"أيهم" عايد الكهلان هو أبي، مات في الحرب، فجّرته قذيفة صُنعت وحُملت على سفينة شحن عبرت المحيط، تسلّمها جنرالات كبار بعد صفقات سريّة ورشاوى بملايين الدولارات وأمروا بوضعها في مستودعات الجيش، عند بداية الحرب سحبها الظد\جنود مع مئات مثلها إلى الخطوط الأمامية، وقام جنديان بتلقيمها فوهة مدفع، انتظرا تلقّي الأمر، حدّد أحدهما الهدف وسحب الثاني الزناد هوت بعيداً خلف خطوط الأعداء كان أبي هناك من الأعداء، وحيداً بانتظارها بلا موعد مسبق، مقرفصاً يقضي حاجته الطبيعية عندما سقطت فوقه ومزقته فاختلطت أشلاؤه الصغيرة بالخراء. اعطوا لأمي أشياءه الخاصة، وقطعة حديد ملوّنة قالوا إنها وسام الشجاعة، وشيك بمبلغ من المال مؤجل الدفع اشتراه منها مرابي القرية بنصف قيمته. الرجال أو الجنود الذين رجعوا من الجبهة بإصابات أو بعاهات أو بالخزي استكثروا قطعة الحديد التي مُنحت لأبي الشهيد بإرادة سامية فذكروا قصة استشهاده، مقتله، وفاته، باستهزاء. لم نجد له جثة ولا رفاتاً، كذبوا على أمي وقالوا إنّه قد تمّ دفنه في ساحة الشرف مع عشرات الشهداء، فقد كنّا نعرف بأنّ عدونا لا يفهم معنى الشرف ولا معنى احترام الحيّ منا فكيف لهم أن يحترموا قتلانا الذين جاءوا لمقاتلتهم؟ طلبوا منّا أن نقرأ الفاتحة على أرواحهم جميعاً حتى ننال الأجر من ربّ العالمين وينال هو في مرقده بين الشهداء منه نصيباً. عاشت أمي سنين طويلة منتظرة أن يرجع أبي، كانت متيقّنة بأنّه لم يمت وأنّه ما يزال متخفّياً وراء حدود الأعداء حياً ينتظر اللحظة المناسبة للعودة. لم أفهم سرّ هذا الانتظار ولا هذا الإيمان وهذا الأمل. كلّ من يعرفونها يعرفون بأنّها تكره أبي أنا الذي يعرف بثقة كم تكرهه، وأعرف بأنّها لم تحبه طوال حياته، وبأنّها لم تحزن على موته. كيف صار وتحولت هذه الكراهية البغيضة إلى حبّ؟ هل إحساسها بأنّه حيّ هو إحساس من يحب؟ أم إحساس من يخاف أن يُبعث هذا الميت من جديد ويخمد راحتها في موته، فتربّصت وراء فكرة أنه حيّ حتى تحتمل عودته إن حدثت معجزة وبُعث حياً؟ لا يمكن لعقلي أن يتقبّل فكرة أن هذه المرأة التي علّمتني أنّ هذا الرجل هو أقبح مخلوقات الله على الأرض، وأنّه أكثر ما كرهته في حياتها يمكن أن تتحوّل إلى عكس ذلك مرّة واحدة. هل الكره النابع من القلب مثل الحبّ النابع من القلب لا يموت؟ أم أنّ أمي كانت تمتّعها هذه الكراهية؟ ولأنّه بموته أخذ منها قيمة عظيمة هي التلذّذ بكرهه قرّرت أن تحبّه حتى تفرح بانتصارها عليه حين سبقها إلى الموت؟. أو أنّ خوفها من فكرة الموت مثل باقي البشر هو الذي غيّرها. لا أقدر على التفكير بأنّ موت أبي آلمها عليّ لأنني صرت يتيماً وعمري لم يتجاوز السنوات الخمس، فتحرّكت فيها الشفقة وهي تراني أكبر من غير أن أكترث لغياب هذا الرجل من حياتي، ومن غير أن أحزن لأنني عشت يتيماً بلا أب؟ ثم لماذا حتى أفترض بأنّها صارت تحبه؟ عندما عقدنا الصلح مع الأعداء الذين احتلّوا نصف وطننا، تقدّمت أمي بعشرات الطلبات لزيارة قبر أبي، كانت وكأنّها بما تحمله من لوعة لموته ومن أمل بانبعاثه تبحث عن قرار تسكن إليه، لم تكن لتفهم مثلما كنت أفهم بأنّها لا تريد غير مبرّر للحياة، فبعد أن تركها زوجها مع ولدين أصغرهم أنا ولم يكن عمري قد بلغ الخمس سنوات، وأكبرهم أختي التي كانت تكبرني بعشر سنين بأنّ في عراكها الأزلي معه قبل أن يقودوه إلى الحرب مبرراً لها لأن تعيش، كان لديها من تعاركه ومن تعانده ومن تلقي عليه عبء الحياة ومسؤليتها، كان يمنحها المبرّر لأن تعيش وبموته وجدت في البحث عنه مبرّراً لأن تعيش أو أنها أوهمت نفسها بذلك. بعد أن أنفقت أمي نصف ما تملك للوسطاء وللعملاء سُمح لها باجتياز الحدود إلى البلاد التي كان أبي يقاتل من أجلها، سارت وعشرات مثلها نحو موقع قالوا إنه مدفون فيه مع مئات غيره ممن قضوا دفاعاً عن الوطن. خرابة قديمة متهالكة من أحجار هجينة كانت مرصوفة منذ سنوات على شكل نصب لم يعد له شكلاً محدداً بعد أن رصفه عمال البلدية الأميين على عجل، وعلّقوا فوقه يافطة تقول إنه بناء الجندي المجهول، حجارته المتهاوية كانت ممتلئة ببول السكارى وبراز أولاد صغار، وكتابات محفورة عليه بالعبرية، لعنات وأدعية بالشرّ على من يرقد تحت هذا التراب. حجارة النصب العالية النظيفة إلّا من عبث الرياح كان محفور عليها بعناء قلوب عشاق مثقوبة بعشوائية بسهام وأحرف. أفهموا أمي أنّ جنودنا الذين نالت منهم الحرب دُفنوا هُنا، العجائز اللواتي سكنّ الحيً وفهمت أمي بعض كلماتهن أخبرنها قصصاً شتى، قلن لها ولمن يرافقونها في رحلتها بأنّه بعد أن انتصر جيشهم على جيش الغزاة "جيشنا" سحلوا جثث قتلى الأعداء "نحن" بالجرافات، وأسكنوها حفرة عميقة صنعوها هنا ونسوا وجودها، لكنّهم بعد معاهدة الصلح رفعوا هذا النصب تعبيراً عن صدق نواياهم في السلام. بعض الرجال العجائز الذين كانوا يراقبون هذا الحوار قالوا بلا مبالاة بأنّه لا يوجد تحت هذا الركام غير أرض خاوية. تغيّر شكل الأمل عند أمي التي صدّقت اليافطة التي بدا من ألوانها بأنّها قد عُلقت حديثاً، ومن علامات الطرق التي تشير إلى الموقع على أنّه مرقد الجندي المجهول، اكتفت من بكاء الأرامل والأيتام الذين رافقوها في رحلتها والتفوا حول النصب وانهمكوا بقراءة القرآن، بيقين أنّه يسكن هنا تحت هذا التراب أجساد الشهداء وأنّ أبي قابع هناك في السماء مع الشهداء والصديقين. لم تفكر بأنّه قد صار سماداً لهذه الأرض على الرغم من أنّها قد سمعت مثلما سمعنا ممن كانوا معه بالحرب بأنّه قد خُصّ بقذيفة جعلته نتفاً. وعلى الرغم من ذلك إلّا أنّها لم تفكّر وهي تعبر الموقع المفترض أنّ أبي قد قضا فيه أن تطأ بقدميها أيّ أرض مزروعة قرب المكان خشيت منها أن تدوس عليه، كانت كلّما توقفت الحافلة التي جاءت بهم إلى هنا للاستراحة واندفع ركابها للراحة فوق النجيل الأخضر والشجار الوارفة، تدسّ نعالها تحت إبطها وتمشي الهوينى وهي تقرأ الفاتحة بصوت هامس على روحه. بعد أن رجعت من رحلتها قرّرت أن تحجّ عن روحه، قالت بأنّ حسناته قليلة وإنّه لم يكن يؤمن بالله ولم يبق علماً ولا عملاً صالحاً يشفع له يوم القيامة فقد كان سكيراً وماجناً، ولا يعبد رباً. حاولت أنا وأختي وكنت حينها في المرحلة الثانوية في المدرسة وكانت أختى قد تزوجت من عسكري كانت كتيبته قريبة من بلدتنا ورحلت معه إلى بلده، أن نثنيها عن قرارها حتى لا تقضي على ما تبقّى من المال الذي لدينا لكننا فشلنا. كنت أدير معها في كلّ يوم الحوار ذاته أحاول برعونة مراهقتي أن أحمي ما نملكه وهو قليل، من الضياع عبثاً، كانت تردّ عليَ بأنني غرّ وجاهل ولا أفهم شيئاً من الحياة. جهدت ياسمين برسائلها التي كانت تصلنا بعد شهر من كتابتها، وبعد أن تكون قد وجدت وسيلة اتصال بهاتف أو بوساطة زائر قادم من عندها لينقل لأمي الكلمات ذاتها التي في هذه الرسائل، التي كانت تهمل أمي قراءتها وتلقيها بعيداً ولا تفتحها، جهدنا نحاول ردعها عما تخطط له لكن بلا جدوى. بذلنا جهداً عظيماً في محاولة إقناعها بأنّ الشهادة تكفيه لدخول الجنة مهما كثُرت آثامه، وأنّ الله غفور رحيم، لكنّها ظلّت على قرارها وعنادها وتركتني وحيداً في البيت وسافرت إلى مكة وهي مصممة أن نبدّل خطايا أبي وآثامه بالفقر. طعم الحرب مرّ إلّا على التجار والحكام، وكان طعمه أكثر مرارة على أبي الذي يحقد على الإثنين، ساقوه إلى الحرب قسراً أو بمكيدة دبّرها له عدد من أهل بلدتنا الذين كانوا يريدونه أن يختفي من حياتهم فقد كان فاسقاً زنديقاً وقوّاداً، مثلما كانوا يصفونه غير أنّهم كانوا يقولون عنه بأنّه لوطيّ، هذا الوصف كانت تكرّر أمي لفظه عندما تحكي لي عنه، كيف كانت قادرة على حمل هذا الثقل من التناقض؟ مما قالته عن أبي أنّه كان يتحلّى بخلقة جميلة ويخفة ظلّ مثل مهرج، ولسان حادّ على الرغم من قلّة كلامه وأنّه كان شديد الولع بالقراءة، وصفته لي بأنّه كان فحلاً وذكياً يعرف قيمة ما يملكه فعاث في البلد فساداً. نحّى رجال البلد جانباً وسطى على نسائهم، حُبلى، مُرضع، صبية، عجوز، أرملة، متزوجة، جميلة قبيحة، سطى على كلّ نساء القرية ولم يقدر رجالها على ضبطه متلبّساً أو إجبار واحدة من سباياه على الاعتراف عليه أو الشكوى ضدّه، حتى يوقعون القصاص عليه برجمه وسلخ جلده. عندما كانت تحكي عن فحولته تنسى بأنّها كانت تصفه في أحيانٍ أخرى بأنه مخنّث. قتلوه أهل البلد حين عزلوه عنهم قبل أن يقتلوه في الحرب، قتلوه بشكّهم وظنونهم أو بغيرتهم منه مثلما قتلهم في مخادعهم وفي خيالاتهم. نحّى رجالات البلدة بجدله ودهائه ورفضه لما يقررونه في أحوال إدارة البلد وبيع محاصيلها، وفي ما يسببه المصنع من تلوث لهواء البلد النقي، كان يجادلهم في مفهومهم لمعنى الشرف وقتلهم البنات بلا معاقبة القاتل، كان وكأنّه لم يُخلق منهم إلّا ليخالفهم. أبي هذا الغريب الذي يعيش في زمان آخر، كان صعلوكاً لا يملك زمام أمره أحد من البلد بعد موت أبيه الذي كان يكمّم فمه إن حاول أن يتنفس في حضرة الكبار. لم يكن له من أصدقاء غير ذاك الغريب الذي كان يصاحبه المصري أحمد. هذا ما قالته أمي. عندما قرّرت الحكومة إعلان الحرب فتحت باب التطوّع للجهاد، وعندما وسعوا الباب ولم يدخله طوعاً سوى قلة من العاطلين عن العمل أُعلن التجنيد الإجباري، ولما طال هذا الإعلان الكثيرين ممن لا يفترض بهم أن يحاربوا لجاه أبائهم او لأسماء عائلاتهم، أرسلت الحكومة للقائمين على المدن والقرى والبوادي أن يتخيّروا عدداً من الرجال الأقوياء والأصحاء وتجنيدهم، ولما كان رئيس البلدة واحداً ممن ينتابهم القلق في منامه من أبي فقد وضع اسمه على رأس القائمة. ما أن علم أبي بأنّه مطلوب للجيش حتى تركنا نحن ولديه وأمي وفرً من البلد. كانت أمي تهتمّ وهي تشدّ من خطواتها وتسوقنا أنا وأختي أمامها مثل غنمتين، لا نعرف إلى أين تمضي بنا إلى أن وصلنا بعد أن تنقّلنا بأكثر من وسيلة نقل إلى بناء من الحجر الأصفر بلون التراب يشبه القلعة، انتظرنا مع عشرات مثلنا نعاني من لهب الصحراء والعطش إلى أن دُقّ جرس فُتحت على إثره بوابة عظيمة هرع الناس نحوها، ليس بدافع الشوق لأحبتهم المسجونين هنا بل هرباً من الحرّ والعطش، تلقّانا أبي بحضنه أنا وأختي وسلّم على أمي وأوصاها خيراً بنا.

************

عندما سمع أبي بقدوم عربة عسكر كبيرة إلى بيتنا وهي تحمل عدداً من رجال البلدة الذين وقعت عليهم القرعة للتجنيد، وكان حينها متّجهاً مثل باقي عمال مصنع الكيماويات الكائن في البلد صوب المقهى الذي يقصدونه للراحة والكلام، ولغسيل ضجيج الماكينات المتواصل والساكن في رؤوسهم ولتنظيف رئاتهم من غبار الأبخرة السامة، بدخان الأراجيل. سمع أبي بخبر استدعائه للتجنيد من صاحب المقهى قبل أن يسحب مقعداً ويجلس، وقبل أن يطلب أرجيلته. أخبره صاحب المقهى بسخرية بأنّ اسمه على رأس القائمة. وبعد أن تحقّق أبي من صحة ما يتفوّه به الرجل من آخرين كانوا يتحدثون بهذا الأمر، أدار وجهه لهم ومضى مسرعاً صوب صاحبه. فاجأ حضوره المبكّر صديقه المصري، نقل له خبر استدعائه للحرب. لم يستطع المصري أن يقنعه بالتروي وبأن يمتثل للأمر مثل غيره، قال له بأنّه لن يكون وحده بل إنّ هناك المئات بل الآلاف الذين سيكونون معه. قال له إنّهم يسعون لإعدامه. ودّع صديقه وخرج من دون أن يخبره عما انتوى أن يفعله. غيّر طريقه المعتاد، أعطى ظهره للبلد وأطلق ساقيه للريح. لم يكن يفكّر إلى أين يمضي أو ما الذي سيؤول إليه حال من خلفهم بعده، كلّ ما كان يتملّكه من إحساس هو الغضب، لا لتآمر رجال البلد عليه، ولا من الذهاب إلى الموت، بل من الحرب. كان يفكّر وهو يقطع الأحراج بخطوات سريعة بأنّ الحرب لا تعدو غير اتفاق بين المتحاربين يأخذونه في جلسات سرّية بينهم يرسمون ويخططون لكلّ شيء، أيام المعارك، مواقعها، عدد القتلى، المفاوضات، الصلح. يضعون ذلك في عقود ومعاهدات مكتوبة وموقّع عليها من المفوضين بمباركة دول أخرى تكون محايدة وحكماً، لم تكن ألافكار التي تدور في خاطره آنذاك نتاج ما تعلّمه من قراءة الكتب الكثيرة التي كان يتّجه إلى عمان في آخر كلّ شهر لشرائها وقراءتها وحسب، بل أيضاً من كونه كان يتحلّى بذاكرة فولاذية، وملكة عظيمة في وضع الأسئلة. ما سمعه من المعلمين في المدرسة ومن أبيه، ومن قصص الرجال الذين عاصروا أو سمعوا عن الاستعمارات التي توالت على العرب، من الأتراك إلى الإنجليز والفرنسيين، زرعت فيه اليقين بأنّ هذه الحرب لن تكون مختلفة عن غيرها من الحروب. فكّر بأنّ المستعمرين قد غيّروا من نهجهم وجاءوا بغرباء زرعوا في رؤوسهم فكرة بأنّ لهم الحقّ في هذه الأرض التي يحاربون من أجلها. قال في نفسه لا بدّ وأنه قد صار عند هذا العدو الجديد ما يدفعه لإرسال أبنائه إلى الموت. قد يكون للمصري أحمد دور أيضاً في إرهاقه في تناول الحياة وفهمها على غير ما هي كائنة عليه عند باقي البشر، لقد علّمه ضرورة أن يربط بين الأشياء حتى لو كانت هجينة عن بعضها، وأن لا يترك ما يراه وما يعيشه أو يسمعه متشظًياً ومشتتاً عمّا يدور في فلكه، خرج من عند صاحبه مستهجناً موقفه وطلبه منه أن يرضخ للأمر الواقع. عندما تمّ إلقاء القبض عليه وصفه أحد الضباط بالجبان، لم يتقبّل هذا الوصف، احتدّ وانفعل وصرخ بالضابط أمام جنوده: - انتم الجبناء لأنّكم ترضخون للأوامر بلا تفكير. دفع ثمن وقاحته هذه لكمات وعصيّ تلقّاها بمواضع بدنه وحرمان من الطعام تلك الليلة. عندما سأله رفيق زنزانته بعد أن مسح دمه ودموعه بخرقة وسخة، كيف استطاعوا أن يصطادوه على الرغم من أنّه كان قد تجاوز أربعة بلاد بعيداً عن بلده؟ ردّ عليه بصوت مُتعب خرج من بين أسنان نازفة: - البوليس. لم يفهم الرفيق هذه الدعابة حتى أسهب عايد في شرحها في محاولة لإبعاد حالة الشقاء التي هما بها، قال له بعد أن لملم أضلاعه واستجمع أنفاسه وصنع متوجعاً ابتسامة فاترة على فمه بإنّه كان ممتطياً صبية جميلة في إحدى الحدائق، عندما رفع رأسه ليرى حفنة من العيون التي تراقبه. وحتى لا يترك رفيقه على حالة الدهشة التي تركه بها قال مصححاً، هذا ما سيقوله أهلي عني، أما الحقيقة يا صاحبي فهي أنني قد تعبت من الهرب. حُكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر مع إعادته إلى الخدمة، ولما كانت الحرب لا تنتظر هذا الوقت فقد أُفرج عنه بعد أيام قليلة من توقيفه، وسيق إلى الحرب بعد أن سُمح له بوداع أسرته. وُضع في خطوط الجبهة الأمامية هو والجبناء أمثاله. هذا ما أخبرتني به أمي. قالت لي أكثر من مرّة بأنّها قد أخذتني معها إلى هناك حيث كان أبي مسجوناً. في إحدى المرات أعادت عليّ هذه القصة وقالت أنت لا تتذكّر فقد كنت صغيراً، ثم رفعت عينيها صوب أختي التي كانت تزورنا على غير عادتها ونظرت صوبها كأنّها تطلب منها أن تصادق على ما تقوله. انتفضت أختي واقفة وانسحبت من الغرفة وهي تقول بكلمات سريعة غضبى: - ياسمين لم تنس أبداً، لقد أعدت علينا هذه الحكاية ألف مرّة. ********* - إصدار الأهلية للنشر . عمان . الأردن. 2015 . الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم