هو لا يمتلك جلَد محمود درويش وكلماته ليعد لغيابها، يحاول استعارة قصيدته فيفشل في ذلك .. يعيدها عشرات المرات مركزًا على أكثر مقاطعها لا مبالاة : " لم تأتِ .. قلت ولن" كان يحاول أن يقلّد تفاصيل القصيدة بما امتلكه في بيته الفارغ إلا من البقايا التي تركتها الحرب، كان لا يريدها جسدًا كما أوحى له درويش في قصيدته، كان بإمكانه الاكتفاء بكلماتٍ منها يوميًا على الدردشة التي امتدت بينهما أيامًا ثم انقطعت. أعاد ترتيب مسائِه بدونها، وضع صورة الأوركيد كخلفية لشاشة حاسبه، أكل سندويشة سريعة من الزعتر بدل الوجبة السريعة، شرب شايها بدل كأس نبيذها، لم يكن يمتلك صورتها فغطى خيالها في عينيه بصور لنساءٍ أخريات بحث عنهن لأول مرة منذ سنوات عبر الانترنت، جلس إلى أريكته الممزقة ولبس بيجامته التي لا يمتلك بدلًا لها، فعل كل ذلك وهو يسمع القصيدة الدرويشية دون أن يستطيع كتابة حرف واحد عنها، اقتنع أنه ليس بإمكانه أن يكون درويشًا آخرًا، وأنها لو فعل كل ذلك فلن تأتيَ هذه الليلة أيضًا. مضى أربعة أيام على آخر أحاديثهما، كان انقطاعها غريبًا، مثل حضورها الأول، كان عليه أن يهرب من عدم مجيئها إلى انتظارها، يغيّر قصيدة درويش إلى الانتظار " بكوب الشراب المرصّع باللازورد انتظرها ". في الأيام التي غابتها زاد القصف من جهة، وزاد القمع من جهة أخرى، كان الموت شريك الزيادتين، في الأولى مات أكثر من مئتين، وفي الثانية أعدم الظلاميون خمسة عشر شخصًا اتهموا بأشياء مختلفة " سب الدين – التعرض للذات الإلهي – الخروج عن ولي الأمر- التآمر مع فصائل أخرى معادية – النزوع إلى جريمة الحرية ". كان الفقر والجوع يزيدان بتسارعٍ مخيف، قطعت أيدي العشرات خلال الأيام الماضية بتهمة السرقة، نسي الحكام الجدد سد الذرائع كان ما يعنيهم كما يدعون تطبيق الشريعة، شريعة الغاب التي آمنوا أن الله قد زرعها فيهم، الله نفسه الذي خلق الحب في قلب ملاك، خلق الكره والحقد في قلوبهم التي ترسم طريقها إلى الله الذي يظنون ألا وصول إليه إلا بقتل الآخرين. في تلك الأيام كان قد بدأ بالقراءة لابن رشد، يعتبره الفيلسوف الأكبر، بحث عنه كثيرًا قبل أن يبدأ بقراءة ما كتبه، كان يرى أن آراءه التي يكتبها اليوم في مدونته التي يخفيها، ليست إلا محاكاة لماكتبه الفيلسوف العربي قبل مئات السنين. تمر أمامه عبارات ابن رشد حول علاقة الدين بالسياسة، يقارنها بتجربته الحالية، يقرأ ما يعيشه في عبارة لابن رشد يقول فيها أن " التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإذا أردت أن تتحكم في جاهل، ليس عليك إلا أن تغلف كل باطل بغلاف الدين". شعر أنه يتكلم عن حياتهم الحالية، مجموعات بشرية تفتقد الكثيرَ من المعرفة بأمور حياتها، ومجموعات أخرى تحاصر هذا الفقر الحياتي بلفائف وعمامات دينية مختلفة التوجه تغزو العقول بأوامرها ومعتقداتها التي تُوظَّف كل يوم من أجل المزيد من الموت والمصالح التي ينتجها هذا الفعل الآثم. كان يحاول أن يتفادى تذكرها بالقراءة، يغيب عقله تمامًا في تفسير ما يقرأ، يسجل ملاحظاته، وينقلها إلى مدونته السرية، يحفظها ثم يعود بعد الفراغ إلى تذكر أنها ما زالت غائبة، لتصبح قراءته رد فعل على غيابها، كلما قرأ أكثر تمكن من تأجيل تذكرها أكثر. في لحظات القصف الشديدة، كان يختبئ في الغرفة التي يتحدث معها منها، رغم معرفته أن القذائف الهاطلة لا تميز بين مكان الحب وغيره إلا أنه كان يؤمن أن حبه لها قد يمنع الموت عنه ولو قليلًا. كان دائم البحث في مفرداتها التي كتبتها قبل الغياب في محاولة لإيجاد ما يدعم حبه المتخيل لها، ليؤكد بينه وبين نفسه أنها تبادله بعض ما يشعر به. كان يشعر أنها ستعود في أي لحظة، مفرداتها التي أنهت حديثهما الأخير لا تدل على الغياب، غياب كهذا يحتاج إلى مقدمات لم تظهرها فكيف يمكن أن يحدث دون أن يكون له عودة تبرر حدوثه.


حين غادرته في آخر حديث بينهما، تفاجئت في اليوم التالي بطرقٍ قوي على الباب، أحد أصدقاء أخيها الفار إلى لبنان جاء ليخبرها بأنه مريض جدًا، وربما تكون الساعات الأخيرة في حياته. لم تدرك في تلك اللحظة ما تفعله، كان عليها الإسراع في اتخاذ قرارها الذي سيحتم عليها السفر إلى بيروت، أو البقاء في مكانها تاركةً أخاها للغربة القاتلة. في الطريق إلى لبنان كانت الحواجز تتلاشى على الرغم من كثرتها، فلا أحد يوقف سيارة عسكرية استفادت من توفرها لدى قريب صديقتها رؤى - ضابط الجيش - ، وصلت إلى منطقة المصنع، تفتيش دقيق وأسئلة كثيرة قبل الدخول المشروط إلى بيروت، الكذبة القادمة بلا مقدمات.


بيروت، بحر لا يتوقف عن الخفقان، كقلب متعب يركض وراء السراب ولا يستطيع الوصول إليه، صخرة تقف على حافة التاريخ شاهدة على أيام مدينة غريبة بكل شيء، بعشاقها، بكارهيها، بمعمريها ومخربيها، صخرة ما تزال ترصد كل من يقترب منها، تصد موج الموت عن المدينة التي عاشت كل البؤس، وخاضت حربين ضد قتلة التواريخ الجميلة، قبل أن تصير المدينة الأقسى لشدة ما نالته من القسوة. ما زالت تذكر زيارتها للمدينة في طفولتها، كل شيء تغير، تنظر للأبنية الشاهقة التي غطت المدينة، وتتخيل ما ستؤول إليه مدن بلادها بعد الحرب، تذكر الصور التي مرت عليها بحكم دراستها للتاريخ عن المدينة التي صارت أنقاضًا وأُعيد إعمارها مرات عديدة لتصل إلى الشكل الذي أصبحت عليه الآن. هذه المدينة بسبع أرواح، لا تموت كأي مدينة عظيمة تشبهها، دمشق – حمص – حلب وغيرها من المدن التي ماتت فيها الأجيال وبقيت حية، ودُفن فيها آلاف العشاق وما زالت تتزين كل يوم لعشاقٍ جدد مهما كانت قسوتهم ومهما بلغ غرورهم، لأنها تعرف أنها التي ستنتصر على كل ذلك في نهاية الأمر، وحده الجمال ما يكسر القسوة والغرور ويذلهما. كان الموج يلطم الشاطئ، كأي حزين يضرب خديه ويبكي، قطرات الماء تتسرب على الرمل كدمع لا يتوقف، فالمدن العظيمة لا تنسى حزنها مهما أقامت أفراحًا بعده. نظرت من نافذة السيارة التي بدت مفتاحًا لعالم آخر، عالم خشيَت من قادمه فكانت محقة في خشيتها. حين وصلت إلى مسكن أخيها لم تجده، اعتقدت أنه في المشفى وأنها ستذهب إليه حالما تضع أمتعتها، لكنها واجهت قدرًا آخر، كان آخر ما فكرت به. عقل أخيها لم يحتمل أن تبقى وحيدةً في البلاد التي تسرق أبناءها إلى الموت وتجعل من فتياتها فريسةً سهلة للاصطياد، اختار أن يكذب عليها للمرة الأولى والأخيرة في حياتهما، خدعها بمرضه، تأكد من رقتها واستثمرها في خطفها الذي يراه شرعيًا وتراه سرقةً لعمرها ولأيامها التي كانت تريد أن تقضيها هناك، فيما تبقى من منزلها وما بقي معه من ذكرياتها، والحب الذي كانت تطمع أن يأخذها إلى مكان آخر. ارتمى في حضنها محاولًا إزاحة كذبته بالحنو عليها، واستدراجها إلى منطقة العاطفة التي اعتقد أنها لا تستطيع التخلص منها، حدثها عن مصلحتها التي فكر فيها مليًا قبل أن يتخذ قراره باستدراجها، وعن البلاد التي لم تعد قادرة على أن تُحيي نفسها كي تستطيع أن تضمن حياة من يعيشون فيها. أخبرها أن الإقامة في هذه المدينة ستكون أفضل لكليهما، حاول أن يرمم جرحها المليء بخيانته لها وكذبه عليها، اعتقد أنه نجح بذلك، ولم يدرك ذاك الشرخ الذي حطم قلبها وجعلها غير قادرة على تلقي الصدمة. صمتت أمام كلامه اللاهث، كانت تشتعل من الداخل وتخشى أن تنطق وتحرق كل ما حولها، الصمت الذي يسبق الكلام الكثير مؤلم، نحترق فيه ولا نستطيع أن ننطفئ إلا بإشعال حرائق كثيرة بعده. أبعدته عنها، حاولت ألا تتلوث بكذبته، أحست بشهية كبرى للانتقام منه، تمنّت لو أنه كان مريضًا فعلًا أو على فراش الموت حتى، صارت تكرهه بالقدر الذي كانت تحبه به سابقًا. في الليلة الأولى أصابها وجع الحنين، خلال الأيام اللاحقة خافت أن تكتب له وتقول له أنها في بيروت، كانت تخشى أن يتهمها بالهرب، لطالما ذكر لها في أحاديثهما أنه لم يخرج من البلاد رغم كل ما حدث معه فيها كي لا يُتهم بالهرب، كان يكره تلك الكلمة ويرفض أن يجد أي مبرر لأن يهرب، أو أي مبرر لمن هرب بالفعل، كانت تحاول أن تقنعه دومًا بأن من خرجوا من البلاد لم يهربوا إنما حاولوا الحفاظ على أوراحهم التي لم يتبق لهم غيرها. لكنها لم تهرب كانت تقول لنفسها ذلك، قبل أن تتراجع عن الحديث معه، كانت على ثقة انه لن يصدق كلامها إن حكت له ما جرى معها، خشيت أن تظهر أمامه بالجبانة التي لم تصبر على نصف ما أصابه داخل الحصار، آثرت الصمت الذي صارت تخافه أكثر من أي شيء آخر. في الحرب الأخيرة كل الناس أصبحوا متهمين في هذه البلاد، من بقي اُتهم بالاستفادة، ومن غادر اُتهم بالخيانة والجبن، ومن علق على الحدود اُتهم بالارهاب ، ومن صار لاجئًا كانت هذه الكلمة تهمته الكبيرة. أما هي أرادت أن يكون لها تهمةً جديدةً في هذه الحرب، اختارت تهمة الصمت، والابتعاد، كانت حبيسة خوف يحيط بها من كل جانب، خوف من أخيها الكاذب، خوف من سقوط هائل من عين من فكرت به يومًا أن يكون حبيبًا، وخوف أكبر مما سيأتي في الأيام القادمة.


عاد ليكتب، تحفزه صورتها المرسومة في مخيلته على الكتابة، يسقط كل ما يكتبه عليها، وكأنه يعرف أنها تقرأ، أو ربما ستقرأ، يستجمع قواه كل يوم ليكتب شيئًا، منها وعنها أو لها، يحاول أن يرسم عباراته بما يتناسب مع تفكيرها الذي اختبره خلال أيام أحاديثهما، ينقح عباراته بذكريات كلماتها، يسترق بعض مفرداتها لتعينه على ما يريد كتابته. كان يريد أن تعرف عندما تقرأ أنها أصبحت نهله، لم يغضب من غيابها، كان حزينًا فقط. الحياة الصعبة التي يعيشها في ظل حصار داخلي وخارجي لم تعد تعني له شيئًا، كان يهرب من حصاره إلى ذكرياتها رغم قلتها، ويختصر كل شيء بها، صارت طعامه وشرابه، يكتفي بها ولا يشبع منها رغم عدم وجودها، كان يكتفي بتذكرها فحسب. زاد عشقه لقصائد درويش، أخبرته مرةً أنها تحبه فعبد كلماته، كان يرى نفسه فيها، ويزيد اعتقاده بقدسية كلماته التي تناسبه كعاشقٍ سيء الحظ .

" أنا العاشق سيءُ الحظ. نامي لأتبع رؤياكِ، نامي ليهرب ماضيَّ مما تخافين. نامي لأنساكِ. نامي لأنسى مقامي على أول القمح في أوَّل الحقل في أوَّلِ الأرضِ. نامي لأعرف أني أحبك أكثر مما أُحبكِ. نامي لأدخل دغل الشعيرات في جَسَدٍ من هديل الحمامِ ونامي لأعرف في أي ملحٍ أموت، وفي أي شَهْدٍ سأُبعث حيًّا. ونامي لأحصي السموات فيك وشكل النباتات فيكِ. وأُحصي يَديَّا ونامي لأحفر مجرىً لروحي التي هربتْ من كلامي وحطَّتْ على ركبتيكِ.. لتبكي عليَّا." أحب، أُحبُّ، أُحبُّكِ. لكنني لا أُريد الرحيلَ عن موجتكْ. دعيني،اتركيني،كما يترك البحر أصدافَهُ على شاطئ العزلة الأزليّ. أنا العاشق سيءُ الحظَّ لا أستطيع الذهاب إليكِ. ولا أستطيع الرجوع إليَّ. "

كل ما حوله يدعوه للخوف، كل يوم يقتلون أحدًا بتهمٍ غريبة، الطائرات لم تعد وحدها التي تقتل، لم يعد الموت حكرًا على يد طرف واحد، كل الأطراف صارت تقتل من حولها، بعضهم باسم الله وبعضهم باسم الشيطان، وآخرون باسم اللاشيء، باسم القتل فقط. كان لا يخشاهم، كان يخشى أن يموت دون أن تعرف بحبه لها!


لم يعتد على مراقبة الضوء الأخضر لأحد، هذه العلامة التي رسمها القدر لتصبح دليل حضور أحدهم أو غيابه، تشتعل فتُشعلَ معها مئات الأسئلة التي نرغب بطرحها، وتغيب فيغيب معها أي رغبة في الحديث مع أحد، علامة خضراء تعني إمكانية المرور، والحديث طويلًا، غيرها لا شيء قتيل المعنى لا يشكل إلا أحساس بتيه لا ينتهي، تيه أخضر دائم. المدينة مشتعلة بالحرب والموت، وهو مشتعل بالخسائر التي بدأ يشعر بها بعد يومه السادس دونها، كان ينتظر من القدر قذيفةً تقتله، لم يرد موتًا لشهادة بقدر ما أراده كي ينتهي من عذاباته، فكر أنه لو مات فلن يعتبر بطلًا، هو لم يحارب ولا يريد أن يحارب، كان يكتفي بأن يشتم كل الأطراف التي ساهمت بوصول البلاد إلى هذه المرحلة، كان ينتقد الجميع ولا يخاف أحدًا، كان يعتقد أن اختفاءه وراء اسمه المستعار سيحميه إلى الأبد لكنه كان مخطئًا. آخر ما كتبه كان لاذعًا، فجّر غضبه من كل شيء، استعار حريقه الذي تشكل من غيابها ليحرق كل ما حوله دون أن يفكر في عواقب ذلك، شتم من يعتبرون أنفسهم أبطال الله على الأرض، اتهمهم بالتآمرعلى المساكين من الشعب الذي يموت بظلمهم المشابه للطائرات التي ترمي حمولاتها كل يوم لتقتل مَن تشاء منهم، اتهمهم بالوقوف مع القتلة ضد الشعب وثورته التي قامت على أساس أن هذه البلاد تريد أن تحيا فقط، اتهمهم بقتل البلاد التي سُويت أرضًا للأشباح والقتلة وزناة الأرض المتبجحين بقوتهم المستمدة من آلاههم. " نحن نعرفك لن تفلت من أيدينا أيها الإمعة المرتد " كان هذا ما تلقاه من إشعار أثار سخريته، لدرجة أنه قال لمن كتبه أنا بانتظاركم، كان يخافهم لكنه لم يعتقد يومًا أن أحدًا منهم سيعرفه، دائمًا ما يأخذ حيطته وحذره منهم، كان سره لديه وحده لا أحد يعرفه سواه، يخفيه عن كل من يعرفهم، كان يخشى عليهم قبل أن يخشى على نفسه فأساليب الإجبار على الاعتراف كثيرة لدى أولئك. كان دائمًا ما يتلقى تهديداتهم الإلكترونية، يعتبرها دومًا من موتورين غير قادرين على الوصول إليه، حصّن نفسه بالتخفي وراء الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه منذ بداية اللعبة الخطرة معهم. للوهلة الأولى لم يصدق ما يحدث أمامه، القذائف تهطل في الخارج والبيت محاصر وأصوات إطلاق النار لا تتوقف على منزله الأرضي، لم يسمع في بداية الأمر النداءات التي وُجّهت إليه بأن يستسلم، اعتقد أن حربًا أخرى تقوم خارجًا بين بعض الجنود النظاميين الذين حاولوا اقتحام الحي وبين المتسلحين من أفراد في المناطق المحاصرة. حين توقف القصف للحظات واستمر إطلاق النار والنداء لم يدرِ ما يفعل، لم يكن هناك وقت للتفكير حينما اقتحموا المنزل، كان يحاول أن يتجنب أن يقتلوه أثناء الاقتحام، لم يقاوم استسلم فورًا، لم يكن يملك شيئًا يسمح له بالمقاومة، لم يكن مسلحًا يومًا !


ترسم الدماء خرائطها على وجهه، تتشكل كوطنٍ يظهر على " غوغل إيرث " لا يبدو منه سوى الدمار الذي توضحه كتل غاضبة من الركام، لا يستطيع مسح دمائِه، القيد الذي يلف يديه إلى الخلف يشل حركته تمامًا، يجلس عاجزًا عن كل شيء، ينتظر ما سيكون القادم.


في غرفة مظلمة لا تتجاوز مترًا مربعًا واحدًا، كانت عالمًا آخرًا يعيش فيه للمرة الأولى، كان يشم فيها رائحة الدماء المتخثرة القديمة، يفكر بعدد الأشخاص الذين دخلوا المكان قبله، يتفرس في ملامح المكان من تحت العصابة السوداء التي وضعت على عينيه، الظلام يفتح له عوالم أخرى، كان قد اعتاد الظلام سابقًا، لكنه كان يعيشه حرًا، أما الآن فالأسر يحكم عالمه. لا صوت لأحد حوله، تخيل أنّ العالم ميتٌ، وأنه آخرُ من تبقّى على قيد الحياة، بعد أن مرّ عليه الموت لأيام لا يعرف عددها إلى أن ضاعت منه بوصلة الوقت في هذه الغرفة المعتمة. يسرح بأفكاره كثيرًا، يحاول إيجاد خيطٍ يمسكه ليعرف الطريقة التي استطاعوا من خلالها التعرّف عليه، يفكر أنهم ربما اقتادوه لأسبابٍ أخرى غير آرائِه التي يكتبها، ربما كان كغيره من الشباب الذين اعتقلهم التنظيم دون أن يكون لهم أي تهمة تذكر، سوى أنهم ليسوا من أعضائه. لم يعذبوه بعد، استغرب ذلك كثيرًا، كانوا قد تركوه لأيام لا يعرف عددها لكنه يقدّرها بثلاثة أيام، دون طعام أو شراب، فقد القدرة على الاحساس بالجوع، لكنه عطِشٌ جدًا، ندم أنه لم يشرب الماء بآخر ساعتين قبل اختطافه من بيته، كان يظن أنه لو شرب حينها لما عطش الآن. أحس أنه بدأ يهلوس، يذهب عقله إلى أفكار بعيدة وغريبة، يلتقط أنفاسه بصعوبة، لم يعد قادرًا على الصراخ كما الأيام السابقة، في اليوم الأول ناداهم كثيرًا ليحضروا الماء له أما الآن فلا يقول شيئًا .. ينتظر فقط. خلال الأيام الماضية حاول أن يضع سيناريو للتحقيق الذي سيجرى معه. فكر في أنه سينكر أي شيء يُتهم به، وسيتحمل أي تعذيب يقع عليه، وسيرفض أن يتحدث بما يريدون منه أن يتحدث به. الصداع يملأ رأسه، لا يعرف مصدره، كان في العادة يتألم من الجزء العلوي الأيمن، لكنه اليوم لا يمتلك قدرة تحديد مكان الألم، قلبه يدق من رأسه هذا - ما يشعر به -، حلقه كصخرةٍ متشققة، لا يستطيع ابتلاع جفافه، يشعر كأنه يبلع حصا عندما يجرب أن يشد ما بقي من ريقه الجاف إلى داخل مريئه. حاول ألا ييأس، اليأس في هذه الأوقات قبول ضمني بهزيمة في معركة لم تبدأ بعد، عاد لصراخه المتحشرج، يخرج صوته بكل ما بقي لديه من قوة تحتاج معها كل صرخة لتجميع الطاقة كلها، عدة نداءات دون أن يلتفت إليه أحد، ماء .. ماء .. ماء، كان آخر ما نطق به قبل أن يفقد إحساسه بالدنيا التي رسمتها مخيلته المتعبة في هذه الغرفة المعتمة.


بطانية واحدة تحته وأخرى فوقه، وكيس غذاء ملحي علق على حافة خشبية قرب رأسه في غرفة جديدة أكثر سعة من السابقة، يضيؤها نور أحمر مهتز في سقفها. عندما استيقظ، وجد نفسه من غير عصابة سوداء، مقيد إلى لوح حديدٍ بجانبه، لا يستطيع الحركة لكنه أفضل مما كان عليه سابقًا. شعارات الإسلاميين تملأ الغرفة، علمٌ أسود في منتصف الحائط الذي يقابله، ترفرف فيه كلمة الله أكبر، برسم دقيق يدل على التصاق من رسمه بهذا الشعار الذي اعتنقه الكثيرون دون أن يعرفوا مغزاه. حين دخلوا عليه وجدوه يتأمل الحائط، كانوا أربعة، مشى أولهم إليه قبل الثلاثة الآخرين وكان الواضح أنه آمرهم عندما طلب منهم رفعه إليه قبل أن ينفذوا ذلك بكل قسوة. كدت تموت لولانا يا شيطان ..

ناداه بعكس اسمه كأول إهانة ستتبعها عدة إهانات، حين يخبرهم أنها عناية الله وليست عنايتهم، سحبوا المغذي من يده بكل وحشية، لم يستطع الصراخ كانت اللكمة قد أتته قبل ذلك، ارتمى أرضًا قبل أن يحاوطه الثلاثة ويركلوه، قائلين لرئيسهم إنها تمارينٌ لمعرفة مدى تحسن مريضهم. لم تطل الحفلة الأولى من الضرب، توقفوا بأمر رئيسهم الذي كانوا ينادونه بالأمير، رفعوه مرةً أخرى، كان يقاوم الدماء الخارجة من فمه، ويحاول الكلام كطفلٍ لم يعثر بعد على المفردات التي يمكن أن يعبر بها عما يريد. -ماذا تريدون مني، لم أفعل شيئًا ؟ -بل فعلت الكثير، هل أنت مستعجل على أن تعرف جرمك أيها المرتد الملحد؟ -أنا لستُ مرتدًا ولا ملحدًا، أنا أعرف الله أكثر من كثيرين

  • الله لا يعرفك ولا يتخير أمثالك يا عدو الله!
  • من أنت حتى تتهمني بأني عدو الله ، هل كشفت على قلبي ؟
  • وتعرف بالكشف عن القلب يا ابن الزانية " لكمة على موضع قلبه " هاك إني أكشف على قلبك الآن ولم أجد غير العفن يا ملحد. رموه أرضًا وأقفلوا عليه مرة أخرى، تركوه بلا قيد، مسح دماءَه عن فمه، يتلمس مناطق الألم في جسده، كل جسده يؤلمه، شعر أن أوجاع الدنيا فيه، ارتمى أرضًا وبدأ يبكي، يا الله ما هؤلاء القتلة المجانين، يا الله ما هؤلاء المجرمون، يا الله يا الله.

    ألفت غربتها القاسية، تبلّدت بقسوتها، وأصبحت بلا شعور شيئًا فشيئًا، النساء المظلومات، قادرات دومًا على ارتداء ثوب القسوة والتبلد إلى أن تحين لهن فرصة كسر الشيء الذي تسبب بظلمهن، كانت تعتبر أخاها شيئًا، لم يعد بالنسبة لها إنسانًا، هو حجارة تنطق وتتنفس، يحاول دومًا أن يصنع ما يغير من تفكيرها، لكنها انتهت من التفكير فيه منذ اللحظة الأولى التي عرفت فيها خداعه، أصبح بنظرها خطأً تنتظر اللحظة التي ستتمكن فيها من الخلاص منه. حفظت بعض شوارع بيروت، كانت تحب التسكع فيها كأي امرأة غريبة عن هذه المدينة، تهوى مظاهرها، وتستغل أنّ لا أحد يعرفها فيها، فتصبح جزءًا من غرابتها، وكأنهما مدينتان قد انصهرتا ببعضهما. خبرت رائحة السجائر، تعلّمت التدخين وأحبته، صارت تشعر بشغف حين تنفث دخان سجائرها، حارقةً ألاف الذكريات التي تسيطر عليها، كلما أطفأت سيجارة عادت ذكرياتها، أصبح نيكوتين السجائر ملجأها الوحيد، تهرب معه إلى بحر بيروت القريب منها، تدخن وتبكي ثم تعود إلى البيت الذي فكرت عدة مرات في أن تهرب منه، إلا أنها كانت تقف عند حاجز الضياع الذي يلاحق هاجسها ولا تريد أن تقع فيه إلى الأبد. لا أصدقاء هنا ولا أحبة، صارت تألف ذلك أيضًا، لم تعد ترغب بأن تتعرف على أحد، كلما اقترب أحد منها في شوارع هذه المدينة المليئة بالفرص الشغوفة هربت منه، صار الهرب عنوانها الدائم، كلما ضاعت هربت، لا تجد نفسها إلّا بالهرب إلى اللانهاية. في البحر، ترتسم صورة ملاك على الموج، تتقطع الصورة بارتداد الموجات، تتشكل مرة أخرى وهكذا، كانت تشبه صورته في عقلها، تلك الصورة التي تحاول أن تقطعها كل يوم لكنها تتشكل كأنها المرة الأولى التي رأته فيها وابتسمت لذلك الوجه الذي صار الآن حلمًا نازحًا مثلها. في بيتها الذي تعود إليه كل يوم عند الغروب، كان كل شيء ينعكس بصورة باهتة، تراه بعينها التي ترسم صورة أخيها الكاذب في كل شيء، تكره هذا البيت الذي تشعر أنه سجنٌ، يقيدها بمواعيد لكل شيء، تتحسر على جواز سفرها الذي أخذه منها عنوةً كي لا تهرب منه، تتمنى كل يوم لو أنها غيمة تنقلها الرياح إلى هناك حيث دمشق، آخر مكان لهامش الحب الذي منحته لها الحرب وجحيمها.


    كل ما حوله يشي بموت قريب، صرخات تتلاشى من غرف أخرى، أصوات التعذيب التي كانت تنهمر على أذنيه مثل السكاكين، التكبيرات التي كانت تعلو دلالة على موت أحدهم في غرفة الإعدام القريبة من منفردته التي وضع فيها، صورة أعين الملثمين وهم ينظرون إليه أثناء تقديم الطعام له كي لا يموت جوعًا، فالأمير يريده حيًّا كما يقولون دائمًا. لم يعذبوه - مقارنةً بالباقين - ، كان كل ما فعلوه به حتى الآن عبارة عن تهيئة لعذابٍ قادم، هكذا أخبروه، وهذا ما اكتشفه حينما كان يسمع كل يوم نهايات كثيرة لمن لا يعرفهم، أولئك المعذبون كان يرتاح منهم يوميًا ما لا يقل عن ستة، يسقطون مساءَ كل يوم بعد حفلات التعذيب التي لا تتوقف. خمسة عشر يومًا من الاعتقال، لا يعرف ما يريدون منه، لا جديد عن الرواية الأولى حول سبب اعتقاله، " كافرٌ مرتد " هذا ما يقولونه له، حتى اعتاد عليه ولم يعد يسأل عن سبب بقائه هنا كل هذه الأيام. كان يتألم كثيرًا رغم أنه لا يُعذب بمقدار ألمه، يصرخ سجين في غرفة أخرى فيتألم هو، يسمع صوت أنين أحد السجناء فيتألم كأنه أنينه، تدوي رصاصة إعدام في غرفة الإعدام القريبة فيتألم كأن الرصاصة قد اخترقت جسده قبل القتيل الذي لا يعرفه، تدوي " الله أكبر " بعد كل عملية قتلٍ فيتألم متحسرًا على عبارةٍ تخرج بغير معناها. صوت القصف الذي لم يهدأ في المدينة يومًا، شبه معدوم هنا، لم يدرك أنه وُضع في سردابٍ تحت الأرض، حينما اقتيد إلى هذه الزنزانة من المعتقل كان غائبًا عن الوعي، كان يعتقد أنه نُقل إلى مدينة أخرى، لم يتجرأ على سؤال أحدٍ من الحراس، كان يخشى ظلامية عيونهم المخبأة خلف ذاك الحجاب، يتجنب النظر فيها كي لا يشعرهم بأي خوفٍ يحاصره خشيةَ غدرهم.


    أشعلت شمعة عيد ميلادها الواحد و العشرين، واستعدت للبكاء، لم يكن هناك مكان لأي حلوى في المرار الذي تعيشه، أطفأت شمعتها بدمعات متواترة، وأعلنت لنفسها أنها الآن أكبر وأقدر على تحمل الألم الذي صار يطاردها مذ وصلت إلى هذه المدينة الغريبة. كبرت كثيرًا في الأشهر الماضية، أحسّت أنها قد تجاوزت الثلاثين، كانت تسمع أباها يقول دومًا أن النساءَ يكبرن قبل الرجال، لكنها لم تصدق ذلك. كانت تعتقد أنها ستبقى صغيرةً دومًا لكنها الآن تؤمن بكلمات أبيها، المسألة ليست مسألةَ عمرٍ كما كانت تفكر، العمر شيء تافهٌ أمام ما يكبره الإنسان خلال تفاصيل حياته الصعبة، الحياة التي تشبه ساعة منها سنة ضوئية طويلة ومملة. يختفي البحر خلف العمارات التي تحاصر منزلها، من شباك غرفتها تحاول أن تتخيل المياه دومًا، تسمع صوت البحر ولاتراه، كانت قد سجلت أمواجه في أذنها تغيب كثيرًا فيها، كأنها تستمع لموسيقى عذبة تسرقها من كل ما يحيط بها. في الآونة الأخيرة بدأت تستمع للموسيقى الأوركسترالية بشكلٍ دائم، تتغير ملامح وجهها عند كل نغمة وترتفع أنفاسها مع كل توتر يصيب صوت الآلات التي تغرد بروحها قبل أن تغرد بسماعات هاتفها التي صارت جزءًا من جسدها. تشعر دومًا أن الموسيقى دواء المهزومين الذين يستعدون في كل لحظةٍ للموت من أجل معركة خسروها مع الحياة، بعد أن منحوا أنفسهم أحلامًا كثيرة دون أن يتوقعوا أن لحظة واحدة كافية لتصبح كل أحلامهم دفينة لمقبرة الواقع الذي وجدوا أنفسهم فجأةً فيه. تضغط على أزرار هاتفها متنقلةً بين موسيقاها التي فرغت من أجلها كل ما تملكه من ذاكرة افتراضية، تتذكر أيام كانت ضغطاتها الطفولية بحثًا عن حب في كتاب وضع قدمها في حفرة ذلك الألم الذي يسمونه حبًا. لم تجد مبررًا لألمها بسبب الحب، لم تكن يومًا ضحية خيانة لتتألم من أجل ذلك، لم تكن فريسة كذبة تقتلها، هي أصلًا لم تصارحه بحبه الذي وقعت فيه. كانت تفكّر أنها المذنبة دومًا، هي التي غابت طويلًا دون أن تعبأ به، حين عاشت حزن ورطتها الجديدة مع خدعة أخيها، ونسيته تمامًا كأنه علاقة عابرة في حياتها المليئة بسخرية القدر منها ! دائمًا ما كانت تدفعها تصرفاتها الطفولية للخسائر، فكرت أنها ما زالت طفلة في الحب، ستراسله وتعتذر له عن غيابها، ستحكي له قصتها، ربما لن يصدقها لو رواها له شخص غيرها، ولكنه سيصدقها حتمًا، لأنه يعرف أنها لا تكذب عليه، ستقول لها أنها تحبه في نهاية حديث العتاب الذي سيدور بينهما، فعل الحب يجبّ ما قبله دومًا. أدارت عجلة تفكيرها إلى الخلف، عادت إلى حبه الذي لم تحصل عليه بعد، فتحت لتجد عشرات الرسائل منه، يسأل عنها، يرسل لها القصائد التي لم يكتبها يومًا، ولم يقلها، بل كانت مقاطع لكلمات درويشية تحاكي روحيهما في محنة الغياب. حينما خطت " أحبك " على أزرار هاتفها، لم تفكر في ردة فعله عندما يقرأها، غيرت كل مخططاتها في تبرير الغياب، كانت كلمة كهذه الكلمة كافية لتبرر كل غيابها وتنهي حالة الشك وقائمة الأسئلة التي أعدها في غيابها كما اعتقدت، فكّرت أنها ستحكي له بعدها كل الذي حصل، حيث لا يجدر بمن يحب أن يكذب. صخب قلبها صار يضاهي صخب موسيقاها، يدق مع كل نغمة، ويشتعل بكل لحن، ينتظر بأمل كبيرٍ سيحيا معه إلى الأبد، يتفرس في ملامح خط أبيض صغير مليء بالرغبات والأمنيات الكثيرة التي تأخرت في البوح بها، تنتظر ضوءًا أخضرًا يقف على حافة اسمه المستعار، متى سيضيء لا تعرف، لكنها عاهدت نفسها أن تنتظر بمقدار ما غابت.


    لا مواعيد ثابتة للحب، يأتي ويرحل بغفلة. ذبلت في إعياء وهي تنتظر رده لأيام طويلة، تنام قليلًا وتعود للانتظار، تكتفي ببعض الماء والخبز لتتحمل عناء الانتظار، نشف ماء قلبها، وبدا وجهها مصفرًّا مع دموع انهمرت دون وعي، كانت تلك الدموع أشبه ما يكون بالمؤقت الذي يعد دقائق انتظارها، في كل ثانيةٍ دمعة. ما زال الأخضر باهتًا، لا شيء تغيّر في صفحته منذ أيام، هل مات في الحرب؟! هل قتلته رصاصة طائشة أم سقطت فوق بيته قذيفة أودت بحياته إلى الأبد؟ هل اصطادته أعشاش النسور قبل أن يصل إلى عشها ليعيشا معًا إلى الأبد؟ هل مات ملاكها ! كانت تحاول أن تستبعد هذه الأفكار رغم أن الموت أقرب الاحتمالات في الحرب، ربما أُصيب أو فقد الأمل بالنصر فهاجر إلى بلادٍ أخرى. بدأت تسخّف الأمر لترتاح، فكرت بأنه ربما يكون نائمًا، أو أنه لا يريد الرد عليها بسبب غيابها، لم تحزن لذلك كانت تحاول أن تجد له أعذارًا وتفضلها عن فكرة موته، الموت من الأشياء التي لا يمكن أن نتمناها لمن نحب. عادت إلى رسائلهما القديمة، تقلّب فيها بحثًا عن كلمة حب هاربة لم تنتبه لها حين قالها خلال أحاديثهما، تقرأ الكلمات حرفًا حرفًا، تبحث بين السطور، تفكك معاني العبارات في سبيل الحب الضائع منها، تجهد في إيجاد من تمنته حبيبًا، لكنها تفشل في العثور على قلبه بين أروقة كلماته. تعود إلى ضوءه الأخضر، مازال مطفأً كقلبها الذي لم تعد تستطيع احتمال ظلامه الطويل، تقفل باب غرفتها تغلق الستائر تحاكي بيتها في دمشق، بعتمته التي كانت تسيطر على كل الحياة في تلك المدينة، تخرج شمعة وتشعلها، تتذكر خيالها المرمي على حائط البيت هناك، تحاول استعادته مرةً أخرى، تقف على سريرها المستعار، المرآة أمامها تعكس صورتها المظلمة إلا قليلًا بفعل ضوء الشمعة الممتد بتعب، تتلمس جسدها الغض، تداعب أجزائها الحساسة وتذوب في رحلة من الأخيلة البعيدة، ترسم على ترددات عقلها كل اللاممكن، يصبح مع ذوبانها كل شيء ممكنًا، ودون شعور تبدأ بالتجرد من ملابسها، هاهي الآن عارية، تشعر بالدفئ أكثر من أي وقت مضى، تبدأ رقصتها مع الحائط، تغمض عينيها وتستعيد دمشق بكافة تفاصيلها الشوارع ، الحواجز ، نظرات الجنود ، شهوتهم المقرفة ، دعوات الأمهات ، بكاء الرجال ، صورة والديْها القتيليْن ، صوت القذيفة التي سقطت على منزلهم ، صراخ الجيران وغيابها عن الوعي ، بيتها المهدّم الذي صار أقل مساحةً وأكثر حزنًا بعد موت أهلها ، صورة ملاك التي داعبت فيها ذقنه دون أن تخبره بذلك ، شيبه القليل الذي منحه وقارًا أحبته فيه ، مرض أخيها وخروجها إلى بيروت ، كذبة أخيها وحياتها القاسية في المدينة ، رقته الماضية وعنفه الحالي ، الرقص .. ترقص بشدة تهتز معها عوارض السرير تحتها، تجتاز كل أبعاد الرقص والبكاء، والهستيريا التي يمكن أن تصاحب الفعليْن معًا. كل ما حولها يدور في جنون، تنزل بتثاقل إلى طرف سريرها وتجلس، لم يعد هناك ما يثير تفكيرها بعد هذه الوصلة من الجنون المعقول بالنسبة لها، تمسك الهاتف، ترفع صوت الموسيقى إلى الحد الذي يخرج فيه من السماعات الأذنية، تذهب لتطبيق الدردشة وتحذفه بعد أن تأكدت في ساعة جنونها، أن حبها الذي كانت تنتظره ذهب بغفلة منها إلى الأبد.


    ترتج العربة كثيرًا، كان صوتها يدلهم على أنها تسلك طريقًا وعرًا يشبه الأيام التي مروا بها سابقًا، هم كثيرون لكنهم لا يعرفون عدد بعضهم، الجميع يقف، تُرص الصفوف وتلتصق الأكتاف بالأكتاف، لا أحد يقدر على الكلام فالأفواه مكممة. ما أصعب أن تشعر بأنك نعجة مأخوذةٌ للذبح. في أقصى الزاوية يقف ملاك وقد عرف مكانه في آخر العربة حيث لا قدرة على التنفس هنا، بعيدًا عن فتحة التهوية الوحيدة في سقف المصفحة التي وُضع فيها مع كثيرين غيره. يكاد يختنق، الأسباب كثيرة لهذا الاختناق، يختار أكثرها شغلًا لباله ويفكر فيها، ماذا بعد الآن؟ السؤال صعب هنا، حين تكون الإجابة مؤلفة من عشرات الاحتمالات التي يضيق العقل عند إحصائِها، يكون من المستحيل أن تجد لنفسك ردًا شافيًا يريحك في هذه الظروف، حتى الانتظار يصبح موتًا بطيئًا حين تكون في موضع انتظار الموت الذي لا تعرف كيف ومتى سيأتي. أثناء تعبئتهم الحيوانية، أخبرهم عناصر متهكمون أنهم سيموتون بعد ساعاتٍ في صحراءٍ لا يعرف أن يصل إليها إلا جنود الله، سيرمونهم هناك ويعودون، تاركينهم للموت عطشًا وجوعًا، كما أمر الله أن يُفعل بالمرتدين الكفرة. يفكر في أنه سيموت اليوم دون أن يعرف عنه أحدٌ شيئًا، لن يتردد اسمه في نشرات الأخبار، لن يكون له مكانٌ في قائمة الشرف الخاصة بموتى المدينة المنكوبة، لن يوضع اسمه في لوحات المقابر الجماعية التي أصبحت تملأ المدينة، بعد أن صار عدد الموتى في كل مجزرة يوجب أن يكون هناك قبر واحد للجميع، كي يكونوا شاهدين على مجزرةٍ واحدة، كثُرت المجازر، لم يعد الأمر مهمًا، إلا أن القبر الجماعي أصبح عادة دون أن تكون له غاية معينة. ستنساه حب، ربما نسيته أصلًا، حين غادرته في آخر مرة دون أن تقول شيئًا. يحاول أن يفكر فيها في لحظاته هذه، تهتز العربة المصفحة تحته كما يهتز قلبه حين داعبت ذاكرته لأول مرة منذ أيام، ربما نسيها هو أيضًا لكنه يبرر لنفسه ذلك بأن السجن كان أقسى من أن يكون ذلك العاشق الذي لا ينسى حبيبته. يسخر من لفظ حبيبة، كانت حبيبة لا يعرف وجهها، حبيبة افتراضية فحسب. لا أصوات لأحد هنا، الجميع موتى لكنهم واقفون على أرجلهم، يفكر ملاك بمن يقفون معه، ربما تجاوز عددهم الخمسين، أقل أو أكثر، كل منهم يراجع شيئًا ما في حياته، يعد أخطاءه ويحصي خيباته، يختص أحدًا ممن عرفهم ليحبه وآخرَ ليكرهه. في هذه المواقف لابد من عصف ذهني لكل ما مضى في الحياة، عصف يصحبه ندم لخطأ وقع، وندم لصحيح لم نقم به، رغبة كنا نأمل تحقيقها، وأمر تمنينا لو عاد بنا الزمن كي لا نقوم به. تتوقف العربة، ملاك يستعد للموت بعد دقائق، ليس خائفًا بقدرِ ما هو متألم لأنه لم يكمل شيئًا من أحلامه في هذه الحياة، الدراسة، السفر، الكتابة، الحب، كلها أحلام ستأكلها الصحراء بعد دقائق. ينزلونهم بهدوءٍ مخيف، في لحظات الإعدام وما يشبهها يصبح للموت رهبة، حتى على القاتل الذي يمنح ضحيته وقتًا لتفعل ما تشاء قبل أن ينفذ إرادته الخبيثة بإزهاق روحٍ بريئةٍ أغلب الأحيان. خلعوا عنهم عصابات الأعين، كلهم ينظرون إلى بعضهم بذهول الموتى، ها قد اقتربت النهاية.

" سجن تدمر الإسلامي..الله أكبر" !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد السلام الشبلي: صحفي وشاعر سوري، له ثلاث مجموعات شعرية، تعد " على هامش الحرب " روايته الأولى، وهي قيد الطبع.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم