيكون العالم قد هضم تراثهم وخبرتهم، في التعامل مع المعاقين وأشباههم.

وهكذا تبدأ تتولد تلك النزعة الإنسانية، ببروز وعي جديد ونظرة جديدة، للمعاقين تحافظ على حقهم في الحياة، بل لا يعد دعمها من الخيرين فحسب، إذ يتبنى أشراف البلدة وسادتها، تمويل المشاريع الخاصة بهم وبهن، ويتحملون في ذلك نصيب الأسد.

كما تتوسع هذه النظرة، لتشمل تمويل تطوير الدراسات الانسانية، التي بدأها نطاسيين مراتع الفقرا القدامى، فيصبح هناك اهتمام بتنمية مهارات المعاقين، وتطوير قدراتهم وتعليمهم السلوك والآداب العامة.

وتقام لهم البرامج الترفيهية والاحتفالات، وتصبح لديهم حقوق أعلى من حقوق الأهالي الأسوياء، فمن حقهم الزواج والإنجاب، وانتخاب الحاكم، الذي يترشح في الحقيقة وحده دون منافس، في كل دورة الى ان يموت، ويصبح ذلك الزمن، الذي كانوا يقتلون فيه الأطفال، الذين يتضح انهم معاقين جسديا أو عقليا، مجرد أصداء لذكرى متلاشية في التاريخ، وأخيرا تثمر اجتهادات النطاسيون عبر القرون، لمعرفة نوع الوباء، الذي يتسبب في هذا النوع من الإعاقات، التي لطالما هددت شعب مراتع الفقرا بالانقراض.

وكان ذلك من ثمار مبايعة النطاسيون للمنتظر، إذ أخذوا يدعون على ضوء تعاليمه، بعدم قتل المعاقين، والإبقاء عليهم أحياء.

وهكذا قبل مائة قرن، بادر (الخمار السلولي)، وعدد من البغايا السابقات، بالتبرع بإقامة عرائش ضخمة، يحشرون فيها هؤلاء المعاقون، ويعملون على رعايتهم، حيث كانوا في الحقيقة، يتعاملون معهم بقسوة، بسبب أن تصرفات هؤلاء الأطفال والشباب والرجال المعاقين غير الطبيعية، كانت تفقدهم السيطرة على أنفسهم.

وقد تأصل في الوعي العام، أن داخلهم روح شريرة! خاصة أن بعض هؤلاء المعاقين، يتبرزون ويتبولون على أنفسهم، وبعضهم لا يكف عن البكاء والصراخ دون سبب معروف، وبعضهم يسأل نفس السؤال، الذي لا يمكن أن يخطر على بال بشر، آلاف المرات..

وبعضهم كلما التفت ورآك في وجهه، سلم عليك وتجاذب معك أطراف حديث "خارم بارم"، أو أخذ يسبك ويلعنك دون سبب واضح!

ومن الطرائف، أن بعضهم كان يعتقد أنه سيد القوم والحاكم بأمره، بينما يتوهم اخرون انهم مستهدفون من قوة ما تضربهم وتعذبهم، وبعضهم عنيف جدا يضرب زملائه، ويحاول ضربك! بل ويضرب نفسه، ويحاول قتلها. فضلا عن الذين يظلون يصدرون من حناجرهم، أصواتا متحشرجة قبيحة طوال الْيَوْمَ، يشيعون جوا من التوتر حولهم! وعلى العموم بينهم تجد كل أصناف الشر والتوتر، بدء بالسرقة والكذب والاحتيال و انتهاء بالقتل والعهر!

اما المعاقين ذوي الأوزان الثقيلة، يدفعون الخيرين والخيرات، إلى الجنون. وهم يعانون كثيرا في مساعدتهم، على تناول الطعام أو تأدية أنشطتهم الإخراجية.

وما كان أكثر استفزازا، أولئك الذين يتعمدون باستمرار إمساكك بأيديهم القذرة، أو يرتمون على الأرض، فتفشل في زحزحتهم عن أماكنهم.

وكان الخمار السلولي والبغايا السابقات، بخبراتهن الاجتماعية العميقة، قد لاحظوا على بعض المعاقين، من سلوكهم وأسلوب تعبيرهم عن أنفسهم، ما يشير إلى مصائرهم، لو كانوا أصحاء فيقول أو تقول:

"إن هذا لو لم يكن معاقا، لكان سكيرا عربيدا لا يعاشر سوى الرجال. وذاك لكان من التجار المهمين، وهذا لا شك كان سيكون نطاسيا أو مثالا أو فلكيا بارعا، وتلك لربما كانت من سيدات عاهرات عصرها، الخ…"

ومع مثل كل هذه المعاناة والتوتر والضغط، كانت تولدت قناعة، أن تحمل هذا الأمر، لا شك سيفضي إلى أمة عظيمة بمرور الوقت، إذ يفتح الباب على أنشطة جديدة في الحياة واهتماماتها!

وربما هذا ما شكل دافعا قويا لتحمل التوتر والضغط، الذي كان يتعرض له، كل من يحاول مساعدة هؤلاء المعاقين، وبمرور الوقت على عهد (خلفاء المنتظر)، يبدو ان الفكرة على مخاطرها، راقت عددا من أبناء وأحفاد العبيد السابقين و المنبتين، الذي نجحوا في شراء أشجار تنسبهم إلى أسلاف خيرين، من أشراف القوم وساداتهم!

بل إن البعض وجدوا في الانتساب للخمار السلولي، مصدر فخر لا يضاهى يرفع من مكانتهم! مع أن الخمار السلولي لم تكن له سوى ابنة وحيدة، كانت قد توفيت قبل أن تتزوج!

وكان هؤلاء على قدر كبير من الخلق والإبداع، فبدلا عن حشر المعاقين، في مثل تلك العرائش المكتظة، التي ليس فيها مساحة شهقة وزفرة، أنتجوا فكرة مشرقة، بتقسيم هؤلاء المعاقين، وفقا لاعاقاتهم وأعمارهم، في مجموعات صغيرة لا تتجاوز العشرة أفراد، يوزعونها على بيوت شيدت خصيصا لهذا الغرض، في أطراف البلدة. على مبعدة من الضريح والمراقد!

لكن بتوالي الحكام، و مرور عشرات السنوات، بدأت هذه البيوت، تزحف إلى قلب البلدة، واختلطت ببيوت الأهالي، ومن ثم جاءت فكرة عدم الفصل بين المعاقين، على أساس الجنس، فظهرت المجموعات المختلطة من الجنسين.

وأصبح تمويل هذه البيوت ليس من سادة البلدة والخيرين فقط، إذ توسع ليشمل استثمارات صغيرة، تتبع لهذه البيوت. وبالطبع لم يعد هناك متطوعين كما في الماضي، بل عاملين بأجر لمساعدة هؤلاء المعاقين.

وما أن بدأت تظهر حالات من الحمل، على بعض المعاقات واغتصابات لبعض المعاقين، حتى كون سادة البلدة مجلسا لتشريع القوانين وضبط التجاوزات، ومتابعة ما يجري في هذه البيوت، التي رغم أنها تمددت وترهلت وتداخلت مع بيوت الناس الأصحاء، وأصبحت أشبه ببلدة كاملة داخل البلدة، الا ان ستارا كثيفا عزلها عن المجتمع، الذي نهضت فيه.

وفِي الحقيقة بقدر ما كان العاملون مع هؤلاء المعاقين، لا يخفون تعاطفهم مع بعض المعاقين الموهوبين الرائعين، الذين وهبوا قدرة كسب محبة من يخدمهم. إلا أنهم في الوقت نفسه، كانوا لا يخفون كراهيتهم لمعاقين آخرين، يعتقدون أن ليس ثمة قوة في الأرض، قادرة على تحمل تصرفاتهم الكارثية والمؤذية.

وفيما تواتر أو نسب للخمار السلولي، كأحد الرواد عبر التاريخ، قوله إن بعض هؤلاء المعاقين، يتميزون بذكاء غريب ومرضى بنظافة أنفسهم، حتى من الغبار الذي قد يعلق سهوا على أخفافهم، ولو لم يكونوا معاقين، لكان لهم شأن عظيم.

بينما البعض الآخر قذر و غبي، لدرجة لا توصف. وليس بإمكان المرء الجلوس جوارهم، دون أن يشعر بالرغبة في الاستفراغ من نتانتهم، وروائحهم الكريهة، التي تصدر من كل مكان في اجسامهم!..

وكان كل ذلك يجعل السلولي يتفكر، في آبائهم المجهولين في الغالب الأعم، ويحاول اكتشافهم عبر مراقبة السلوك الوراثي، فيمن يعرف من الناس، ليقارنه بسلوك هؤلاء المعاقين!

وأدى هذا بعد مئات السنوات، إلى وضع أسس علم الجينات. ومبادئ علمي النفس والاجتماع!

من غرائب هذه البلدة أن سوق (الشعراء)، الذي استقر على قاعدة: "الصيت ولا الغنى"، والذي كان بمثابة مقر للدعاية والإعلان، يرفع الناس ويضعهم على هواه، لقاء ما يدفعه الراغبون من ثمن!..

اذ انه مهما كان أحدهم وضيعا، فبنقوده بامكانه شراء سمعة حسنة! من شعراء هذا السوق، الذين يدبجون في مدحه القصائد، بمقدار ما يدفع من مال! ومهما كان أحدهم رفيعا، بإمكان أعداءه، الحط من قدره بأموالهم، التي يبذلونها لقاء قصائد الهجاء والذم البذيئة في حقه.

لذا لم يكن غريبا أن يجاور هذا السوق سوق (الأنساب)، الذي عادة يرتاده الذين لا اصل ولا فصل لهم، و حلوا بالبلدة في غفلة من سكانها الأصليين، أو كان الحمل بهم نتاج علاقات غامضة أو محرمة!

فهؤلاء يرتادون هذا السوق، "لينجر" لهم النسابة شجرة نسب، لا يمكن التشكك في تسلسلها، متبعين حيلا معقدة في خيارات الأسماء، لكن كانت هذه الحيل احيانا لا تجدي، إذ يخون النساب ذكاءه، فينسىب إلى أحد الأسلاف، الذين لم ينجبوا، أو ماتوا قبل أن يتزوجوا، أو تزوجوا وكانوا عقرا، توقف نسبهم عندهم ولَم ينحدر.

وهذه التجارة بالذات، أثبتت عمليا حساسية فائقة للمعرفة والحنكة والدراية، فأقل خطأ من الأخطاء، يطيح بنِسَب مشتري الشجرة، فتسوء سمعة النساب في سوق النسابين، وكثيرا ما حاول النسابين، لمعالجة هذا الخطأ "نجر" شجرة بديلة ثانية، وربما ثالثة أكثر إتقانا، ثم ينسى وتروج شجرات النسب، فيجد الزبون نفسه بمرور الوقت، منسوبا لثلاث قبائل لا تلتقي بالجريديين و الملاحمة إلا في حنجور الكبير، وغالبا ان الشخص الذي يصل المنسوب بحنجور الكبير، حسب التسلسل. يكون أساسا ليس من أبناء حنجور، أو غيره، من قبائل الحناجرة الأصغر، كالملاحمة والجريديين.. بل ان حنجور، ليس لديه ابن او حفيد بهذا الاسم من الأساس!

بين السوقين ينهض سوق (اللصوص)، و (تجارالرقيق) متلاصقين، والذين تباع فيهما كل انواع المسروقات، بدء بالبشر ومرورا بالمواشي، انتهاء بالسيوف والدروع والرماح والرحي!

ومن غرائب الأمور، أن التجار المتحكمين في حركة شراء المسروقات، هم (النخاسة) أنفسهم، الذين كان سوقهم يجاور سوق اللصوص الخيمة حذو الخيمة. فهؤلاء كانوا من أهم أعداء المنتظر، نظرا لتهديد دعوته مصالحهم وتجارتهم الرائجة!

مراتع الفقرا بشكلها الحالي.. تؤكد أن الأفكار المؤسسة لها، لابد أن تكون متأثرة، بالخمر الرديء، التي درجوا، على احتسائها رجالا ونساء، بمناسبة ودون مناسبة!

وإلا كيف للأسلاف المؤسسين، أن يخطر على بالهم، ان يكون مثل هذا المكان المنفى، مركز للكون والتجارة والصناعة، وهو ليس إلا رقعة مترامية الأطراف، من الرمال المتحركة، والزواحف والهوام القاتلة، والشمس الحارقة، التي لا تحد حرارتها حدود، فتقتل اَي فكرة خضراء، يمكن أن تنبت خلسة، في غفلة من رياح السموم!

لذا لم يكن غريبا، أن من (يفك الخط) بينهم نادر الوجود.. لا يتعدى عددهم الاثنين أو الثلاثة، من تجار القوافل و (علماء لاهوت) ذلك الزمان، موغل القدم. أهمهم على الإطلاق، (ابن أبي ليل الظلامي الجمري الجريدي النبشي). والد الاعتم.

وفِي العموم، ان الاعتم استقى فلسفته الخاصة، حول أهالي (مراتع الفقرا) لا من والده فحسب، بل من جده (الجمري الأكبر بن أبي جريد )، الذي لم يكن يحق له أن يموت، وفقا لوجهة نظر (الأعتم) لكنه تحدى الحياة، و فعلها، فمات.. قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، ومع ذلك لم يكف عن المجيء في المنام، الى احفاده عبر التاريخ، يلقنهم تقاليد العلاقة، بين الراعي والرعية، كما توارثتها سلالة بن أبي جريد النبشي، الحاكمة على مراتع الفقرا، منذ فجر تاريخها.

وفيما يؤكد التاريخ السري، أنهم ظلوا على الدوام، قوما يسكنهم احساس مزمن بالترويع، الا انهم ظلوا يكابرون ويشيعون عن أنفسهم، ضروبا من الشجاعة وقهر المخاطر، دون أن يطرف للواحد منهم جفن! وبمرور الوقت صدقوا تلك المزاعم عن أنفسهم! وكتبوا فيها من الأشعار و الأغنيات الحماسية، العنصرية النارية، ما يكفي لإحراق العالم كله.

على أية حال لولا أن مراقد الأولياء الغرباء والضريح الكبير، ينهضان بشموخ، في أرض مراتع الفقرا، لحادت كل الدروب والطرق، المؤدية اليها، وعزفت عن أن تفضي، إلى هذا المكان القاحل الكئيب! الذي يسم حياة سكانه، بطابع جنائزي، يغذي فيهم العهر والشبق، لمقاومة مأساويته الطاحنة!

وربما أن شعور (الأعتم) بأنه الوحيد الذي يفك الخط، بين أقرانه، مثل أهم دوافع استهانته بهؤلاء القوم، إذ ظل يعتقد في قرارة نفسه، منذ نعومة أظفاره. في كل حرف غذاه به والده (سيد هؤلاء القوم) أهالي مراتع الفقرا، الذين يعيشون كل يوم بيومه، بل كان الأعتم أثناء ثمالته، عندما يتأمل مراتع الفقرا، لا يرى فيها سوى موطنا بائسا، للمعاقين وأبناء الحرام والسفهاء والهمباتة والجنجويد وقطاع الطرق، الذين أدمنوا الغزو والسلب والنهب من جيرانهم، ومن بعضهم البعض.

وفِي الحقيقة كان جل هؤلاء، أقاربه إذ يحملون الدم نفسه الذي يحمله من اسلافه! ومع ذلك، عندما ينظر لهؤلاء الذين اسماهم، بالخونة ومعدومي الضمير، مرتكبي الجرائم محدودي البصر والبصيرة، لا يرى فيهم سوى أنهم خلقوا، لخدمته وطاعته و يحق له حكمهم، وإفراغ أندائه في أرحام نسائهم، كما فعل أسلافه من قبل. وأنهم دونه لا محالة ضائعون وهالكون، وهو ما خلق إلا لإنقاذهم، من مصيرهم المحتوم، الذين يغذون الخطى إليه حثيثا!..

لكن لا أحد يدري على وجه الدقة، مدى مصداقيته في رغبته انقاذهم من أنفسهم، وقيادتهم إلى بر الأمان! لذا لم يكن ممكنا، أن يتقبل فكرة ان يكون منقذهم شخصا آخراً: سواه.. واللافت للنظر أن البغايا، في مضاربهن، التي امتلأت بالرايات الحمر، على أطراف مراتع الفقرا، بخبرتهن الثرة معه، إذ كان عند اعتلائه لهن، يغش باستعمال أصابعه دعما لـ عضوه الذكري الهزيل، حتى تبلغ البغي النشوة، ولا "تشيل" حاله في مجتمع مراتع الفقرا، ذي الخيال الجامح!

كن يشككن دائما في صدق نواياه، ولا يتورعن عن التصريح لزبائنهن، بان مراتع الفقرا، بحاجة لمن ينقذها منه ومن سلالته الضالة، لذلك سعدن كثيرا، لدى سماعهن نبأ ظهور المنتظر، فأعلن عن مجانية خدماتهن لعابري السبيل، غير المقيمين، ونصف القيمة فقط لزبائنهن من الرواد الدائمين، واقمن بهذه المناسبة السعيدة احتفالا كبيرا، فظهور المنتظر ليس أمرا هينا، وهكذا وزعن في احتفالهن كل انواع الخمر المحلي، الذي اشتهرت به مراتع الفقرا، وأقمن افراحا وليالي مهيبة، رقصن فيها على وقع نقرات الدفوف والدلاليك كما لم يرقصن من قبل.

وما أن اطلعن على تعاليم المنتظر، حتى هجرن حياتهن السابقة، ولَم يترددن لحظة في اتباعه! ربما بدافع النكاية في الأعتم و أشراف مراتع الفقرا، وربما رغبة في حياة يرغبن فيها، ولكن حرمن منها! لكن مما لاشك فيه، إنهن لطالما رغبن في الشعور، بأنهن محل تقدير واحترام!

من الجهة الأخرى تمردت المحظيات والجواري والإماء، على اسيادهن ورفضن مفارشتهم، الا حال ان يعتقن ويعقد عليهن وفقا لتعاليم المنتظر.

وحذى العبيد والغلمان حذوهن، فرفضوا طاعة أسيادهم في أداء الأعمال اليومية، التي ظلوا يرثونها غابرا عن تالد.

كل هؤلاء وأولئك اكتشفوا للمرة الاولى، انهم احرار في داخلهم، وأن لديهم قدرة على فعل يهز عرش الأعتم و أشراف بلدته، وأنهم ليس كما أوهموا ضعفاء ومستضعفين، وأن موقعهم في مجتمع مراتع الفقرا، تحدده خياراتهم وما يؤمنون به. فشعروا بالحرية وعاشوها لا مبالين بالثمن، الذي سيدفعونه لا محالة لقاء ذلك.

الوجوم الذي أصاب أشراف مراتع الفقرا، لم يمنعهم من الاجتماع في (دار الغلاط) للتفاكر، حول هذا الأمر العجيب. ولوقت ليس قصير، لم يتمكنوا من استيعاب هذا التحول الدراماتيكي، الذي صدمهم وأنذرهم أن مراتع الفقرا، مقبلة على نوع مختلف من الحياة التي ألفوها. حياة ليس لهم موقعا فيها، وزاد من رعبهم الغلاط الكثيف والمركز، الذي تقدم به الأعتم، وخرج دون أن يسمع مغالطاتهم له!

بالطبع أشراف مراتع الفقرا، لم يسكتوا على ما يحدث "البلدة ليست سايبة، حتى يعلن كل من أراد انه منتظر.. فيها من يمسك زمامها، فهم أهل الجلد والرأس فضلا عن الجتة" وهكذا استهلوا عهدا من البطش بالمتمردين والمتمردات لم يشهد له التاريخ مثيلا.

كان اخر يوم لريح (أبي الفضل)، التي غدوها شهرا ورواحها شهرا. هبت كعادتها تحن إلى مراقد الغرباء الأولياء، في مراتع الفقرا، وتصبو إليها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، فامتلأ بنسميها القدسي صدر الأعتم، فهاجته الأشجان واسهدته..

بدت له سماء مراتع الفقرا المنبسطة في منبع الريح، مشرعة عن طيوف ذات أشكال غامضة، أحاطت خيام البدو الرحل في أطرافها وبواديها، بنوع غريب من الهدوء والسكينة، اللذان غلفا كل شيء! فلم يعد ثمة صوت، سوى الأصداء البكماء للأبدية،عميقة الرهبة والوحشة والحنين!

أغمض الأعتم عينه الوحيدة، وقد أصابته حالة غريبة، لا يكاد يفهمها!.. خيط رفيع بين اللاوعي والإدراك.. يتخلل الغفوة بيقظة حادة.. متوقدة، تجعل القلب والعقل يهتزان بين بين، على قارعة ريح الصبا!

انتفض مفتونا، حتى تطايرت ذرات من الرمل على عينه اليتيمة، فأخذ يبلل ظاهر سبابته بلعابه، ويدعك جفنه مغالبا الشعور، بوخز الرمل وحرقانه!

اعتدل في وقفته وبعينه الوحيدة، حدق من موقعه أعلى القوز الرملي، في شعب مراتع الفقرا، التي بدت له كأشباح، أو ظلال.. تتخللها أضواء مصابيح الزيت المتضائلة، وهي تتسلل على استحياء جدر البيوت، التي لأول مرة يشعر أنها شيدت كما اتفق، من الطين اللبن و أحجار الجبال وجريد النخل، والشعر وأحزان العبيد وآهات البغايا، و دموع السبايا وعذابات الغزو! و قصائد الهجاء الطوال، التي ما سُمي الحناجرة بالحناجرة، الا بسببها!

كانت الرائحة العذبة لريح ابوالفضل، وهي تلامس جدر بيوت مراتع الفقرا، تمتزج بروائح الطمث والبعر، و بول البهائم وروثها، وفضلات سكانها. والرائحة اللزجة، التي تفرزها مضاجعة النبشيين لنسائهم وجواريهم، الممزوجة في الروائح، التي تفرزها الأجساد المنهكة لعبيدهم! فتشيخ ريح الصبا، وتصبح نوعا غريبا من الريح، كأنه يكتشفه للمرة الأولى!

الرائحة نفسها، تلك التي أشتمها في (ريحانة الواحات)، قبل زمان طويل، وهو يمر ب (دبة الناقة)، منهكا من طول الأسفار، كانت (ريحانة الواحات) من ذوات الرايات الحمر، تؤدّي الضريبة إلى سيدها الأجرب بن أبي الأجرب، الذي كان ينتقل بها من مكان إلى مكان، الى أن حل بها في طريقه إلى (مراتع الفقرا)على الموضع نفسه، الذي تنزل فيه البغايا ب (دبة الناقة)، خارجاً عن الحضر.

وقتها كان الاعتم، قد شارف نزلا قديما، في (حارة البغايا) في أطراف (دبة الناقة). تبادل مع صاحبه الخمار السلولي، بعض حديث عن التسفار، وأحوال (دبة الناقة) و (مراتع الفقرا) في غيبته، ثم سأله:

"هل لي في شيء آكله واشربه، فقد جئت من سفر طويل؟"

وبعد أن طعم وشرب، التفت اليه:

"يا أخا حنجرة، طالت الغربة، فهل من بغي؟"

فرد الخمار السلولي:

"ما أجد لك هذه الساعة، إلاّ ريحانة الواحات، أمة الاجرب"

فأجابه:

"اعرفها.. آتني بها، على ما كان من طول ثدييها، ونتن رفغها"

فأتاه بها، فوقع عليها، ثم رجع إليَّه وقال له:

"اللعينة استلت ماء ظهري استلالاً، تثيب ابن الحبل في عينها"

ابتسم الأعتم وهو يطرد هذه الذكرى، ونسيم ريح الصبا يتخلل كل جسمه، ويجعله رخوا كراسه، الذي ارتمى ببطء إلى الوراء، فيما غاص ساعداه في الرمال، وأخذت عيناه اللامعتان، تتخللان ببريقهما نجوم السماء، كأن ثمة شعاع ينطلق منهما، ليغوص بعيدا وعميقا في السماء، يتخطاها حجابا أثر حجاب، فيتذكر في إتكاءته هذه طفولته وصباه. فيهتاج فيه الحنين أكثر! فأكثر!

غيرت دعوة المنتظر كل شيء، فلم يعد اسم هذه الريح المباركة، على اسم شاعرها أبي الفضل. أصبح اسمها (صبا عرين الدود)، التي يهيم بين طرفي جناحيها، العشاق. يبذلون من ما انطوت عليه جوانحهم من المشاعر والأحاسيس، ما يفيض على وديان عالم لا حدود له، يعبر تخوم ومفازات وأودية تحمله الريح.. يتنفسه الناس، وهم يطوفون بين ذكريات من عشقوا، من سكان الديار دارا فدارا. و تتراكض إحساسا تهم حبيسة الذكرى، كأطياف تسعى بين كل دخول وحومل، في كل فلاة وبيد من المحيط الى الخليج!

هذه الريح.. التي تهيج الآن في الأعتم الشجن، هي نفسها تلك الريح التي سخرها الله لنبيه سليمان، وهي ذاتها الرياح التي نصر الله بها النبي محمد في غزواته، فقاتلت معه بكل جبروتها و ضراوتها! وهي الريح نفسها التي يتنفسها الأعتم الآن، وتحمل ذاكرته على هدب الذكرى!

ذكرى (ريحانة الواحات) في صباها، عندما حل بها سيدها الاجرب على مراتع الفقرا، وهي تتعمد التمايل في مشيتها، بطريقة معينة مغناج، تلامس الرمال كالهمس، محدثة اهتزازات في تكورات جسمها الفاتن، متعمدة إغواء كل الناس لا تستثنى أحدا!

افتتن بها الشباب، الذين كانت تشعر بنظراتهم تتابعها خلسة، تتفحص جسدها الفاره بشراهة.. هذا الجسد الجامح المتمرد المجنون، الذي لطالما داعب أحلام مراهقتهم، فاشتهوا أصابعهم تجوس في منخفضاته وتعبث بمرتفعاته، التي تختبيء خلف الثياب المميزة، التي أغرمت بارتدائها. لكن لا تلبث أصوات العوازل المباغتة، تطفيء توتراتهم التي اختزنت احلاما دافئة تبلل يقظتهم الحالمة!

الان وبعد ان بايعت (ريحانة الواحات) (المنتظر) وصارت تمشي بخطى راسخة، تغوص في رمال (مراتع الفقرا)، دون أن يهتز لها ردف أو صدر، وعيناها تزجر كل من يحاول التلصص، على الطيف الرشيق المتناسق البديع، في ماضي هذا الجسد، الذي أصبح الآن، محض كتلة من اللحم القديم، تعاقبت عليه سنوات رحلتها الشاقة الطويلة، وهي تتقلب من فراش الرّق، إلى فراش العتق، فالزواج على سنة المنتظر!

إذ يراها الأعتم الان، تناوشه ذكرى ليلتهما الأولى معا، قبل عشرات السنوات، وهي تغرز أظافرها في جسده، فتسري فيه رعشة، توقظ مجون كل أسلافه البررة، في الحب والخمر والحرب والنساء الفاتنات!

في تلك الليلة اليتيمة، التي لا تفارقه ذكراها، حتى عندما يكون بين أحضان زوجته (ورد المدائن) تحاصره (ريحانة الواحات) بفتنتها الطاغية.. تصير في عروقه، كل رغباته البركانية المدفونة، التي لطالما حلم بإفراغ حممها، لصهر كل النساء اللائي عرف ويعرف، في امرأة واحدة.. تذوب فيه كل رغبات الماضي والحاضر والمستقبل، وتتوحد معه في زمن سرمدي لا بداية ولا نهاية له، ينكر التأويل وتنعدم فيه العلة والتعليل!

الأعتم يدرك تماما، انه عصارة اسلافه العظماء، من (نبشيين حناجرة) دبة الفقرا، وأن أرواح هؤلاء الأسلاف المقدسين، هي التي صاغته على هذا النحو، الذي هو عليه الآن! كعاشق مهووس بالنساء والخمر والسلطة، لا يتنازل عن اَي من ثلاثتهم وإن كان دون ذلك خرط القتاد!

إذن، في هدأة هذه الليلة الموحشة، لم يكن (الأعتم) وحيدا كما اعتاد.. كان جزء من هذا الكيان الكلي، الذي تتنفسه (مراتع الفقرا) ببطء شديد!

استلقى الوسن على هدب جفنيه، اللذان لم يتمكن النعاس من إغلاقهما، علا غطيطه.. و (ريحانة الواحات) تتهادى في الحلم فارعة كنخلة مراهقة، تعبث بها رياح أبو الفضل اللعوبة!

أغمض عينيه، منتشيا بذكرى معارك غابرة، ورأى ملك أحفاده، الذين لم يولدوا بعد، من نسل بغايا (مراتع الفقرا) و (دبة الناقة) بكل سحناتهم وعقائدهم، ينشئون الفرق والجماعات السرية، التي تثير الاضطرابات والقلاقل، وتذبح الناس كما تذبح الحملان!..

رآهم ينشطون يهمون بحكم هذا العالم الواسع، الذي يمتد من النهر الى البحر، ومن الغابة إلى الصحراء..

هذا العالم الحلمي، الذي يكاد يلامس حدوده بكفه الآن، فينطفئ بين أصابعه كفقاعة، تنفجر وتتبدد، فيفتح عينيه المتعبتين ويهم بقول شيء، فيختنق صوته و يتحشرج، لافظا أنفاسه الأخيرة قبل أن يتشهد!

علا صوت مؤذن المنتظر، منتهكا الحجب الشفافة لقيلولته البديعة، فصحى ونهض مذعورا!.. خرج تقوده قدماه إلى مقابر مراتع الفقرا.. سار كالمجنون مدفوعا بقوة خفية توجه مساره! خال نفسه يسمع أصوات اسلافه الاماجد تحمله رسائل، تكشف اسرار كثير من ما تركوه خلفهم. تحدثه عن ماضيهم الذي كان، وحاضرهم الذي ماتوا فيه، والمستقبل الذي يرونه الآن، من موقعهم في عالمهم السرمدي!

شعر (الأعتم) برعشة تسري في جسده، فالتفت يمنة ويسرى، واندفع مبتعدا يحتضن (درب الحجر)، المتفرع من الدرب القردود للمقبرة.. وخطواته قد أربكتها مشاعر غامضة غموض هذه الظهيرة!

التي على غير عادة ظهيرات (دبة الناقة)، احتفت فيها السماء، بغيوم متكاثفة، تعابثها ريح (ابو الفضل) بشقاوة الأطفال، وتفرقها هنا وهناك. ثم تنصرف تعترض سموم الصحراء اللافح، ثم تغزو خياشيمه برائحة النبات البري، المتناثر على امتداد مجرى السيل، الذي يسير بمحاذاته، في الدروب المتعرجة، التي تخللت أدغال النخيل. فيما ينحني من آن لآخر، يقطف عشبة برية طيبة الرائحة، لا تزال تحتفظ بين تلافيفها، بشيء من ندى الفجر.

فيغمر أنفه فيها و يستنشق بعمق، عطرها الحريري الناعم الرخو، الذي يلامس رئتيه في ود حميم، فيبعث في جسده إحساسا هادئا بالخدر، ويصيبه برعشة هادئة، تهتز لها مفاصله الشائخة برفق!

وإذ يعود (الأعتم) الان، بذاكرته إلى الوراء، يرى (مراتع الفقرا)، أشبه بكرة شفافة تتوسط هذه الذاكرة، التي أنهكتها رحلة الأيام الطويلة، فتطفو على سطحها وجوه عشيقاته، اللائي شهد شبابه معهن، ولا تزال آثار لياليه، التي قضاها مع كل واحدة منهن، ماثلة. كأن ما حدث حدث البارحة فحسب، ولَم تمر عليه عشرات السنوات.

قبل أن يبسط ( المنتظر) تعاليمه، عرف الأعتم ارتياد البغايا، وأحب خلاعتهن ومجونهن، وقدرتهن على منحه من فنون متع الفراش، ما تجهله شريفات (مراتع الفقرا) العفيفات، فرأى منهن ما لم يره من المحصنات، اللاتي عبرن على حياته العامرة بالأسرار.

في ايّام مراهقته الأولى، كان يكره أن يطأ امرأة وطئها غيره، ثم لم يعد يبالي! لذا لم يكترث في تلك الليلة، التي وطأ فيها (ريحانة الواحات)، لرؤيته (درق سيدو بن أبي الأخطل وتاي الكريم بن عواف و أبو قطاطي بن مرق الدار)، يدخلون دارها في أوقات متفرقة، من نهار ومساء ذلك الْيَوْمَ ال?

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم