"الطّالع"

لم أكن ساعة حصول الكارثة داخل المكان الذي رغبت رؤيته والتجوّل فيه والوصول الى آخر نافذةٍ منه لأطلّ على العالم، أرغب أن أسمع وقع خطواتي وهي تتردّد بانتشاءٍ لذيذٍ يحمل رعشة جسدٍ تعوّد على أجواءٍ ساخنة ..أرغب في التسلّل من روحٍ توّاقةٍ لمعرفة ما اختزنته الذاكرة.. أمسك قضبانه الحديديّة وأبوابه الزجاجيّة وربّما سلالمه الدوّارة، وربّما نوافذه الخلّاقة التي لا تترك للعين فرصةً لكي تنثال عليها الصور الحديثة، ربّما مراياه التي تعكس كلّ جمال حتى في مصاعده الكهربائية اللامعة، كنت أريد رسم لحظةٍ غير مصدّقٍ فيها إني في هذا المكان الذي كلّما ذُكر أمامي سابقاً، أتصوره آخر الدنيا، في أقطابٍ منجمدةٍ، أو أنها تشبه خزائن مقفلةً على الرؤية لأمثالي. حتى كأن من الأمر أشبه بنوعٍ من قد تستعصي عليه الحصول على مغامرة ولو لمجرّد مغامرةٍ في حلم.

كان من المقرّر أن أتوجّه إليه قبل ساعةٍ لأرى هذا الصّرح الكبير الذي يمنح المرء دهشةً في معالمه وارتفاعه وقوّته الاقتصادية.. المكان الذي يبرز هيبة الإقتصاد الذي قرأت عنه وسمعت حتى انبهرت به.. أنا في المدينة التي يوجد فيها كلّ هذا التقدّم ولا أراه.. هكذا كنت أسأل زينب التي انساقت لرغبتي، لكنها أخّرتني ساعةً، كانت كفيلةً ألّا أكون هناك فأكون مقتولاً ممزّق الأشلاء وكأن الحرب تلاحقني الى هنا وأنا الهارب منها.

زينب ظلّت نائمةً بغنجٍ ودلالٍ لعلي أستجيب لندائها بعد الذهاب الى هناك أو تأجيلها الى موعدٍ آخر.. تبيّن لي إنها سعيدةٌ بلذّة المساء التي لا تريد مغادرتها، وهي تلفّ جسدها العاري بشرشفٍ أبيض من الحرير.. فتحت النافذة وقلت لها:

- هيا.. لا أريد تماهلاً في الأشياء التي أحبها.. أريد زيارة أعلى برجين اقتصاديين في العالم وأنت معي.

ظلت تتثاءب وتمطّ يديها لتكشف عن نهدين ريّانين قافزين الى عينيّ بشهوةٍ كبيرةٍ ولون الحلمتين تشبهان حبّتي قمحٍ من حقول (المشْخاب).. هذه اللبنانيّة تحمل حبّاً للعراق كبيراً حتى إنّي أسمّيها العنبر.. وحين رأتني لا أشتهي لعبة رمي الجسد على البياض، قامت بحركاتٍ غنجةٍ حين أزاحت الشرشف عن أسفلها ليبرز فخذها الأمين المرمي يلمع بنفحة شمسٍ سقطت هناك، فسارعت قرويّتي السّاذجة الى الستارة العريضة لأمنع تلصّص العيون الغريبة التي تمرّ بالشارع البعيد المحاذي لحدائق البيوت الغنّاء.. وحين انزاح الشّرشف عن الفخذ الثاني ،كانت تلك اللّحظة كفيلةً بأن نتأخّر ساعة .

هذه السّاعة التأخيريّة كانت هي المنقذ من الموت.. طالعٌ لا أتمناه سيئاً في أيّامي الأولى.. بعضٌ من قدرٍ غير مرئي لم يستغرق سوى أن أكون هادئاً غير ملحاحٍ، لتكون لحظة الضّعف هي لحظة قوّةٍ دون إدراك.. ربما كنت في حالة حبّ لا تريد أن تنتهي، فتسيّرني بأي اتجاهٍ تريد.. فلا ألْوي على فعل شيءٍ سوى تكرار جملة: حبيبتي حين نعود سنعود الى ما ترغبين.. حتى لكأن بي طاقةً من عنف الحبّ ما يشبه عزيمة حربٍ استوعبت حنينها منذ سنين ليكون قدر اللّذة أن استمر لليالٍ أخر.. كانت زينب تقود السيارة وفي داخلها عدم الرغبة بالذهاب الى هناك.. كانت تقول لي إن الطريق طويل.. ومانهاتن ليست قريبة وإن عليها اجتياز مناطق وجسوراً من نيويورك لكي تصل الى هناك.. وكنت أتغزل بها بعينيها الواسعتين ولهجتها التي أحب وهي تحاول أن تتمنع لنعود الى الفراش، فاليوم هي مجازة من عملها وتريد أن تقضيه معي.. وحين غنيت لها فيروز، راحت تنساب بهدوءٍ وهي تردّد معي وتقول: نعم أحب الغناء وفيروز وهي تحب العراقيين لأنهم ( خوش زلم) وكنت أضحك وأقرص خاصرتها وأخبرها أن مداعبة العراقيين ليست قبلاً وكلمة أحبك، بل عنفاً مغلفاً بأجمل حب.. وأنأ أحسد نفسي على نعماء ما أنا فيه من هدوءٍ أخاف ألّا يستمر, فتتسمّم روح القدر من جديدٍ ويحترق بذبالة نارٍ انتهى زيتها، فلا نفع لاجتهاد جديد

في الطريق الذي بدا لي طويلاً، كنت منبهراً بالبنايات العالية، الفضاء الذي قد يبدو مخنوقاً، كان أوسع من خرائط الصحراء المفتوحة، حتى لكأن المدى لا تخفيه البنايات العالية ولا حركة الناس.. ربما أرى نصف الأشياء بعينِ من لم يرَ شيئاً من العالم من قبل، وكانت أبعد المدن التي رآها مسقط رأسه وبغداد قبل أن تنتقل قدماه الى مدنٍ أوسع لخطوات الهروب.. كلّ شيءٍ يبهرني كأنّي لتوّي بلغت سن الرّشد وأبحث عن تكاليف إقامةٍ في خضمّ الإضطراب لأكون في هدوءٍ تام.. قلت لنفسي : لا مقارنة ولا صخب ولا إيهام ولا انبهار دائم حتى لا يخاتلني الضعف فأكون مثل غيمةٍ مرّت بسماءٍ غريبةٍ.. هناك فرق بين أن تراها في التلفزيون وبين أن ترفع رأسك ولا تستطيع رؤية قمتها.. كنت مسروق العقل من كل شيء حين سرْت لأول مرة في شوارع المدينة، حتى من الأرصفة النظيفة والحدائق التي تتوزع بهندسةٍ عاليةٍ من الجمال والتنسيق.. كانت عيناي تسرقان هرولة الناس. نساء ورجال بملابس مختلفة، لا أحد ينتبه للآخر ولا ينشغل به، ربما أنا الوحيد في ذلك الصباح من ينظر الى الآخرين ويحصي خطواتهم، بل ويحسد اثنين يقبّلان بعضهما وهما يتخذان من أريكةٍ خشبيةٍ على حافة حديقةٍ عامة..

حتى إذا ما رأتني زينب برقبتي المشدودة الى الخلف، ضحكت، وهي تدرك أن مثل هذه المشاهد تخلو منها مجتمعاتنا الشرقية.. لكنها نبزتني بكلمة..(شو يخصك)..يقبلون بعضهم أنت أمامك كل الفردوس على طول الليل (ملط ) كما خلق الله بياضه مثلما تقول.

إحمرّ وجهي الجنوبي الذي لا يريد الإتيان بالعقوق لطينه.. لكن زينب أطلقت ضحكةً وحرّكت ساقيها لتضغط على دواسة الوقود.. فصعد جزء من تنورتها الكابوي القصيرة ليكشف عن مساحةٍ جديدة من فخذيها، تاركةً فانيلتها البيضاء تكشف عن ذراعين وجزءٍ من صدرها وجانبها الذي يبرز لي كلما التفتّ إليها لأرى حتى حمالة صدرها..

هنا الأمر عادي حبيبي.. قالت لي وأكملت: كل شعب له عاداته، الحب هنا لا يجب أن يكون ممنوعاً لأنه سيكون أشد لعنةً على استقرار المجتمع.. الموضوع ليس ابتذالاً كما يتصور البعض بل هو حاجةٌ كي لا يكون المرء مسكوناً بالضياع. ورغم أني لم أقتنع بعد بهذه الفلسفة التي تسوقها لي، لكني أعرف إن هذه التربية ليست وليدة اليوم مثلما نحن في الشرق ليس وليدة عصر معين.

سمعتها تقول أيضا: تصور أن الفرد العربي غير منتجٍ لأنه يفكر بالجنس حتى في أوقات عمله ..بل إن النكات أغلبها تتمحور حول موضوعة الجنس لأننا شعبٌ مكبوتٌ اجتماعياً و قبلياً ودينيا.. لذا فنحن شعوب متأخرة.

لم أشأ الدخول في مناقشة لا تفضي الى شيء، فأنا رجلٌ جنوبيٌّ حتى وإن اقتنعت برأيها، لا حلّ للتأثير على المجتمعيْن، فكلّ مجتمعٍ سائر الى ما هو فيه.. ولكن أي الحقائق ثابتة؟ أين نحن من هذا الهوس الذي يجتاح العالم ونحن نمضي مع حياةٍ مستلبة؟ تلك هي الموضوعة التي تشغلنا.. كان عليّ أن أنام القيلولة ولو لساعةٍ، أو استبدل الحوار الذي أعرف ما هي نتيجته، بشيءٍ غير مملٍّ.. فقد عبّرت عن رأيها بحبّها للعراق وهي لا تعني العراق كخارطةٍ بل تعني كنظامٍ وسلطة، فهو يشكّل بالنّسبة لها معرفةً صالحةً بنقص الحياة التي استلبها الواقع السياسي العربي.. وكنت أريد البقاء في خانة عدم إغاضة المواجع العربية التي كنت أصادفها في أي مكانٍ أتواجد فيه في عمّان أو بيروت وحتى هنا في نيويورك.. حتى بات الكلام في شرح التفاصيل يؤدي الى بزوغ كراهيّةٍ لست بحاجةٍ إليها.. وبطريقتي التي أعرّفها عن نفسي.. كنت أتجنب الحوار في المواضيع السياسية.. فكلّ امرئٍ مسؤولٌ عن أفكاره وهو يتحمّلها، مثلما أريد لآرائي أن تكون مصدر ثقةٍ ومقبوليّةً لابد أن تكون آراء الآخرين كذلك.. ولأن الخوض في شرح الحقيقة وما كان الفعل الذي يبعث على الموت، لم يكن أحد يصدّق وكنت أشبه بلعبة شطرنج.. ما أن أحرّك حجراً حتى لو كان الوزير القوي يأتيك جنديٌّ وربما يقول لك ( كش ) عنوةً فتتراجع خوفاً من الإتهام الذي لا يبارح حتى المنطقة الدينية.. لماذا أدخل نفسي في مشاكل مع الآخرين سواء منهم العرب أو حتى العراقيين المناصرين.. فأنا لست مسؤولاً في حزبٍ معارضٍ ولا أريد سوى إيجاد مساحةٍ من أرضٍ أتوسّدها وأنام قرير العين بلا سجّان.. فكيف وهذه الأرض الممنوحة هي زينب.. حتى لو أعلنت إنها تقف مع صدام علانية.. فوقوفها لا يعني إنها ستحمل السلاح وتقاتل أمريكا هنا أو تقتل معارضيه، ولن تكون ردّة فعلها مخاصمتي وإعلان الإفتراق.. فالوعي الذي تربّت عليه ألّا تكون متعصّبةً، لكنها أيضا لا تقبل مجادلة أفكارها من أنها خطأ.. فكل ما في الأمر إنها تعبر عن رأيها وهو ما تعلمته منها حقيقة بشكل استثنائي إذ كنت أتدرج في التعامل من القرويّة الى المدنيّة في الحوار والتخلّص من التعنّت الى القبول، والأجدر بي أن أكون في منطقةٍ محايدةٍ دوما لأتجنب السّوء.. وحين كانت تجرّني الى الحوار على أساس التفاهم، كان عليّ أن أردّ عليها حتى لا تقول عني أني لا أعير لرأيها أهمية، كنت أشرح لها:

- حين نتخلص من كل الحكام المتسلّطين والمنافقين التابعين لهم سيكون الحديث عن حريّة المرء كاملةً أم ناقصةً بغياب الجنس المباح..

كانت تنظر الى عيني بلهفةِ عاشقة.. وتسمع بانتباهٍ شديد:

- إن المشكلة ليست قشراً لكي نعيده الى اللّب أو لباً غير منظور ويراد لنا إعادته الى تكوينه الأولي فهناك مواجهة من الذات ومواجهة مع العقل واستغلاله.. الكثير من مروّجي العفّة هم فاسدون والكثير من مرّوجي الحريّة هم أكثر التزاما.

تنفست وأنا أحاول الإستمرار بشرح معلومتي:

- ربما تجدين في رأيي مخالفةً للواقع الذي جئت منه ومخالفةً أيضا للواقع الجديد الذي أنا فيه والذي ربما أكون جزءاً منه أن حصلت على الجنسية.. ولكن ألا ترين أن المشكلة ليس في حريّةٍ مكشوفةٍ ومباحة بل في حريّة تُفهم الآخر وتعرف ماذا تريد ؟

وجدت زينب تضرب المقود وتصفّق قليلاً وترفع صوتها.

- أنا متزوّجة من رجلٍ فيلسوف يحمل الشّرق في روحه ويرى الغرب في عينيه.

حقا أعجبتني جملتها وربما هي حكمةٌ قالتها دون معرفة بها.. سقطت بين أسنانها وهي تعلن عن فرحها، وهي لا تألوا جهداً لكي تبين إنها تحبني جدا ..تحبني لهدوئي وثقافتي وعراقيتي ورجولتي.. لا تخجل من قول أيّ شيء يخطر على بالها ليكون على لسانها. ولأني لا أريد للنقاش أن يأخذ أبعاداً ميتافيزيقيّة قرّرت الصّمت ومبادلتها ابتسامةً رائجةً وأنا أسألها إن كنّا قد اقتربنا من مركز التجارة العالمي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب وروائي عراقي الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم