(1) بعد طلاقنا أنا وزوجتي، حوّلت الشقّة التي كنت أستخدمها مكتباً لي إلى بيت أسكن فيه. منذ أن بدأت العمل في كتابة المسلسلات الدرامية التلفزيونية لكسب رزقي، أصبحت أمضي معظم ساعات يقظتي في سجني الانفرادي، في هذه الشقّة. وحتى فترة قصيرة، كانت تأتي سيدة صديقة لزيارتي لتبدّد وحدتي، لكنها توقفت عن زيارتي عندما دخلتُ في متاهة إجراءات الطلاق مع زوجتي. لكني لم أكترث لذلك. لقد هدرت قدراً هائلاً من طاقتي العاطفية خلال إجراءات الطلاق، إلى حد أن سعادة كبيرة غمرتني عندما تحررت من العلاقات الإنسانية المتشابكة منذ فترة من الزمن، حتى تلك العلاقات التي تنطوي على متع جسدية بحتة. ذات ليلة، بعد انقضاء قرابة ثلاثة أسابيع على حياة العزوبية المتجدّدة، أصابني الصمت المطبق الذي يخيّم على البناية بالدهشة. قلت لنفسي إنها هادئة إلى درجة غير معقولة. لم يكن المكان الذي تقع فيه البناية منتجعاً جبلياً منعزلاً، بل على العكس تماماً، فقد كانت هذه البناية السكنية المؤلفة من سبعة طوابق تطلّ مباشرة على طريق طوكيو 8 الذي لا تتوقف فيه السيارات والشاحنات عن الذهاب والإياب ليل نهار. في البداية، عندما بدأت أقيم في هذه الشقة باستمرار، كان الضجيج اللانهائي المنبعث من الشارع يجعلني مستيقظاً طوال الليل. فقد كانت الشاحنات الطويلة الكبيرة التي تجعل مواعيد رحلاتها في ساعات منتصف الليل عندما تخفّ حركة مرور السيارات الأخرى، تتسابق الواحدة تلو الأخرى، وكان يبدو لي أن الهدير الذي تصدره تلك الشاحنات ينبعث من أعماق الأرض. عندما كنت أقبع في سريري، فريسة لهذا الضجيج الهادر، كانت تنتابني نوبات من ضيق التنفس. وعند إشارة المرور التي لا تبعد أكثر من مائة متر أسفل الطريق، كان الضجيج يتوقّف بشكل دوري، وما هي إلا لحظات حتى يعود السكون يتمزق بدرجة أعلى، عندما تعود الشاحنات للانطلاق مرة أخرى، ويعود الهدير الذي لا يرحم بلا هوادة، ويعود قلبي يخفق بقوة أشد، وتطبق الجدران عليّ، فأنتصب جالساً في سريري لاهثاً بشدة. لم أتعوّد سماع هذا الهدير الصاخب على مدار الساعة إلا بعد حوالي عشرة أيام. عندما كان يخطر ببالي أن أمضي الليلة في الشقّة عندما كنت لا أزال أستخدمها مكتباً لي، كنت أرفض هذه الفكرة رفضاً قاطعاً على الفور، لأنني أعرف أنه لن يغمض لي جفن فيها. لكن بعد أن اسُتنزف حسابي المصرفي بعد الطلاق، ولم أعد أملك نقوداً تمكّنني من الانتقال إلى مكان آخر، لم يعد أمامي خيار سوى القبول بأن أقطن هذه الشقة. لكن سرعان ما تبين لي أن بإمكان المرء التكيّف حتى في ظل ظروف كهذه. فقد تراجع الهدير المتواصل الذي تحدثه الشاحنات، وأصبح يثوي في ثنايا وعيي البعيدة، كما تلاشت دندنة مكيّف الهواء. وكنت أدرك أحياناً، بدهشة شديدة، أن تكتكات العقرب الثاني للساعة المعلقة على الحائط، أصبحت الصوت الوحيد الذي يمكنني سماعه. أما الآن فقد بدأت أشعر بأن سكوناً مطبقاً يخيّم على البناية، وبدأت أتساءل إلى أين ستقودني أحاسيسي هذه. في إحدى الليالي، قرابة نهاية شهر تموز (يوليو)، اجتاحني هذا الإحساس بالسكون الشديد عندما جلست إلى طاولتي وبدأت أعمل بعد الساعة الحادية عشر بقليل. سرت قشعريرة باردة في عمودي الفقري، وأحسست كما لو كنت معلّقاً في وسط فراغ مظلم واسع، وحيداً تماماً. "هدوء مخيف يجثم على المكان"، همهمت لنفسي. تجاهلت هذا الإحساس لفترة من الوقت وواصلت الكتابة. بعد قليل، فتحت القاموس لأبحث عن كلمة في نظام كانجي للكتابة، لا أتذكّرها الآن تماماً. وبينما كنت أقلّب صفحات القاموس بحثاً عنها، أدركتُ أن الإحساس بالاضطراب هو ذاته الذي كان ينهشني في الليالي العديدة الماضية. توقّفت عن تقليب الصفحات، ورحت أنصت. من خلال هدير الشاحنات والسيارات، حاولت جاهداً تمييز صوت آخر. لم أتمكن من سماع شيء آخر. هل جعلني طلاقي لزوجتي نهباً لمخاوف من نوع معين لا تزال عالقة؟ تساءلت. أي شخص يتمتع بعقل سليم يستطيع أن يتخيّل أن بناية تطلّ على شريان مروري رئيسي في المدينة ستكون هادئة؟ كنت أنا من طلب الطلاق. وعلى الرغم من أن طليقتي كانت قد أبدت كلّ أنواع الاعتراضات في البداية، لكنها سرعان ما أقرّت بأن الرابطة العاطفية القوية التي كانت توحّدنا قد ذوت وتحوّلت إلى لامبالاة وعدم اكتراث. في الواقع، كانت قد بدأت هي أيضاً تشعر بخواء في حياتنا الزوجية، وعندما أمعَنَت التفكير في الأمر، آمنت بفكرة الطلاق من أعماق قلبها. لقد اعترضتنا بعض الصعوبات حتى توصلنا إلى تسوية مالية مُرضية، لكن الجميع أقرّوا بأن الطلاق قد تم بهدوء ومن دون ضجيج يذكر، بالمقارنة مع الخوض في أوحال زواج لم تكتب له الحياة إلى ما لا نهاية، وعدنا نكتسي نفس الوجوه اللطيفة القديمة، كلّ يوم وطوال اليوم عندما كنا نواصل حياتنا معاً، لكننا كنا منفصلين. إن هذا الإجراء الحاسم أيقظ فيّ حبّاً جديداً كاملاً للحياة. "إني سعيدة للغاية لأنك اقترحت فكرة الطلاق"، قالت زوجتي أخيراً. لم أكن بتلك الدرجة من الحمق لآخذ ملاحظتها كلها بشكل ظاهري، بل لا بدّ أنها كانت تنطوي، على الأقل، على قدر من الحقيقة. في جميع الأحوال، بما أنني أنا من طلب الطلاق في المرتبة الأولى، فلا يمكنني أن أعترض على مشاعر الوحدة التي بدأت أعاني منها الآن. ماذا يهم أن يكون المكان شديد الهدوء؟ نهضتُ واقفاً على قدميَّ، واتجهتُ نحو النافذة، وفتحتُ الستائر. تركتُ النافذة مغلقة. لم تكن النافذة محكمة الإغلاق، لذلك، فإني أستطيع أن أفتحها إذا أردت، لكنّي كنت أعرف أن ذلك لن يؤدي إلاّ إلى إدخال الحرارة القائظة هذا اليوم، بالإضافة إلى الأدخنة الكثيفة المنبعثة من عوادم الشاحنات التي تطلق هديراً خلال ذهابها وإيابها على الطريق 8. نظرتُ إلى الأسفل، إلى باحة وقوف السيارات. لم يكن بوسعي أن أرى الباحة كلها من المكان الذي أقف فيه، لكنّي كنت أعرف عدد السيارات التي يمكنني أن أتوقّع وجودها. سيارة واحدة فقط. وباستثناء الشاحنة الوردية اللون الوحيدة المركونة في مكان منعزل، كانت هناك بقعة واسعة من الإسفلت فارغة تتخللها شبكة من الخطوط البيضاء. أثناء النهار، تمتلئ كلّ هذه الفراغات، أما عندما يحلّ الظلام، فتبدأ السيارات بالاختفاء الواحدة تلو الأخرى، وتبقى الشاحنة الوردية اللون فقط مركونة في مكانها. كنت قد رأيتها في هذا المكان بالذات ليلة البارحة أيضاً. ليلة البارحة، أيضاً؟ هذا صحيح، أدركتُ. فقد وقفت ليلة البارحة أيضاً أمام النافذة هكذا، ورحتُ أحدّق في الفراغ الإسفلتي في الأسفل. هل يعزى ذلك إلى معاناتي لأنني لم أر ابني الوحيد، الطالب في السنة الثانية في الجامعة هذه السنة؟ لا أظن أن هذا هو السبب. فقد كنت قد انكفأتُ إلى عالمي الخاص قبل الطلاق بفترة طويلة. فإن كنت أشعر بأنني على ما يرام لأنني كنت لا أكاد أرى ابني، فلمَ أشتاقُ إليه الآن فجأة؟ التقطتُ مفاتيحي من علبة أقلام الرصاص الملقاة على المنضدة، وألقيت بها في جيبي واتجهت نحو الباب. عندما خرجتُ إلى ردهة الطابق السابع، تركتُ النور في الشقة مضاء. لم أشأ أن أصدّق بأن الشعور الذي يعتريني بأن السكون المطبق الذي يخيّم على البناية ناجم عن خلل في حالتي العقلية، لذلك قررت أن أكتشف ذلك بنفسي وأحسم الأمر. لقد أردت أن أثبت أن البناية ساكنة بالفعل - لخلوّها من السكان. ففي واقع الحال، لا أحد يريد أن يقيم في مثل هذه الشقق الشنيعة التي ينهال عليها، ليل نهار، ضجيج شديد وأدخنة عوادم الشاحنات والسيارات التي تمرق بسرعة البرق، لذلك كان أفضل استخدام ممكن لهذه البناية هو استخدامها كمكاتب للعمل. كانت نوافذ البيوت الأربعة الأخرى في الردهة الجانبية في الطابق الذي تقع فيه شقتي معتمة تماماً. ضغطت زرّ المصعد. مع أنني أعرف أن بعض الشقق في هذه البناية يُستخدم مكاتب، فلم أتوقّع قط أن تكون بهذا السكون. ولابد أن معظم قاطني البناية يغادرونها عندما يهبط الظلام. وإذا لم تخني ذاكرتي، فإن البناية تتألف من 41 شقة، ربما كانت تفرغ جميعها باستثناء شقة أو شقتين في كلّ طابق أثناء الليل. فُتح باب المصعد. كان خاوياً. كنت أكره دوماً اللحظة التي تُفتح فيها أبواب المصاعد في بنايات كهذه. فقد انكمشتُ من الفكرة التي خطرت لي فجأة وهي أن أصبح وجهاً لوجه مع شخص غريب تماماً. عندما تيقّنت أن المصعد فارغ، أطلقتُ تنهيدة صغيرة تشي بالارتياح. دخلت إلى المصعد وهبطت إلى الطابق الأول. ما إن خرجت إلى البهو غير المكيّف بالهواء، لفحتني حرارة رطبة حارة سميكة. مشيت في الردهة الخافتة الإضاءة، وخرجت من باب البناية الرئيسي. كان الهواء خارج البناية، كما هو دائماً، مليئاً بالضوضاء وأدخنة عوادم السيارات والشاحنات التي لا تتوقف عن المرور، لكن الظلام خفف قليلاً من حدة قيظ النهار. توجّهت إلى باحة وقوف السيارات. كانت سيارتان أخريان مركونتين في فراغات لا يمكنني أن أراها من نافذتي. ووجدت الشاحنة الوردية اللون التي أراها عادة من نافذة شقتي، وقد رُسم على جانبها ثلاثة سناجب مبتسمة. ثم علمتُ أنها شاحنة مبيعات تابعة لشركة تصنع ملابس أطفال. ألقيتُ بوجهي إلى الوراء لأدرس واجهة البناية من الطرف الجنوبي الشرقي. لكلّ شقّة من الشقق نافذة واحدة على الأقل من هذا الجانب. يمكنني أن أتوقّع رؤية ضوء إذا كان أحد موجوداً في البيت. لم أر سوى ضوء منبعث من نافذة واحدة فقط – نافذتي - في الطابق السابع، بينما كانت جميع النوافذ الأخرى كالحة السواد. "يا إلهي" قلت لنفسي بدهشة. وقفت في مكاني أتأمّل صفوف النوافذ المعتمة. ما عدا نافذة أو نافذتين في كلّ طابق. لا أحد يقطن في البناية في الليل على الإطلاق. في هذه الساعة من الليل، بعد الساعة الحادية عشرة، لم تكن هناك نافذة مضيئة إلا نافذة شقتي. لا، فأنا لست مريضاً بمرض عصبي. سكون مطبق يغلّف البناية. لعل بعض النوافذ مظلمة لأن قاطنيها قد خلدوا إلى النوم. لكني لا أظن أن ذلك ينطبق إلاّ على حفنة من البيوت. عدت إلى مدخل البناية بخطوات وئيدة. لم يكن دخول البناية بذات سهولة الخروج منها. إذ يتعين عليك أن تُدخل مفتاح شقّتك في اللوحة الأمنية المثبّتة على الجدار بجانب باب البناية. يؤدي دوران المفتاح إلى فصل القفل لمدة لا تتجاوز عشرين ثانية. أما إذا كنت في بيتك، فيمكنك أن تدخل إلى البناية بدون مفتاح، بل باستخدام الهاتف الداخلي. ويمكّنك زرّ تضغطه من أن تصعد إلى الشقّة المطلوبة، وبعد أن تعرّف عن نفسك، يستطيع الشخص داخل البيت أن يفتح لك الباب بعد أن يضغط زرّاً من داخل شقته. وفي هذه الحالة أيضاً، أمامك حوالي عشرين ثانية حتى تفتح الباب وتدلف إلى ردهة البناية. وبما أن المشرف على البناية يعود إلى بيته أثناء الليل، فإن هذه التدابير الأمنية تبدو ضرورية للحفاظ على الأمن في هذه البناية. إذاً فأنا الشخص الوحيد في هذه البناية، قلت لنفسي عندما ولجت إلى الداخل. أنا الشخص الوحيد الذي بقي في البناية كلها. مع أني بقيت غير متيقن تماماً من هذا الأمر، فقد كان جزء مني يريد أن يعتقد ذلك. سرتُ في الردهة متجهاً إلى أريكة أسند ظهرها إلى الحائط. كانت تبدو ثقيلة. أحسست بشيء من التوتر عندما أدركت أن لا أحد غيري في بناية ضخمة كهذه، في ساعة متأخرة من الليل. لكن بدا أن ذلك قد بدأ يحرّرني أيضاً، كما لو كنت قد عدت إلى طفولتي وإحساسها المثير بالحرية والبراءة. لم يمض على جلوسي في الردهة أكثر من دقيقة، حتى تناهى إليّ صوت وقع أقدام تقترب من المدخل. بدأ قلبي يخفق بسرعة، وغريزياً، غصت في الأريكة. وصل صوت وقع الخطوات إلى الباب ثم توقّف. عندما التفتُ ببطء، تبين لي من خلال الزجاج أنها امرأة. رحت أتفحّصها وهي تفتش داخل محفظتها عن مفتاحها. لم تبد لي فتاة شابة - لعلها في منتصف الثلاثينات من عمرها. أدَخَلَت مفتاحها في اللوحة الأمنية كما كنت قد فعلت أنا قبل دقيقة أو دقيقتين فقط، وتشنّجتُ قليلاً. خشيتُ أن أخيفها وأجفلها لأنها لا تتوقّع أن تجد أحداً جالساً عند مدخل البناية في هذه الساعة المتأخرة من الليل. فُصل القفل وانفتح الباب. أطرقت برأسي. بدأ كعب حذائها ينقر على الأرض نقرات سريعة وهي تمشي بسرعة باتجاه المصعد. من خلال الحذاء الأبيض والساقين الرشيقتين التي كانت ضمن مجال رؤيتي، لم يتعثّر إيقاع خطواتها. يبدو أنها لم تلحظ وجودي. إذا كان الأمر كذلك، فهذا أفضل. لم تتوقف ولم تتلفت حولها، دخلت إلى المصعد، وأُغلق الباب وراءها مصدراً ذلك الصوت الميكانيكي المعهود. رفعتُ عيني نحو المصعد، ثمّ نهضت واقفاً بسرعة. توقف الضوء على المؤشر الموجود على باب المصعد عند الطابق الثالث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*"تاييشي يامادا"، كاتب سيناريو وروائي ياباني، اسمه الحقيقي "تاييشي إيشيزاكا"، ولد في 1934، في أساكوسا بطوكيو، اليابان. الرواية صادرة عن منشورات نينوى في دمشق.

الرواية نت - خاصّ

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم