"حكاية مأمون" "أنا الشيفور الشخصي لفواز بغير وثائق تثبت ذلك، كاتم أسراره، طباخه، أنا زوجته أحيانا، صديقه، مطفأة سجائره، سجينه حاليا، ربما قتيله لاحقاً. لم أعرفه من قبل، لسوء حظي التقيت به عقب طردي من الكلية العسكرية بعد أسبوع فقط من انتسابي، طبعا تعرف السبب، إذ طلبني المقدم (ع) إلى مكتبه، سخر من مؤخرتي، من قوامي، أثار البودرة على خدي. صرخ في الضابط الذي وافق وأمضى على تأشيرة انتسابي. لم أتأسف على طردي بتلك الطريقة المهينة، لا أذكر جيدا من اقترح علي اسم فواز ليتوسط لي من أجل العودة إلى الكلية، الوصول إليه ليس بالأمر الهين تقريبا من المحظورات أو سرّ من أسرار الدولة، لكني توصلت إليه في غضون يومين، أعجبته نباهتي، اهتمامي بهندامي وأشياء أخرى، قال: من المستحيل إعادتك إلى الكلية الحربية وأنت بهذا الشكل الأنثوي، يجب أن تفهمني يا عزيزي مأمون، لا تزعل مني، الجيش بدّو رجال أشداء و أبطال، تعرف، إننا على التماس مع العدو الصهيوني. صمت برهة ثم اقترح أن أكون الشيفور الشخصي له بمبلغ محترم. وافقت بلا تردد، كنت حينها طريد البيت العائلي أيضا بسبب سلوكي المشين. طريد قريتي الصغيرة، كنت منبوذا حقا. نقلني في أول ليلة إلى فيللته المسجلة باسم منذر السّاعي في حيّ "أبو رمانة" بدمشق، أول مرّة في حياتي أدخل الحيّ، خاصة ليلا، دخلنا عن طريق ساحة الأمويين مرورا بشقق ساحرة، تتهادى السيارة في الشارع الرئيس كأنني في حلم لا أريد نهايته. الفيللا تعتبر عشه الأخير الذي يلتقي فيه بأصدقائه وخليلاته، هي قصر من قصور ألف ليلة وليلة. تسحرك منذ المدخل بحديقة صغيرة تفوح منها روائح الياسمين والقرنفل والنعناع. في الطابق الأرضي مرآب للسيارات وصالون كبير ومطبخ مجهز بأحدث الأجهزة للطبخ وغسالة الأواني وطاولة دائرية تتوسطها آنية فخارية للزهور، صالة متوسطة تشبه حانة أمريكية بكنتوار مرتفع، عليها كؤوس من كل نوع، عادية و رفيعة، لا أعرف أسماءها إلى بعد مرور عدّة أشهر، في الصّالة ثلاجة كبيرة من صنع أمريكيّ، تحتها مباشرة مخزن كبير يحتوي على صناديق عديدة من الجعة وأنواع الخمور الرفيعة. يتكون الطابق الثاني من خمس غرف للنوم لكل غرفة شرفة تطل على الشارع، في كل غرفة سرير خشبي كبير، ستائر بنفسجية، خزانة خشبية بعرض جدار الغرفة، ومرايا من باب الخزانة ومن الزاوية، تتدلى من السقف ثريا بألوان الطيف، الأصفر والبني والأخضر كأنك في مرقص عجيب متحرك يأخذك بعيدا من واقعك النتن في الرّيف حيث عشت قرابة عقدين. صالة أخرى تتوسط الغرف، نصبت أرائك واطئة جدا وزربية "صنع محلي" تنتهي برواق عريض يؤدي إلى الحمام يمينا وشرفة كبيرة يسارا تجعلك تلتقط أجمل ساعات المساء عند المغيب، على جهتي الشرفة كرسيان خشبيان مصنوعان من السنديان متقابلان، تولى بنفسه مهمة شرح مخطط القصر، قال: "هذه الغرفة أفضلها ليلة السبت وتلك ليلة الأحد وهكذا" عوّد نفسه التواقة على النوم في غرفة محدّدة بطقوس مغايرة لليلة الماضية، ولو يغير مكان النوم سيبكي كالطفل، أخذني فواز بعد جولة لنصف ساعة ليضعني تحت المرش المتدفق، فتح الصنبور، قائلاً: "إليك، هيا تعرَّ، لا تخجل مني، تحرّك" فعلت بعفوية، كأنه غير موجود أمامي، لم تكن المرّة الأولى التي أتعرّى فيها أمام رجل، بقي واقفا أمام عريي، لم يتحرك قيد أنملة، أعجبني تصرفه الطبيعي. وضع أمامي أنواع الصابون المستورد والشامبو بنوعيه للجسد والشعر، وآلة الحلق، كنت أراها في فواصل إعلانية تبثها القنوات العالمية، قال أريدك أن تتغير يا عزيزي، لا تستعجل لا شغل لنا هذا المساء. غادر بعدها، شغل جهاز الستيريو، تأتيني موسيقى شوبان العذبة، تساعدني في حكّ جسدي جيدا في اقتلاع أدران جسدي المنهك بسوط والدي. قلت هكذا الحياة ولا بلاش، عشت حلما وأنا أتمشى في القصر، بين الغرف، بين الطابقين مزهوا منتصرا على الجوع والفقر وسوط أبي كلما اشتكت زوجته مني، سوطه ترك ندوبا في كامل الجسد، في الرّوح المعذبة. كلما تذكرت زعيقه أتكور في فراشي أتغطى بالحرير الناعم. لم تكن الفيللا لفواز فقط، يستعملها غيره، شخصيات كبيرة تفوقه جاها ومنصبا، لا أكذب أخي فراس ولا مرّة استطعت التحقق من الأمر، فواز نفسه لا يستطيع الذهاب إلى أبي رمانة في حالة وجود أحدهم هناك، لا أعرف كيف يتفاهمون في هذا الموضوع وكيف يتقاسمون ساعات احتلال الفيللا. بحكم التجربة صرت أعلم بوجود أحدهم هناك من خلال عيني فواز. أول ليلة من ليالي فواز بعد عشاء دسم طلبه بالهاتف، وصل النادل في أقل من ساعة، بأطباق من المحاشي الدمشقية وقطع اللحم المملّح المشوي على الجمر يجعلك تأكل أصابعك. رتّب بنفسه المائدة، مع قارورة خمر فرنسي. كنت خجولا من كرمه، هو الذي أفرغ الخمر المعتق في كأسي، أنا الذي شرب كلّ الأنواع الرديئة، تترك مذاقا سيئا في فمي الفوّاح بروائح نتنة، رائحة البصل و الثّوم وغيرها. يقول: هيه أسمعك حبيبي، هل أعجبك الحال هنا؟ أجيب:"ايه ايه يا سيدي" طبعا كان يعرف أني أسكن في زريبة، في شبه سرير حديديّ أحيانا أفرش بطانية على الأرض، عشائي كل ليلة صحن من الرز وشطائر من الباذنجان. قبل نومنا أمرني بالصعود الى سريره الواسع والرائع جدا، وضع أمامي قائمة مهامي الرئيسة كسياقة السيارة ومرافقته أحيانا إلى مدن بعيدة، أحضر له حقائب سفرياته، أتعلم بسرعة "شو بيريد السيد"، من مهامي اليومية الأهم: التجارة في العملات الأجنبية، كالدولار والين الياباني والأورو، أضاف فواز: أن تشتغل في هذا المجال الحيوي بحكمة ونباهة وسرّية ولا تلعب بذيلك يا فراس وإلا مسحتك من الوجود. قائمة أخرى تتعلق بالممنوعات التي يجب أن لا تتطلع عليها زوجته "ذكرى" إطلاقا، خط أحمر يقول، استعمل دائماً "لا أعرف يا خانو، شو الأصدقاء أو الصديقات اللي التقى بهم اليوم أو ليلة أمس، ممنوع ترضخ لأسئلتها، عن تاريخي ويومياتي وعلاقاتي. غدا سأقدمك للسّت، إياك تسقط في الاختبار، هي أفعى، حرباء، لا تثق في طيبتها التي تبادر بها من اليوم الأول، احترس من جنونها، ذكرى زوجتي أعرفها، إياك تشم فيك هذا الشذوذ أو خدماتك لي من هذا النوع، ستشوي جسدك، مفهوم يا مأمون؟ قلت: -" بلى فهمت يا باشا" غضب من كلمة باشا، قائلا: -"أنا فواز، حبيبك وفقط" كان متوحشا معي تلك الليلة، ثم نام كالثور، طالبني بإيقاظه على السابعة لأنقله إلى مقر عمله، مررنا "بسبع بحرات"، انتظرته في الخارج، دخل إلى عدة أماكن، يخرج بسرعة، هل كان يعطي الأوامر أم يتلقاها؟ تصور إلى الآن لا أعرف شو طبيعة عمله؟ رجل أمن؟ أو رجل المال؟ لا أعرف صدقني. بمجرد استيقاظه استحم بسرعة، ثم قدم لي مسدسا جديدا، لم يسألني هل أعرف استعماله أم لا؟ وأنا لم أقل له شيئا، اكتفيت بوضع المسدس خلفي كرجل أمن محترف، أصلا لم أعرف إن كانت فيه الرصاصات التسع، لا أخفي عليك فرحتي بتلك الهدية الخطيرة جدا، يومها عندما خرجت إلى الشارع العام في دمشق، حاولت إبراز المسدس من تحت معطفي. إيه، هي واجهة بتخوف يا فراس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الرواية لم تنشر بعد
  • جيلالي عمراني: كاتب جزائري مواليد (1969) نشرثلاث روايات وهي: "المشاهد العارية"، "عيون الليل"، "أحلام الخريف". خاص الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم