Florida, soho


من سوریا إلى سوهو -----------------------------. عندما دخل محمود الحانة لأوّل مرة ، كان یرتعش، وقد انتابه شعور غریب جداً ، وكأنه على كوكبٍ غریب....
لا ینتمي إلیه . إناث شبه عاریات ... یلبسن ملابس شفافة وقصیرة جداً وینتعلن أحذیة لامعة وعالیة . ویضعن مساحیق التجمیل الصارخة .كنّ من جنسیات مختلفة ، ولكن ذات الأعمار الشابة، وشباب یتحدثون بلغات مختلفة .كان منهم الأمریكان والآسیویون، العرب، الایرانیون، وكثیراً من الذین جاؤوا من میامي وهم یحملون الجنسیات الكوبیة..ویتحدثون اللغة الاسبانیة.
وقف محمود مذهولاً بعض الوقت ....وحاول أن یسترد أنفاسه المتقطعة ، ینظر نظرة خاطفة إلى الفتیات وتارةً إلى الأكواب التي بین یدیه التي كان یحضرها لیضعها على البار الذي كان یقف خلفه . كما طلب منه صدیقه زاك .وقد بدأ علیه الخجل من ردة فعل جسده الذي اشتعلت فیه حرائق الشهوة ،فراح یحتسي كوباً من الماء البارد لتهدأ
نفسه قلیلاً . كانت الحانة عبارة عن مكانٍ كبیر مبنیاً من الخشب اللامع والزجاج المحفور الملون .كان یبدو علیه أنه قدیم وقد خضع لتجدیدات حدیثة، وإضافة مطعم كبیر فیه لطهي المأكولات المتنوعة. وهذا ماجعل الناس یأتون إلیه من جمیع أنحاء المدینة للتسلیة ولقضاء وقتاً ممتعاً . كانت أجهزة التلفاز معلقة في كلّ الجهات .یشاهد فیها الزائرون برامجهم المفضلة أماّ الأضواء خافتة فكانت تساعد على جو رومانسي جمیل .یجمع العشاق والأصدقاء. هناك قسم یجلس فیه الناس حیث تُقدم لهم
الوجبات الخفیفة التي تعشقها الأمریكیات مثل الفلافل والشاورما والحمص. حیث یستمع الشباب إلى الموسیقا العربیة للشاب خالد أحیاناً أو / واللیدي جاجا / lady gaga.وكثیراً من أغاني الراب .و یرقص الشباب على أنغامها.
یجلس بعضهم على كراسي متحركة خلف البار ، لیطلبوا شرابهم المفضل من النادل مثل: Bloody Mary
. the Long Island iced tea المارتیني أو والموهیتو، حیث یقدم إلیهم النادل مقبلات ، كالتبولة ، الخضار الطازجة والمقطعة والصلصات وأجنحة الدجاج المقلیة والحارة.
ولكن المشروبات الروحیة یمنع من شربها من هم تحت السن القانوني لشرب الكحول.
رأى محمود الكثیر من الشباب العرب الذین یضعون الوشم على جلودهم ومنهم من كان یراقص صدیقته ومنهم من كان یقبلها . في البدء كان یحسبهم من الجنسیات الاسبانیة ولكن كان یستمع لبعض الدردشة التي تتخللها بعض الكلمات العربیة( شوف هل البنت صاروخ، واﷲ عندها عیون بتجنن) ثم تعود اللكنة الانكلیزیة كما سمعهم یتحدثون بها بالسابق) فقد كان معظم البنات اللواتي یجلسن معهم أمریكیات.
كان المنظر غریباً وكأنه یشاهد أحد الأفلام الأمریكیة .التي اعتاد أن یراها وراء شاشات السینما عندما كان في الوطن.
فجأةً تخّیل محمود، منظر البحر وصراعه مع الموج، والجثث التي كانت تطفو على وجه .... حیث عاش صراع البقاء مع الماء، ولكن صراعه هذا كان أصعب صراع قابله في حیاته ..... فكیف لشابٍ نشأ في بیئة دینیة ولم یر الكحول في حیاته أن یصبح نادلاً بین یوم ولیلة ..... فقد شعر كأن الحیاة تسخر منه وهو الذي سخر من السكارى والمترنحین على الطرقات.
بجانب البار كان هناك شاب أسمر البشرة ، طویل القامة، عریض المنكبین ، مهمته حمایة الفتیات من السكارى وفضّ أي نزاع قد ینشب في الحانة.....
( أصعب الأشیاء في الحیاة هي البدایات ... علیها تترتب كل الحماقات اللاحقة.... واسیني الأعرج)...
الصفحة الثانیة ..................... كان محمود یستغفر ربه كلما وقعت عیناه على فتاةٍ جمیلة ولأنه كان شاباً وسیماً كانت الفتیات ینظرن إلیه بإعجاب.
في أول یوم بدأ فیه العمل في سوهو في حانة الهاید بارك) رأته كریستین وهي فتاة أمریكیة تتردد إلى البار كل یوم جمعة لتقضي یوماً ممتعاً وترقص وتتسامر مع أصدقائها كانت قد تعرفت في البدایة على زاك ( وهو شاب عربي) و حبیبته روزان منذ عامین ونشأ بینهم صداقة حمیمة ، شیئاً ما كان یشدها للعرب وثقافتهم وطریقة معیشتهم حتى اللكنة الانكلیزیة التي كانوا یتحدثون بها .فقد كان یعجبها الارتباط الأسَري بین الفرد وعائلته واحترامه لوالدیه. وكم أحبت عشق زاك لروزان ....وتمنت لو تحظى بحبیب یحبها ویغار علیها.
كانت كریستین أنثى جمیلة ، شقراء الشعر، ناصعة البیاض، یفترّ ثغرها عن ابتسامة ساحرة، ولها عینان بلون زرقة البحر . كان جسمها ممتلأً ولها نهدان بارزان . وكانت فتاة لطیفة، واجتماعیة تحب السهر واللهو والتعرف على الشباب العرب.
ولكنها ما تزال في المرحلة الأولى من دراستها الجامعیة.

في ذلك الیوم، سألت زاك عن محمود بدلال.....
متى جاء صدیقك؟؟؟ قال زاك: أتقصدین مایك ؟؟؟ قالت كریستین : اسمه مایك؟ رائع!... أجابها زاك: منذ أیام فقط...... وهو خجول جداً وجدید على هذه الأجواء .....(انا اخترت له اسم مایك لأنه سهل اللفظ ویبعد عنه بعض تعلیقات العنصریین الذین یكرهون العرب) نشأنا معاً في نفس المدینة(بانیاس) وأتیت أنا كما تعلمین قبل الحرب وبقي هو هناك.
وبعد الحرب أصبحت ظروفه صعبة جداً هو وأسرته فشجعته على القدوم إلى هنا.
وهو یقیم في شقتي الآن في إیبور سیتي ، ریثما تتحسن ظروفه. سألت كریستین : هل هو مرتبط .؟؟؟ قال زاك مبتسماً : لماذا تسألین ؟ هل أعجبك .؟؟؟( لا اعتقد انه مرتبط) نسیت أنك تمیلین إلى العرب ( أو راكبي الجمل) كما یقولون هنا.......
نظرت إلیه كریستین بغضب .....وأردفت : لا تقل هذه العبارات أرجوك!.....
هي للعنصریین فقط ....!أو ) red neck) وأنت تعرفني لا أفرّق بین الناس أو ِّ أقیمهم حسب جنسیتهم أو دینهم ، فقیمة الفرد عندي بما یحمله في روحه من أخلاق وقیم.
ثم قالت: یبدو على صدیقك أنه متعب كثیراً من السفر.....
قال زاك: نعم لقد عاش رحلة طویلة ومرعبة. الأفضل ألاّ تفكري به كثیراً فهو متدین ولا یصاحب أحداً كریستین ..... اسمعیني جیداً صدیقي لیس متحرراً كما تظنین.
ولا اعتقد أنه یحب العلاقات العاطفیة.......
أجابت كریستین : أنا یعجبني هذا النوع المستعصي......
وأخذت تضحك وتنظر إلیه بإعجاب!.
لا أظنُ أنه قدیس ....... فهو بشر مثلنا بالنهایة.
وممكن جداً أن یقع بالحب!!!!.
وممكن أیضاً أن یرتشف قلیلاً من نبیذه!. أحببت كل هذه البراءة التي تسكن في عینیه .....سأروضه قلیلاً قلیلاً تذكر هذا یا زاك ...وسنصبح أنا وهو أجمل عاشقین في سوهو!....
انتظر وستبهرك النتائج .... أنا كریستین الأنثى الجمیلة ، اللعوب.
وأعرف جیداً كیف أخرجه من قوقعته .... وسأجعل منه أفضل نادلٍ وأفضل ساقي خمر .....وسیفتح أكبر زجاجة شامبانیا بكل سرور ویحتسیها معي رشفةً رشفة......
قال زاك : مستغرباً یا لك من شیطانة!...
لن أصدق ان محمود سیفعل ذلك .... حتى ولو رأیته بأم عیني.
الصفحة الثالثة ----------- كان محمود یستمع للمحادثة ولا یفهم إلا القلیل منها، حیث اللهجة الأمریكیة وسرعة ألكلمات لا تمكنه من الفهم جیداً، فرصیده اللغوي قلیل جداً ، فقد درس اللغة الانكلیزیة في المدرسة كمادة مثل باقي المواد في المرحلة الإعدادیة والثانویة ، ولكن لم یمارس الحوار مع أحد ولذا كان یكتفي برسم ابتسامة على وجهه المرهق.
ذهبت كریستین إلى منزلها في تلك اللیلة بعد أن أمضت ساعات طویلة في البار.
وكان طیف محمود لایفارقها. وصوته الناعم یعزف بأذنیها سیمفونیة طویلة.
قالت لنفسها: أیعقل أن یكون قد أحببته بهذه السرعة؟؟؟ ومن النظرة الأولى؟ أنا أعرف الحب كالموت ، یأتي فجأةً ، وأجمل الحب هو الذي تقذفه الأقدار في قلبك وأنت تحتسي كأساً من النبیذ البارد ، ویأتي الحب لیقلب حرارة جسدك رأساً على عقب ولكن لا أصدق أنه حصل لي أنا شخصیاً وبهذه السرعة!.
لا لا مستحیل .....ولكن كل الذي أعرفه بأنه یملك عینین ساحرتین وهما كالمحیط غرقت بهما یا إلهي.....
آهٍ من تلك النظرات لقد تسربت إلى قلبي وفتحت كل أبوابه.....
أظن بأنه یملك شكلاً رائعاً ...! و بشرته السمراء أسرتني كثیراً وأشعلت في شراییني لهیباً لا ینطفئ!.....
وساعدیه المفتولین ...... رائعین ...! كل شیئ فیه مختلف!!!....
لا لن أتخلى عنه ولكن سأرى إن كانت روحي ستحلق مع روحه ...؟ویجب ألا أنسى بأنه عربي ومسلم!....
وهذا لیس بعائقٍ أبداً فأنا لیس لدي مشكلة مع العرب .....واعتقد بأنهم رائعین.

قال نیتشه ( المرأة لغز .... مفتاحه الحب) الصفحة الرابعة ------------- بضعة أیامٍ فقط ، مضت على وصول محمود من بلد الحرب سوریا وقریته التي تطل على البحر ......حیث ترك وراءه سماءً تشتعل بالدخان وقلوباً متعبة من الخوف والجوع والفقر ، والیأس والانتظار.
مازالت تتداعى في مخیلته ملامح أسرته الباهتة التي لم تتركه ولا لحظة.
ووجه أمه العجوز كان یطارده كما یطارد الشرطي اللص الهارب . وكأنها ماتزال واقفة أمامه وهي تحمل سبحتها بین یدیها ودموعها تغسل وجهها المتغضن . وصوتها المكسور ( اﷲ یرضى علیك یاابني ویكفیك شر بنات السوء( لا تشلح جاكیتك خلیك لابسه البرد قارس هناك ) تذكر كیف قال لها : المدینة التي سأذهب الیها دافئة یا أمي طول أشهر السنة. لا برد فیها ولا ثلوج ... اطمئني .ولن احتاج الجاكیت . ومع ذلك سأرتدیه لیطمئن قلبك.
كل ذلك الحدیث أصبح شریطاً من الذكریات ، یتكرر في مخیلته كلما شرد قلیلاً فیمتلأ قلبه بشیئٍ من الحزن والشوق.
فتذهب أصابعه للبحث عن التعویذة التي علقتها أمه برقبته، فیلمسها لینزاح عن صدره خیط الهم والكآبة الذي یخنقه كحبل المشنقة.
قال له زاك ذات صباح : یبدو أن كریستین معجبة بك جداً یامحمود....
لقد اتصلت بي وأخذت رقم هاتفك .... هل ستفهم علیها لو اتصلت بك .؟؟؟؟ قال محمود: ماذا تقصد بكلمة أفهم علیها یا صاحبي ؟؟ وماذا ترید مني تلك الفتاة اللعوب ؟؟؟ قال زاك: هذه الفتاة تحب العرب كثیراً وهي بصراحة ، تُفتش على صدیق عربي.....
وأردف ضاحكاً( یعني بدها بوي فرند) فّتح مخك شوي یا أخي!....
یعني معقول تبقى هیك ..... وحید بهي الغربة..؟؟؟ واﷲ رح تتعب كتیر) ولكن یا زاك أنت تعرفني جیداً أنا لست مثلك أعیش كعصفورٍ طلیق) أنا جئت من بیئة محافظة جداً ونشأت على الصوم والصلاة وغضّ البصر.
قال زاك : على الأقل اقبل بها كصدیقة وتدرب معها على اللغة والمحادثة....
صدقني ستفیدك كثیراً ، وهي تعرف معاهد اللغة المجانیة الموجودة في هذه المدینة وستساعدك بالانتساب إلیها ، لتتمكن من فهم الحوار والمحادثة أیضاً . هتف محمود حسناً إذا كانت ستساعدني فلا بأس أعطها رقمي . ولكن صداقة أخویة!
فأنا أحتاج لرصیدٍ من الكلمات على الأقل لأتفاهم مع الزبائن ویجب أن أنجز هذه المهمة الصعبة بأسرع وقت....
وكما تعلم أهلي ینتظرون المال بفارغ الصبر.

الصفحة الخامسة
........................... مضى على وصول محمود إلى مدینة تامباً شهراً كاملاً، وهو مازال یعمل بتنظیف الأكواب وتحضیرها للشاربین ویعدّ أحیاناً بعض الوجبات الخفیفة لهم والأطباق الجانبیة .كان یرفض تقدیم الخمور او صبها في الأكواب.
قال له زاك : غداً ستقابل جابي صاحب الحانة. لقد حدثته عنك بالهاتف لأنه كان خارج المدینة.....
تخّیل یا محمود جابي مدمن على القمار، یسافر إلى لأس فیغاس لیمارس هوایته ویخسر أموالاً طائلة .... هذه الحانة التي نعمل بها دجاجة تبیض بیضاً من ذهب ولكن یصرف جزءاً منه في بارات نیفادا.دون علم زوجته طبعاً. كان جابي رجلاً لطیفاً في نهایة العقد الخامس من عمره، من اصولٍ مغربیة ، قصیر القامة، یرتدي قبعّة ریاضیة وسلسالاً ذهبیاً عریضاً ویحمل جواله طوال الوقت...

جاء إلى الولایات المتحدة منذ أكثر من ثلاثین عاماوتزوج من فتاة أمریكیة كانت تعمل معه في الحانة .وتحول من عاملٍ بسیط إلى مالكٍ لها خلال سنوات قلیلة.وأصبحت مصدر رزقه الوحید. وكان یحب أن یساعد الشباب العرب وخاصةً الذین جاؤوا بعد الحرب ( من بلاد الربیع العربي) قال جابي لمحمود: أهلا بك في بلاد العم سام...
لقد حدثني زاك عنك كثیراً، وأخبرني بأنك ترغب بالعمل في حانتي.....
وكما علمت أنك لا تملك خبرة في عمل الحانات!...
قال محمود: نعم أنا مضطر جداً للعمل والوضع في البلاد كما تعلم.......
قال جابي مقاطعا أعلم ، أعلم ماذا ترید أن تقول......
أنا سأعطیك مرتباًً جیداوسترتاح جداً في العمل معنا هنا .... لدینا فریق عمل رائع كلهم یتقنون عملهم ویساعدون بعضهم البعض.
الصفحة السادسة
..........................ولكن لا أخفي علیك یا محمود، أن العمل هنا شاق جداویتطلب الوقوف الطویل والحركة السریعة والانتباه والمجاملة .... وأحیاناً عدم الاكتراث ( أي عندما تسمع أمریكیاً عنصریاً ینعتك براكب الجمل أو شیئاً كهذا) یجب أن تبتسم فقط دون أن ترد علیه بأي حرف وتسأله ماذا یرید أن یشرب...!
فأنا لا أرید مشاكل في حانتي (هي مصدر رزقي الوحید) والذي أرید أن أنبهك علیه یامحمود أن العامل عندي یجب أن یتقن كل المهام التي یقوم بها أصدقائه .... فأنت أحیاناً ستكون طاهیاً، مرةً نادلاً، أو محاسباً ..... أي حسب الاحتیاج وحسب
الظروف التي تتطلب منك ، وأنا سأعطیك الوقت الكافي لتتقن كل شیئ.وزاك سیشرف على تدریبك فهو من أفضل العاملین في الحانة وأمهرهم في صنع الكوكتیلات اللذیذة.وقد نجح بتدریب الكثیر من الشباب، وأنا أثق به كثیراً فهو شاب موهوب ویتقن عمله جیداً وكان له الفضل بنجاح هذه الحانة وتطویرها.
كما أسلفت المهام صعبة ولكن أنا كریم جداً مع الذین یبذلون جهداً جیداً هنا وأراقب الكامیرات الموجودة في كل الغرف .... فقط لأطمئن على سیر العمل.
بصراحة یامحمود أنا حبیتك (بیزاف) وحدسي یقول أنك ستنجح في عملك .السوریون یعملون بنشاط ومهارة كما أعرف، ونحن بالنهایة أشقاء ومن وطن واحد.
قال محمود: إنشاءاﷲ سأكون عند حسن ظنك. رد جابي بلهفة: كنبغیك بزاف!... غادر محمود المكان في تلك اللیلة وهو حائر في أمره ینتابه كثیراً من القلق والخوف. والندم.....
أتعرف یا زاك: لا أدري یاصدیقي كیف قبلت بشروط جابي .... كنت أرید أن أطلب منه أن یعفیني من تقدیم الكحول!.....
ولكنه لم یترك لي مجالاً لأتكلم ......وأنا شعرت بالخجل وخاصة لأنني لا أملك خبرة. قال زاك: اسمع یا محمود، ماتزال البطالة عالیة جداً هنا وخاصةً في هذه المدینة ، ویجب أن تكون سعیداً بأنّ جابي قبٓلٓ أن یوظفك عنده بدون أوراق رسمیة وإقامة. وأنت تعرف جیداً هذه مسؤولیة كبیرة ولاننسى یخالف القانون لأجلك .... وهو طبعاً یتأمل أن تقوم بإنهاء مشكلة إقامتك بأسرع وقت ممكن!...
قال محمود: ولكنني أشعر بأنني سأرتكب إثماً كبیراًببیع الكحول وتقدیمه......
قال زاك مقاطعاً: أنت تبیعه فقط ولكن لا تحتسیه!.... ولكن حسب معلوماتي الدینیة حتى بیعه حرام .......والمال الذي یأتي منه حرام ولابركة فیه والذي یعمل به ینتهي بالجحیم.
أنه قال زاك: الحرام هو القتل الذي یحصل في بلداننا وسفك الدماء والجوع والفقر......
ولو أصریت على التفكیر بهذه الطریقة ستبقى بلا عمل وستموت من الجوع.
الصفحة السابعة ................................ وأردف زاك، وأنت ترید أن تعمل لتساعد أهلك وبالتالي لتساعد نفسك أیضاً وهذا عمل إنساني رائع . ویكفي أنك تحملت مشقة السفر وكدت تفقد حیاتك من أجل
الوصول إلى هنا .فلماذا أنت حزین ومتردد الآن ....؟ قال محمود: أنا حزین لأن رزقي لن یكون حلالاً..... قال زاك: باﷲ علیك لا تقل هذا ..... من الذي غسل دماغك بهذه الأفكار البالیة ؟ هل أنت تسرق مثلاً أو تعتدي على ملكیة أحد..؟ لا طبعاً أنت تعمل بعرق جبینك وتتعب لتجني المال وترسله لأهلك الذین ینتظرونه بفارغ الصبر .....وإلا سیموتون جوعاً وبرداً . أنظر مایحصل ببلداننا التي تدعي الدین والطهر.....
انظر إلى إبادة الشعوب وقتل أحلامها.....
أنت تسقي الناس خموراً لینسوا هموم هذه الحیاة العاهرة.....
صدقني یا محمود ، نحن جمیعاً نعیش في حانةٍ كبیرة ، نتجرع نبیذ عذابها ونسكر كل یوم.......
حاول یا صدیقي أن تكون راضیاً عن نفسك وستشعر براحة كبرى. وحاول أن تعطي ضمیرك إجازة صیفیة یارجل ودعنا نعمل في حانة الهاید بارك ، فَلو أنك بحثت في كل
سوهو لن تجد مكاناً أفضل منها والأیام ستثبت لك هذا الكلام.
( قال واسیني الأعرج: لا أفعل شیئاً مدهشاً ولكن وسط هذه العزلة أحاول أن أجعل الحیاة ممكنة التحمل.
نظر محمود إلى زاك نظرة استغراب وقال له: أنت تغیرت كثیراً یا زكریا ولیس اسمك وحده الدي تغیر .....هل أصبحت إنساناً وجودیاً مثل جان بول سارتر؟؟؟؟ قال زاك مبتسماً لا یا محمود أنا أؤمن باﷲ جیداً ولكن اعتقد الأخلاق والمعاملة أهم من التقید بالعبادات العدیدة والقوانین الدینیة التي تجعل للإنسان حبلاً لتخنقه به.
قال محمود: أنا لا أوافقك الرأي ، أعتقد أن الحرب التي حصلت بسوریا عقاباً لنا من السماء، لأننا ابتعدنا عن الدین الصحیح ومشینا وراء نزواتنا. هل یُعقل أن تؤمن بتلك الأوهام؟ ؟ ردّ زاك ساخراً، لا تغضب مني یا صدیقي، أنت تؤمن بقیم ومفاهیم لم تعد صالحة لهذا الزمن الحدیث، هل تریدنا مثلا... أن نعیش تحت إمارة إسلامیة متزمتة، لا تواكب العصر والحضارة؟؟ نحن لا نرید نعیش تحت قوانین وشعائر قدیمة لتعیدنا إلى الوراء مئات السنین..........وشیخاً بلحیةٍ طویلة یحمل العصا لیأمر النساء بتغطیة وجوههن؟ وأنا اعتقد الحروب والقتل في العالم سببها تعنت الأدیان . ورجال الدین هذه الأیام یعملون من الدین سلعة لترویج عقائدهم . ویعملون على غسل ادمغة الشباب وزجهم في صفوف القتال لینتهوا بارتكاب المجازر والموت.
والذي یحزنني یا صدیقي أن رجال الدین یعظمون ذنوبنا ویصورون لنا الدین كأنه مقبرة في الدنیا وجحیم في الآخرة . ولا یتحدثون إلاّ عن عذاب القبر والموت وبأن اﷲ شدید العقاب وینسون أنه غفور رحیم........
ساد صمت بارد بعد هذا النقاش الطویل وعاد كل منهما إلى عمله وهو یفكر بحدیث الآخر.
الصفحة الثامنة ------------------ جاءت كریستین إلى الحانة في عطلة الأسبوع وكانت ترید أن ترى محمود وتتحدث إلیهكان عدد العاملین قلیلا ذلك الیوم فجاء محمود وسألها ماذا ترید أن تشرب......
فطلبت كأساً من البیرة ..... وسألته عن قائمة المقبلات المتوفرة في ذلك الیوم .!فقدمه لها دون أن ینظر إلیها كثیراً.
ثم أحضر لها الشراب مع طبق من السلطة الشرقیة بالجبنة الیونانیة.
كانت تأكل بهدوء وتحتسي الشراب وهي تنظر إلیه وتبتسم أما محمود كان یتحاشى النظر إلیها ویحاول أن یركز بعمله. لم تنزعج هي من ذلك فقد أعطاها زاك فكرة كاملة عنه. ولكنها كانت مصرّة على مصادقته وقررت أن تنتظر قلیلا لیتعود على الجو الجدید الذي هو فیه.
كانت هي هذه المرة الأولى التي یَصْب فیها الكحول وكان مضطراً لذلك لأن الشاب المسؤول عن تقدیم المشروبات كان غیر موجوداً، وسیأتي بنهایة الأسبوع.
لم یكن محمود راضیاً عن عمله في الحانة ولكن بدأ بالتعود علیه وعلى طبیعة الحیاة في المدینة الجدیدة.وبالرغم ما رَآه من الحضارة والبریق الذي یسحر الأبصار والطبیعة الخضراء الساحرة لم یبهره شیئٌ منها، بل كان یحنُ إلى عالمه القدیم بكل مایحمل من تفاصیل صغیرة، سطح منزله التي كانت تنیره النجوم الساهرة وكرسیه الخشبي القدیم وكوب الشاي الشفاف والإبریق الصغیر المتسخ.
فقد بدأ یلسعه الحنین وبالرغم من نجاحه ونجاته من الغرق ، وتمكنه من السیطرة على زورق حیاته، كان یمرّ بحالة الفقد الكبیر . فهو الآن في عالم بعید كل البعد عن عاداته وتقالیده ، عالماً كان یراه خالیاً تماماً من الدفئ والتقارب . علمٌ تحكمه المادة والنفوذ. فأفراد الأسر هنا لا یلتقون إلاّ في أعیاد المیلاد وأعیاد الشكر. حیث یقدم أفراد العائلة الهدایا لبعضهم البعض. كتب محمود في مذكرته ذات حنین: في بدء صقیع المنفى أشجار حیاتي تذبل تسقط في أوراق غیاب یا لیت سأكتب كل سطور العمر إیاب..... في بدء صقیع المنفى أشعر أن لا طعم لتلك القهوة تلك النظرة، دون حكایات الأحباب. ....................... لقد كانت أحلام محمود كلها عن قریته، ففي الحلم كان یردد: لو كان لي وطنا لارتدیته لو لم أكن على كرسي متحرك لمشیت.
لو كنت طائراً لحلقت بعیداً فكان كثیراً ما یصحو من النوم فیشعر أنه یملك ساقین من خشب.... وقد فقد القدرة على المشي.
أماّ حلمه الثاني فكان یرى فیه أنه یطعم أبیه خبزاً وحلیباً وكان والده یسأله : هل هذا حلال یا محمود ؟؟؟ فتوقظه حمائم حلمه لیقول حلال یا أبي اشرب وكُلْ واﷲ حلال .لا تخف یا أبي هذا من تعبي وكدّي....
هذا حلال وصاف .فیردّ والده إن لم یكن حلالاً فلا تضعه في فمي یابني أرجوك
كان كثیراً ما یناجي ربه... من المجرم الحقیقي یا إلهي أنا بائع الخمر أم الذین أحرقوا مدینتي ...؟؟؟؟؟ وقتلوا شعبها وجوعوا أطفالها ..؟؟؟ في ذلك الزمن الفوضوي، كان صعباعلیه ترتیب الأوراق وإعادة ما بعثرته یٌد آثمة.
فمن یعید للسماء زرقتها بعد أن حقنها أحدهم بدخانٍ ونار ...؟ ومن یعید للصبح بهائه بعد أن رحلت العصافیر والأقمار ...؟ وكیف سیعید للقهوة نكهتها بعد أن سُكبت على الملح والدم .؟ وكیف سیعید للقبرات مشیتهابعد أن مُنعت من التجوال في وضح النهار.؟؟؟

ــــــــــــــــــــ شاعرة وروائية سورية مقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم