محاضر جامعي، دب بعض الشيب في رأسه، تسأله طالبه، لتوها تخطت العشرين، بخجل، عن احد المفاهيم التي شرحها. فيتدفق الادرينالين في عروقه، وتتسارع نبضات قلبه بشكل غير مألوف. لكنه يحفظ اتزانه، لانه محاضر، ولانها طالبه، ولان ضوابط قاعة المحاضرات لا تسمح إلا بان يجيب بشكل احترافي. فتبتسم الفتاه راضية باجابته، تأكيدا منها ان المسؤول عنه قد بان وتجلى في عقلها. فيمسح محاضرنا على خصلات شعره، ويرسلها إلى الوراء، في تصرف معهود ومعروف، يشي بالاعجاب بالذات. لان المرسلات العصبيه في عقله، فد انفقت الكثير من الدوبامين. فاحس ان رأسه صار منتفخا بالغبون والمتعه. فهذه الابتسامه الجميله من فتاه، لا بد وانها تحمل قليلا من الحب، ذلك الحب الذي نبحث عنه في المقاهي الثقافيه وحفلات الروك في شبابنا. مطاردا بتلك الابتسامه الرقيقه، التي أرهفت قلبه الموتور، سيبتسم في خلواته، سيحلم ويتمنى. متى يصارحها بحبه المتبادل؟ كثير من الطموح لا يضر، فهو منذ كان يجلس مكانها في قاعة المحضرات وهو الطالب ذو الطموح. الوحيد دون بقية زملاءه الذي قرر ان يقف في موقف الاستاذ. كل الطلبه، حسبما يتذكر، كانوا معجبين بالأستاذ الدكتور الذي يجلي عن أذهانهم غموض المفهوم العلمي المدروس. كانوا معجبين باحترامه ويتوددون له على الدوام. يذكرونه في مكالمات الهاتف، فيسرفون في مدحه. حتى الفتيات، حسب ما يذكر، وبرغم ندرة علاقاته بهن وقتئذ، كن يتمنين ازواجا مثله. لكل هذا الاعجاب، ولإدمانه للعلم والتعلم، قرر أن يتحدى الكل، قرر ان يسير الطريق لآخره، قرر ان يصير هو وبطل المشهد زملاء. قرر ان يتحول من مشاهد، لمدير المشهد، من طالب مبهور مقتدي باستاذه إلى استاذ يُبهر ويُتخذ قدوة. لم يخبره احدهم عن التكاليف الباهظه للمكانه الاجتماعيه المرموقة، من ضرورة الانضباط والالتزام حينما سيرتدي بذة رسميه او يقف بجوار سبورة في مدرج يحوي مئات الشباب ذوي الالسن اللاذعه، الجاهزة لنسج النكات لتفكيك اوصال البطل الذي تخذله انسانيته. فيظهر كانسان ولا كاستاذ ولا كآلة. مدير احد قطاعات شركة الكهرباء، دب الصلع في رأسه فأكل اعلاها وترك نتفا على الجوانب وفي الخلف. يقولون ان الصلع نتيجة للتوستيرون، هرمون الذكورة، الذي حين يكثر في جسم الذكر، يبلغ رأسه فيمحي شعرها. فكهلنا هذه المرة "خصب" بحسب تصنيفه البيولوجي. يرتدي قميصا صيفيا مشجرا، يفتح الازرار العليا منه. ويخرج ليتسكع في الـ "هابي سيتي" وبقية حانات وسط البلد. تاركا زوجته الممله، التي تزوجها في سن مبكرة جدا، فحُرم بها من غيرها، او كما قد يقول شيخ جاهل يتلفف عمامة "تعفف بها"، في البيت. تستطيع ان تراه في ايام الاثنين والخميس، ودون ان نستطرد في بقية خصوصياته، التقليديه والتي لا تهمنا فيما نقص، تستطيع ان تراه في ايام معينه من الاسبوع، يجلس في ركن ذلك البار التعيس. منضدته المتسخه بالدهن، تحمل امامه عشرات اطباق المزة، علبة سجائر، و ربما زجاجة صقارة مصحوبه بأخرى ستيللا. فهو لا يسرف في الشراب، لكن لصنعته التي اكتسبها منذ عدة اشهر لوازم واعدادات. فنوع الفتيات اللواتي يصاحب يتوائم مع هذا الجو المزري. تجلس امامه في مرة صحفيه عشرينيه محجبه، ممن يزجون بالهاتف إلى الطرحة كي يتحدثن فيه ويبقين على ايديهن حره طليقه، قدمه إليها وقدمها إليه زميله رئيس التحرير، الذي وعد الصحفيه المسكينه بعقد وتعيين في الجريده، ووعده المدير، مدير احد قطاعات شركة الكهرباء، الذي نقص قصته، الذي يترك زوجته ويذهب إلى البار مع فتيات مرغمات على اصطحابه، فهو قد وعد رئيس تحرير الجريده التي تعمل فيها تلك الفتاه التي رافقته إلى البار، بسيل من الاعلانات يتدفق على جريدته. تجده يجلس منصتا إليها بعينين شرهتين، فكما اسلفنا، مديرنا المكبوت، لديه توستيستيرون وفير، يتمنى ان يُفجره في قلب الصحفيه المسكينه، التي تعول نفسها في زمان مرهق ومؤلم، لا رحمة فيه. مونولوج: آآه، أربعة وأربعون عاما اذا! ماذا قدمت يداي؟ لنفسي؟ ما الذي جنيته من تلك الوظائف الرتيبه التي فُصلت منها واحده تلو الاخرى؟ لكنه غير معقول. غير معقول كذلك ابدا ان كنت ارفض التوظيف كما كان حلمي في المراهقه.. مستحيل.. تلك أحلام طفوليه لا افهم لماذا تاتيني بعد هذا العمر. صحيح ان الكثير من عمري بقي امامي، لكن ماذا اصنع به، أقصد هل لي أن أصنع به شيئا؟ هل سيسمح لي المجتمع بالتحرك؟ بالانفلات؟ لا، لا يجوز أصلا أن أتمنى مثل تلك الاشياء.. آآه.. ماذا لو سمعني ايا من صغار السن؟ ستتفجر ضحكاتهم مني! ألست مثلهم؟ أولست انسانا ضعيفا تحركه الرغبات مثل الجميع؟ أين الروايات الروسيه التي قرأتها من عشرات السنين فبينت لي ان الناس كلهم ليسوا اسوياء. الطبيعي ان نحمل الشر والسوء في قلب واحد. ولكن هل نزواتي تلك سوء من الاساس؟ لماذا يظنونها سوء اذن؟ عجبا! آآه لكني لن أتحمل المزيد من الاحراج... تلك الواقعه! اللعنه على رأسي الذي يعج بالافكار إذا افترشت للنوم! كيف رضيت لنفسي ان اجالس هؤلاء المراهقين؟ كنا نجلس ونتضاحك كثيرا، احببتهم، وشعرت في جلوسي معهم بتلك السعادة الابديه، سعادة الخلود، سعادة العودة للوراء في العمر، ومطاردة الاحلام التي لن تتحقق من جديد.... آآه انا لا اريد الاحلام، انا اريد الصحة التي ستخور في ستة اعوام إلى ان اموت، اريد البريق الذي سطع في عيني حين عرضوا علي وظيفتي الاولى، اريد اشياء كثيرة وجدتها في "الشله" التي صاحبتها. نذهب للكافيه حينما يرتدون من الجامعات والوظائف، الوظائف التي مازالت في مقتبل العمر، ومازالت منهكه ومتعبه. نجلس سويا ونتضاحك ونتسامر، فيروق لي حالي. آآه... يروق لي حالي... ذكرى مؤلمه! لقد احال هؤلاء الشياطين ذكراي الحلوة إلى ألم! إلى ألم هائل، يراودني في الليالي المملة كليلتي تلك. لا، أنا لا اريد المزيد من الألم، يكفيني ذكرى تلك الحسناء، الكاشيير في محل الوجبات السريعه. التي غازلتني. لكنني في تلك المرة صمدت. كيلا اتمادى فتتنغص عيشتي. آآه لحصار هذا المجتمع للفرد منا.. وألف آآه. عائد من السعوديه.. كان يمكن أن نقول عائد من ألمانيا. لكن الاختيار وقع على السعوديه لانها كئيبه ولانها تُنشئ في النفس، ذات المشاعر التي أسلفنا وصفها في نفوس المدير والاستاذ وهذا الثالث الذي حكى آلامه قبل ان ينام. مع العلم، بان المانيا كذلك قد تثير لدى العائدين منها مشاعر مماثله، خصوصا اذا كانت عودتهم اجباريه، وخصوصا اذا كانوا ممن عاشوا هناك حياة انغلاق، تجنبا للوقوع في محرمات الماضي البعيد. عائد من المملكة العربيه السعوديه. زبيبة الصلاة تزين، او تُلطخ، رأسه. وتُلطخ هنا، من وجهة نظره هو، لا من وجهة نظرنا. فهو كان يتمنى بعض الوسامه والمزيد من التحرر في مظهره. لكنه معيب بتلك الزبيبه التي تفيد بأنه لا يفارق الصلاه، وأنه يقتدي بيوسف النبي في كل شئ، كالإقلاع عن امرأة تراوده عن نفسه. لكن الخطيئة لا بد وأن تختبره قبل ا تحكم عليه بمثل ذلك الحكم. فخيالات العري صارت تطارده في كل مكان، هو المحافظ على دينه والحافظ لفرجه إلا فيما ملكت يمينه، يرى ومضات العري في كل آن. حتى انه، ونعتذر اننا نحكي عنه مثل ذلك الخبر، لكنه للاسف واقع، ومن يكذبنا فليسله، حتى انه قد رأى مثل تلك الخيالات وهو ساجد، فانتفض وفزع، لكن فزعه كان في مرته الاولى فقط. هو رجل من الجيل الذي مضى، قضى ما لابأس به من العمر في أمانة المخازن، يجيد الورقة والقلم وليس ببارع في استخدام الكمبيوتر. لكن فراغه الجديد، الذي بدأ مع عودته، والذي سينتهي "باذن الله"، حسبما يردد لنفسه في مونولوجات الصباح اليائسه، عندما يشرع في وظيفة جديده هنا. لكن فراغه الذي لم نتبعه بخبر في الجمله السابقه، لن يسده إلا الكمبيوتر، وصفحات الشيوخ التي تابعها كلها، ثم سقم منها. واشياء اخرى، تعلم ان يسد بها حاجته للعري. للخلاعه والتعري، وبعض الممارسات الاخرى. صار معتادا لديه ان يفجر نشوته متصفحا للويب، فتزهد خيالاته صوب الانتهاء من المشاهده. وتنضب الافكار من رأسه، ويصعقه ندم وحسره، ممكن لهما ان يهدا اعتى الجبال، فيتمنى لو بكى، لكنه يظل هكذا شاردا. لا للتأمل مثلا، لكن لنضوب الافكار من رأس رجل عبر الخمسين بقليل. أزمة منتصف العمر، ستصيبنا جميعا بلا شك. الناجح والمتميز منا في تخصصه ومهنته قبل الفاشل. سننتفض عن فجأة لنرى العمر قد مر، فنلوذ بافعال صبيانيه يرفضها عنا المجتمع المقيت، الذي لم يكفيه ان حرمنا حريتنا في سني الشباب، فسيقمعنا ويروضنا ثانية في سني النضوج ومقتبل الحكمة. كأن قانونا سماويا قد حرم على الكبار ان يصيبوا حظا من الدنيا. كأن الخصلات البيضاء تقض الشهوة وتحمينا من النزوات التي تأكل في قلوبنا. كاننا نقدر ان نوقف السيل الهادر من الرغبات التي تدفعنا إلى التباهي والتظاهر. على كلٍ، على كل حال، يعني في كل الاحوال: مصيبتنا واقعه، ولا مفر. لكنني هنا لأقول لكم: إنهم يقولون: ان التمتع في مقتبل العمر يزيل من هموم الغد بعض الشيء! وبصراحه أنا لا اعرف ما المتعة في اعتقادك يا أخي! صدقني لا انا ولا غيري يفهم ما بك، وحقيقة، لا يهمنا كذلك. لكن يا اخي: قم فتمتع بعض الشئ، قليل من الفشل، سوف لن يؤذيك، قليل من التهافت على الحياه، هنا وهناك، ربما يتيح لك ملجأ تذوي إليه حين تصعقك الفاجعة التي لا ريب فيها! ربما تجد في سهرة احببتها مبررا لان تقول لذلك الوسواس الذي سيأكل في رأسك الاصلع يومئذ: لا، لقد حييت وتمتعت، ويمكنني اليوم ان انهل من نهر الحكمة. لست متأكدا مما اقصه عليك، وحقيقة اتمنى لو اتيح لكل منا ان يفعل ما يشاء برغم جنسه وبرغم سنه، وبرغم لونه. لكنها ضريبة الاجتماع التي ندفعها وسنبقى هكذا ندفعها حتى يعي البشر من امرهم شيئا ويفضون هذه السيره الممله، ويكفون عن الكلام. الكلام الذي يأسر رغباتنا في قوالب جافه. نعم يوم نكف عن الكلام ونحرق الاعلام والمصالح والاذاعات، ويغطس بعضنا للماء فيقص كابلات الانترنت. ونجمع كل الرتب والالقاب والصفات والدرجات وعربات المترو في محرقة هائله. ونعاود الركض في البرية، ونحاول ان ننسى ما طُبع في ذاكرتنا من ألم وبؤس، ولدته لعنة التحضر وتحكم فئة قليلة في فئة كثيرة، وحكم العادة والتقليد. حينها، نشفى ونتشفى، لكن إلى ان ياتينا هذا اليوم. صراحة، لا ادري ما عساي ان انصح به، وعلى العموم، النصح في هذا الدرب لا يهم. لأن المصيبه ستقع، فهنا نحن لا ننصح بتوخّي الحذر، نحن فقط من اصحاب الوعيد، كمخرجي افلام الرعب. نحكي لك المصيبه، ونؤكد انها واقعه، ثم نسكت، ولا نفصح إلا عن نصف ابتسامه تفيد باننا قد تلذذنا بجسدك يرتعد من الخوف. هذا وحسب....

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم