"روزالين" (2 ) لم تكن نهاية شهر أغسطس جيدة على جمال, فقد واجه الكثير من الضغوطات في دراسته, كانت آخر سنة له في دارسة الهندسة المعمارية , وقد أرهقه مشروع بحث التخرج ومتطلبات الدراسة التي لا ترحم , وقد قاده إصراره وجده ومثابرته و عناده الذي لا يلين إلا بتحقيقه لما يريد إلى الالتحاق بجامعة في أمريكا.. جامعة نيويورك, طموح جمال لا ينتهي ولن ينتهي حتى يعوض جدته أمينة عن كل ما قاسته من أجله ويثبت لنفسه أنه ليس بحاجة إلى أحد .

رنّ هاتف جمال ... تلمس بيده الطاولة المنتصبة بجانب سريره.. أمسك بهاتفه وهو لازال مغمض العينين:

  • من المتحدث؟
  • انهض الساعة الآن الحادية عشرة ولم تذهب إلى محاضراتك بعد !
  • سيدة روزالين المحاضرات ملغاة هذا اليوم
  • وما السبب ؟
  • احتجاج قام به الطلاب يوم أمس.
  • ولماذا لم تخبرني؟
  • وماذا يهمك .. ؟! استغفر الله ؛ – حتى هنا الناس يقتلها الفضول-
  • ماذا تقول؟ -لا شيء ..دعيني أكمل نومي لم أنم جيدًا ليلة أمس.
  • اوكي ... سوف أوقظك بعد ساعتين من الآن.. و سوف تحدثني عن احتجاج الطلاب في الجامعة .
  • حاضر. أغلق جمال الخط وانقلب على جانبه الأيسر وابتسامة كللت وجهه, وضع يده تحت رأسه وانقلب مرة أخرى على ظهره وهو يحملق في السقف وكأن شريط حياته بدأ بالدوران للخلف ..! " رغم كل ما واجهت في حياتي ظروف ومآسي إلا أن القدر جاد لي ببعض ... أن التقي نفس الشخصية بتناقضاتها في جسدين مختلفين, جدتي أمينة في الشرق بشعرها الأسود وملامحها المرسومة بفرشاة من حزن, وروزالين شاتسلاين في الغرب بأصولها الألمانية وشعرها الأصفر وملامحها الحادة الواثقة وعقلها الذي لا يتوقف عن التفكير". لمعت عيناه وجلس, ثم تناول الريموت كنترول وفتح التلفاز, وضج صوت فقرات القناة الإخبارية CNNفي أرجاء الغرفة, بدا وكأنه ينصت للأخبار في حين أنه مازال يفكر : " يبدو أنني تغيرت جدًا فلم يعد قلبي يستجدي أو ينتظر شيئاً ما من أحد , ولكني لازلت أتجرع مصيبة الحرمان, وطفولتي شاهد حي في ذاكرتي , أتذكر أول يوم قدمت فيه إلى نيويورك .. كنت ممسكًا بورقة صفراء صغيرة مكتوبا فيها العنوان الذي سوف أذهب إليه في إحدى ضواحي نيويورك ، حيث أنا جالس الآن .. بعد خروجي من مطار جون كينيدي JFK أوقفت سيارة تاكسي, وأعطيت السائق الورقة، وقال لي بلهجته الأمريكية السريعة : العنوان بعيد قليلاً من هنا والوصول إليه سيستغرق ساعة ونصف الساعة تقريبا ! قلت له : ليس لدي مشكلة . ركبت معه بعدما رميت حقيبة ملابسي في المقعد الخلفي للسيارة, فقد كنت مرهقًا من طول الرحلة ... ولكن السائق سريع الكلام بدأ يسألني أسئلة انهالت عليَّ كالرصاص ... من أين أنت ؟ لماذا أنت قادم إلى هنا وأسئلة غبية من دون إعطائي فرصة لإكمال إجاباتي أو للاعتراض على أسئلته ... و في النهاية فهم تبرمي وعدم رغبتي في الكلام , فأدار المذياع على أغنية من الـRap Music , وبدأ يغني معها, أخذت غفوة يبدو أنها امتدت لأكثر من ساعة ولم أستيقظ إلا على صوت السائق ذي البشرة السمراء والعينين اللامعتين, فتحت عيني ورمقته وقد ارتسمت على محياه ابتسامة كبيرة أظهرت أسنانه البيضاء وهو يقول لي:
  • نحن أمام العنوان.. أووه إنه منزل جميل.
  • تفضل 90 دولارا ... ولكن انتظر سوف أتأكد من العنوان.
  • هههه أنا متأكد .. ولكن لابأس سأنتظرك كانت دهشتي عظيمة فقد رأيت منزلا جميلاً تحيطه أشجار صغيرة مرتبة ومقصوصة على شكل دائري, وعلى ناصية الرصيف المقابل للمنزل كوفي شوب وبجانبه شجرة مقصوصة على شكل دب, وأثناء وقوفي مشدوهاً وبصري يجول في المكان ,خرجت من المنزل الأنيق سيدة كبيرة في السن .. كانت تلوح لي بالتحية وتحرك يدها وكأنها ترشدني للدخول من الباب الآخر ... التفتُ إلى السائق وأشرت له بأن يذهب.. رفع يده لي مودعا بضحكة عالية ..لم أفهمها حتى الآن . استقبلتني نفس السيدة عند باب المنزل ومدت يدها إلي مصافحة قائلة:
  • روزالين شاتسلاين.
  • جمال عبدالعزيز
  • أهلا بك كنت أنتظرك .. تفضل معي كانت الساعة تشير إلى الثامنة والربع مساءً والشمس لازالت مشرقة وأقد أعياني التعب والجوع. دخلت وإذا ممر تحيطه الأزهار, وبجانبه كلب نائم من نوع السوسكس
    Sussex Spaniel لم أكن أعرف أنواع الكلاب قبل وصولي لأمريكا فهي في ثقافتنا الدينية تعتبر نجسة وغير طاهرة ومحرم اقتناؤها إلا لحاجة ماسة , تعرفت عليها وعلى أنواعها من خلال أحاديث السيدة روزالين عنها وعن مدى لطافتها, وقد كانت تنادي كلبها (فري ثري) وهو اختصار لـ (freedom for third world) بمعنى الحرية للعالم الثالث, وعندما شرحت لي معنى الاسم ضحكت ضحكة هستيرية وتبادرت إلى ذهني نظرية المؤامرة فما علاقة الكلب بالعالم الثالث وماذا تقصد؟, يبدو أنها تتعمد إهانتنا, ولكني فيما بعد أحببت هذا الكلب رغم تخوفي من اقترابه مني في البداية ، كان ذا أذنين طويلتين وفرو كثيف يشعر بالدفء, وعندما تتحدث عنه السيدة روزالين وعن سلالته التي تم استحداثها في انجلترا في أواخر القرن السابع عشر ميلادية بغرض المساعدة في أعمال استكشاف الغابات وصيد الطيور, كنت أتصوره من خلال حديثها وكأنه أحد أباطرة العصور الوسطى ! في ذلك اليوم دخلت غرفتي وأنا مرهق تمامًا, وأثناء استحمامي سمعت قرع الباب, لبست ملابسي وخرجت على عجل وإذا بالسيدة روزالين قد وضعت

صينية مغطاة بفوطة تفوح منها رائحة نفاذة , وغادرت ، رفعت الغطاء وإذا

بساندويتش هامبرغر ذي حجم كبير وبجانبه الكثير من الفرنش فرايز وعلبة بيبسي بـ البلوبري, وضعت الصينية وبدأت بالأكل وكأني لأول مرة أرى طعامًا, وعندما انتهيت قفزت على السرير بخفة طفل في السابعة من عمره وأنا أردد : هذه أولى خطوات النجاح,

فالنجاح هو أن أنام مع اليقين كل ليلة, ثم غرقت في النوم كمن دخل في غيبوبة أبدية.

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم