ذلك الغريب الذي ظنته المسكينة زهرة زوجها فاتح جاء قاصدا خيمتنا. من هيئته يبدو وكأنه غير معتاد على المشقات. قصد ظل (كرمة جدّي)، شجرة تين على مقربة من الخيمة. قيل بأن جدي سيدي أحمد هو الذي زرع تلك الكرمة. كان يستظل بظلها كلما اشتدت الحرارة وقت الظهيرة، هذا حسب قول من عايشوه. بعد السلام على الغريب، طلب مني شربة ماء. يبدو أن الرجل كان شديد العطش، ولعل الحصان كان كذلك. بعد لحظات عدتُ ومعي الماء ولبن مخيض، تركته يستظل لأتوجه نحو المطفية لإحضار سطل ماء لتوريد البهيمة.. لأنني رأيت ذلك الحصان كان يترنح من شدة العطش.. بعد أن شرب الغريب اللبن استرجع أنفاسه ثم تنحى جانبا ليتوضأ بما تبقى من الماء. صلى الرجل ركعات الظهر الأربع، سلّم وزاد ركعتين، وبعدها رجع. بدأ الغريب يستطلع المكان، ثم يركز نظره نحو الأغصان. فهمت المقصود، قمت لأجنيي له حبات التين الأسود. بعد برهة ألقى علي السؤال، لكنني لم أجبه في الحال. وحينما شرع في أكل التين، قال: "التين والزيتون وطور سنين.. سبحان العلي القدير". كان يتكلم دون أن يلتفت إلي، بل كان كل تركيزه على تلك الباكورات، وبتروّ كان يزدرد الواحدة بعد الأخرى.. في ذات اللحظة رأيته يتطلع إلى المكان، رمى بصره بعيدا وقال: —ما اسم هذا الدوار يا ولدي؟ —دوار أولاد العزّة يا سيدي، قلت. قال جئتُ من بلاد بعيدة، أبحثُ عن جامع بالقرب من ضريح الولي سيدي جابر. ظننتُ أن تلك هي قُبَّته فقصدت هذا المكان. لكن، يبدو أنني لم أقصد المكان المرغوب! صمت برهة ثم سأل: "وتلك البناية الشامخة، لمن تكون؟" أجبته بدون تردد: "تلك البناية الشامخة ذات المعمار الفريد من حيث الشكل ومن حيث الفخامة الظاهرة للعيان-والتي تظن بأنها قبة سيدي جابر- إنها إقامة أجنبي يسمونه التاجر. هو غريب عن هذا البلد يا سيدي.. كيف؟ لاندري..كما ترى فتلك الإقامة حديثة البنيان، وبناؤها ليس مثل تلك القصور القديمة التي بناها القواد أيام زمان والتي لم يبق منها غير الأطلال.. يبدو أن تلك الأطلال كانت بنايات متينة وجميلة كذلك، قال الغريب. قلت لا سيدي لا مجال للمقارنة بين تلك الإقامة وبين أطلال سيدي جابر، أنظر مليا إلى فوق، فذلك الصرح العجيب يبدو وكأنه يراقب أنفاس تلك البيوت المتواضعة أسفل الوادي. أنظر... أنظر إلى أسفل، لترى جيدا تلك الأكواخ المحفوفة بأغصان الصبار الشائكة، وتلك المحلات الواطئة المتناثرة هنا وهناك في البراري، أتدري لمن تكون؟". قال: "ألا يوجد بقبيلتكم رجال؟!"... ظل الغريب صامتا ينظر ويتأمل في المكان وينصت بشوق واهتمام.. يبدو أن رغبته أن أسترسل في الكلام... أن أحكي له بإسهاب عن هذا المكان، أن أحكي له عن ناسه الذين قضوا نحبهم، عن الذين مازالوا أحياء يرزقون... عن الحاضر عن الماضي وعن المستقبل حتى... أما أنا، فذلك الحكي سيكون متنفسا عن ذاتي من الكرب، ولأكف عن التباكي على ما فات.. لكن مهما حكيت يا سادة، فقد يبقى كلامي هذا، مجرد حكاية...

ـــــــــــــــــــــــ كاتب ومترجم من المغرب الرواية قيد النشر.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم