مشى مراد في طابور المبايعين تحت خيمة طويلة وقف على طول جانبيها صفان متقابلان من الملتحين المبتهجين شكلوا جمهوراً ارتفع صوته بالتكبير ما إن فرغ كل شخص ضمن الطابور من ترديد قسم البيعة للخليفة أمام ممثله والي الموصل. كان ثقلٌ ما يضغط على رجليه ونظرةُ والدته الأخيرة المتوسلة مازالت تطارده وتحاول جره الى خارج الخيمة مقابل إرادة عشقٍ فرضت سلطتها المطلقة عليه وجعلته يمضي في قراره حتى وإن كان حتفه من أكثر نتائج مجازفته توقعاً. لاحت دمعةٌ في عينيه عندما تذكر ثياب فيروز المبعثرة على أرضية غرفة بيتها الوحيدة. ربطات رأسها، قمصانها، مناديلها، صورتها الصغير التي أختطفها من زاوية المرآة وأمطرها قبلاتٍ. ميزانها المقلوب ومقعدها الخشبي في الباحة الضيقة. صاح الجمهور: " الله أكبر... الله أكبر" وصل الى قريتها بعد يوم واحد فقط من سقوط سنجار والقرى والمجمعات المحيطة بها بأيدي مقاتلي الدولة الإسلامية وانتشار أخبار قتل الإيزيديين الجماعي وأخذ نسائهم سبايا ولجوء الناجين منهم الى قمة الجبل. توسل في سره وهو يترجل من سيارة البيك آب ومعه ضياء المندهش أن تكون فيروز على قيد الحياة ومختبئة في مكان ما. كان مستعداً لحظتها أن يمسك بيدها ويذهب بها بعيداً متحدياً من أجلها العالم بأسره. قال ضياء وهو يفرك بإصبعين فروة رأسه: "أتسكن حبيبتك هنا، في هذه القرية ؟". قُرب حوض البئر نهاية القرية فاجأهما مسلح ضخم من الخلف متأهباً مع بندقيته الكلاشينكوف. ترجرج كرشه لحظة أن أمرهما بلكنة سورية رفع ذراعيهما وكاد أن يطلق النار عليهما عندما عجزا عن معرفة كلمة السر العسكرية وبقيا صامتين. سألهما وهو يرخي زناد البندقية بسبابته متحفزاً لإعدامهما: "هل هذه قريتكما؟". قال مراد متردداً: "كلا نحن عرب، من قرية أم نهود". وأضاف ضياء بفرح كأنه اكتشف كلمة السر التي طلبها المسلح: "دولة الإسلام باقية!". ما أن اطمأن لهما المسلح الذي كان يرتدي ثياباً عسكرية حتى أخذ يحدثهما وبلا توقف عن دعواته المستجابة بعد ثلاثة أشهر متتالية من الصيام تمكن إثرها جُند الخلافة مستعينين بمدد رباني من دحر قوات الجيش العراقي والبيشمركة خلال ساعات فقط. أشار إلى صدره مفاخراً بأنه المجاهد الوحيد المكلف بحماية القرية. ثم دار حول نفسه يعد بيوتاتها الصغيرة المتهالكة محركاً رأسه الضخم فاهتزت جديلتاه ولحيته الكثة: "واحد اثنان... ستة. حسناً، كل هذا أصبح ملكاً لنا". لم يتسنّ لهما قول أي شيء. أجلسهما على الأرض بالقرب من شاحنة البصل المتفحمة ورسم في الهواء خريطة متخيلة لسير المعارك التي وقعت في المنطقة. حدد بيديه نقاطاً وهمية تحرك معها على الأرض ببسطاله الأسود الكبير مثيراً الغبار وشرح مضخماً صوته بلغة عربية فصحى تفاصيل الغزوة من لحظة خروج الجحافل ترفرف فوقها الرايات السود من تلعفر والموصل الى آخر رصاصة فرح أطلقت ابتهاجا بالنصر عند سفح جبل سنجار.
وعند مروره مستعرضاً نتائج الغزوة في قاطع قرية فيروز أخبرهما أن امرأة عجوز وصبية فقط قُتلتا جراء قصف الهاونات التمشيطي وأن حكم الله نفذ على رجال القرية الكفار جميعاً وحصل المجاهدون المشاركون في الغزوة على النساء وأرسلن مع الأطفال الى مدينة تلعفر ليتم توزيعهم بإشراف أمير ديوان الجند هناك. ثم استدرك قائلاً: " قرى ومجمعات اخرى مازالت مشغولة بساكنيها الايزيديين، سيمنحون الأمان إذا قبلوا الدخول في الإسلام". ترجرج كرشه مرة اخرى عندما قال ممازحاً: "اذهبا بعجل الآن الى تلعفر فقد تحصلون على واحدة مجاناً". عاد الهتاف في الخيمة: "الله أكبر.. الله أكبر".
وضع مراد يده على جيب قميصه حيث صورة فيروز قريبة من قلبه. ضغط على صدره متذكراً فتوى الملا حسن الهامسة خلف المسجد بعيداً عن أعين وضاح الذي أصبح يكنى بأبي حفص وباقي أنصار الخلافة الذين رجعوا الى القرية بثياب أفغانية وشعور ولحى أطول من السابق، مزهوين بفتوحاتهم وفارضين قوانين سلطانهم. قال الملا حسن إن على السبية دخول الإسلام ليكون بوسعها الزواج من مسلم وتصبح حرةً إذا حررها صاحبها أو اشتراها شخصٌ وعتق رقبتها وتخرج من الرق الكامل خروجًا جزئيًا بمجرد وضعها مولوداً وتعتق بالكامل إن مات سيدها. سأله الملا حسن مبتسماً بخبث وهو يقبض على كتفيه: "تبدو إشاعة عشقك لأيزيدية صحيحة يا ولد؟". دفعه شخص من ظهره برفق ليتحرك الى الأمام فامتثل لا إرادياً بخطوات سريعة صدمته بآخر أمامه فعاد خطوةً الى الوراء وكاد أن يسقط لولا أسند من الخلف. كانت رائحة أمه قد باغتته وحرارة دموعها على وجهه وهي تحتضنه مودعةً بعد يأس ليلة نواح كاملة لم تنجح معها وعود وضاح الذي تكفل بمرافقته الى الموصل وإيصاله الى عمه الأمير عبود أبو رواحة ليجد له صنفاً غير قتالي في الجيش. كان خوفها من فقدانه قد سيطر عليها ولم تعد تسمع أحداً. تنوح بين الحين والآخر بصوت موجوع وسط مراقبة لصيقة من ضرتيها: " كنت أريد أن أرقص في زواجك وأحمل أطفالك. الله ينتقم من الذي كان السبب". ثم دارت بنظرها بين وضاح وضرتيها. غرق المكان في صمت عميق لدقائق استراحت فيها مزنة من نواحها ثم عادت لمواصلته.
كان الشيخ حامد مسنوداً بوسادتي صوف يراقب برؤية ضبابية جلسة عزاء مزنة المفتوحة. قبل مراد يده السليمة وقال له مغالباً دموعه: "التحاقي بهم مؤقت ولغاية نبيلة ترفع الرأس. سأعود قريباً يا أبي أعدك بذلك".
لم يكن متأكداً من أنه يستمع إليه فقد كان الشيخ ينظر بعينين نصف مغمضتين الى لاشيء لحظتها. قرب مراد وجهه وقال بصوت هامس في أذنه: "سأحررها مهما كان الثمن". أمسك الوالي يد مراد اليمنى بقوة. سحبه إليه قليلاً ممعناً النظر فيه قبل أن يلقنه القسم بصوته الغليظ ومراد يردد خلفه كتلميذ في درسه الأول: "أبايع أمير المؤمنين أبا بكر القرشي على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر وعلى إقامة دين الله وجهاد عدو الله وعلى إقامة الدولة الإسلامية والذب عنها والله على ما أقول شهيد".
جفل مراد حين ضجت الخيمة بالهتاف: "الله أكبر.. الله أكبر".


• نوزت شمدين: روائيّ عراقيّ مقيم في النرويج. • رواية "شظايا فيروز" صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر-بيروت- 2017 ب 286 صفحة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم