فصل بعنوان الصورة ، لمخطوط روائي عنوانه " كائنات خرافية مات راوي ومات معه السرّ، سرّنا نحن وحتما سيدفن معه، لكنّه لن يموت مادمت حيّا، هو في مكان ما من رأسي، منذ ذلك اليوم ناء كلّ واحد بنفسه عن الآخر، كان كلّ واحد منا يتحاشى الآخر أو هذا ما بدا لي وان كنت متأكّدا من هذا، لا نتبادل الحديث، فقط،عيوننا تتواصل بطريقة ما، بلغة معبّرة، انه الخوف أن ينكشف أمرنا، كنت أتحاشى النّظر في عينيه الجّميلتين، كانت عينين حلوتين و بريئتين تعكس صفاء روح صاحبها وهشاشتها، لقد أكسبته وسامته وخاصة ابتسامته الكثير من المشاكل، حدث الأمر بسرعة،كيف؟، لا أعرف أو ربّما نسيت، كيف خطرت على بالنا الفكرة و قمنا بتنفيذها هذا أيضا نسيته ،نسيت ماذا فعلنا بالتّفصيل، بعد حادثة " جنان المسطورة" ماتت أمّه فرحلت عائلته إلى مدينة أخرى ثمّ عادت من جديد إلى الحيّ تزوّج خلالها والده بامرأة من أقاربه، أرملة جنديّ سقط قتيلا في حرب الولايات التّي اندلعت بعد الاستقلال،سمعت الكثير عنها من أمّي في جلساتها المسائيّة مع صديقاتها والتّي كنت أحظرها في حوش البيت متطفلا، بأنّها امرأة متحرّشة، شبقيّة، كثيرة التّردّد على الأسواق الشّعبية والحمّامات، لم يكن بإمكان المرء في الحيّ إخفاء سرّ بحجم زوجة يسكرها الجّنس و سيرة الرّجال العاشقين، منذ رحيلي عن الحيّ انقطعت أخباره إلى أن التقيت به صدفة في أحد المقاهي، كان هذا منذ سنوات، أسرع نحوي مسلّما، كان مظهره ملفتا للانتباه وان فضلت قول فاضحا، حركات اليدين، تسريحة الشّعر، مشيته، طريقة حديثه، الخواتم التي تزيّن أصابع يدّه وعددها ثلاثة، الاسورة الفضيّة الصّغيرة حول معصم يدّه اليسرى دون أن أتحدّث عن العقد حول عنقه،حبست أنفاسي، انتابني إحساس بالضّيق والارتباك، رغبة في الانفلات والهروب، دعاني للجّلوس، تحدثنا وتحدثنا دون أن نتّطرق إلى ما حدث بيننا، أخبرني انه بعد موت والده غادر الحيّ ليعيش متنقلا بين إخوته و أخواله قبل أن يستأجر أستوديو في المدينة، كان الحديث عن الماضي بالنّسبة له كما بالنّسبة لي مجازفة، تتكرّر المعضلة مع حادثة اختفاء فاروق، فكرت في الانصراف، أقصد الهروب و من حولنا كانت العيون تتلصّص، وهو يتحدّث بنبرة الضّحيّة التّي جنت عليها الظروف السّيّئة، التّغرير ببراءة في أقصى درجات الطّيش والتّهوّر، كنت أشفق عليه، أعرف انّه كان ضحيّة تحرّش"نيكولا دي لاروزا"معلّم الفرنسيّة في ذلك الوقت، هو وفاروق عندما كانا في سنواتهما الدّراسيّة الأولى، هذا ما بدا لي أو ما فهمته من القصص التّي كان يحكيها لي، حاولت جاهدا إيجاد أعذار لما أصبح عليه، أسلمت نفسي لجلوس مرهق ومحرج، أعطاني رقم هاتفه طالبا مني الاتّصال به في أيّ وقت شئت، بل دعاني للمبيت عنده و هذا ما أخافني، شكرته ثمّ انصرفت دون أن أنظر خلفي، حاول الاتّصال بي فتجاهلته، ليس كرها فيه لكنّني لم أكن مرتاحا معه .. [ 2 ] أفكّر كثيرا في ما قاله لي في المقهى، حديث طويل دار بيننا، حكاية إنسان لم يستطع التّحرر من عقدته، لدهشتي الكبيرة إنني مازلت أتذكّر ما قاله لي رغم مرور وقت طويل عن لقاءنا هذا، بأنّه يكره نفسه، يعافها، انّه فكّر كثيرا في وضع حدّ لحياته، تحرير نفسه من فخ الجّسد الملطّخ والمريض، بأنّه لم يكن محظوظا كغيره من الأطفال، بأنّه قام بأشياء يندم عليها، كيف كان بريئا ثمّ انقلب إلى زاوي آخر، بأنّه يبقى مستيقظا طوال اللّيل خوفا من الوحش البشري الذّي اغتصبه في طفولته، يراه قادما نحوه، يحاول الهرب لكنّه لا يقدر، أطرافه مشلولة و الكلمات مخنوقة، يخمد الصّراخ المستنجد بمن له القدرة على إنقاذه في مهده، يمسك به الوحش ويجرّه من يدّه إلى غرفة مظلمة، يمزّق ملابسه ويعتدي عليه، عندما يقاوم وينجح في قتله يتبخّر الوحش، يسأل((لماذا لا تموت الوحوش عندما أقتلها؟،ما الفرق بينها والأشباح؟،هل تعرف؟،أنا شبح )).. النّوم الذّي يتسلّل منه الوحش ليمسك بفريسته هو فخّ، وعندما تجد نفسك في هذا الفخ فانّك في الحقيقة وقعت في متاهة لا فرار منها، عندما قلت له لماذا لا ينساه، يقتله في عقله، يرجع لله، الإيمان حافل بالصّبر والتّجدّد و الرّضا عن الذّات والانتصار على وساوس الشّيطان، يجيب بأنّه كلّما قتله يعود في شكل آخر أكثر قوّة من قبل، بأنّ ذكرى فاروق تعذّبه، تذكّره بمحنته، تمنّى لو كان مكانه، يحسده على موته صغيرا، هو على الأقل كما قال ينعم بالسّلام مع الموتى الصّغار، بأنّه يحتفظ له بصورة، عندما يشتاق له يتأمّلها ثمّ يبكي، ثمّ أخبرني كيف كان يتحرّش بهما دي لا روزا في مكتبه، بأنّه حاول إخبار أباه، لكن ماذا سيفعل أب سكّير؟، لا شيء، كان يضربه ثمّ يحبسه في القبو، بالنّسبة لفاروق كان الأمر أكثر مأساويّة، كان يتيم الوالدين ويعيش مع جدّته، لم يهتم أحد لأمره، عندما أخبر الجّميع بأنّه شاهده لآخر مرّة يدخل الفيلا مع الوحش لم يصدّقه أحد، انهال عليه والده بالضّرب قائلا (( يا كلب، مسيو دي لا روزا محترم، مجاهد!، سأقتلك يا واحد الكلب على هذا الكلام، قلت لك لا أريد مشاكل مع أحد)).. اختفاء فاروق ضاعف خوفه من كلّ شيء، من المعلمين، من الرّجال، المدرسة، الفرنسيين،ا لدّراسة، الأماكن المظلمة و المغلقة، الغرباء، الآباء القساة و السكّرين، سألني : ((ماذا وجد تهامي عندما نزل إلى القبو ؟ )).. فكّرت قبل أن أجيبه .. (( لا شيء)).. شكّك في إجابتي، بالنّسبة له فاروق مدفون في بئر القبو ، بأنّه اخطأ ذلك اليوم ، كان عليه النّزول لأنه الوحيد الذّي يعرفه جيّدا ، يبوح قائلا : (( فكّرت في الانتحار، حدث هذا منذ سنوات، حاولت إلقاء نفسي من القنطرة ومرّة أخرى جرّبت علبة دواء كاملة، لكنّني جبنت، قبل أن أقدم على هذا سأحقّق رغبة واحدة و من بعد سأموت))، يصمت ثمّ : (( سأعود إلى الفيلا و أبحث عن فاروق، سأفعلها ))، أتفاجئ ممّا قاله،رغبته في العودة إلى الفيلا ، قلت : (( أنت مجنون، عليك أن تنسى كلّ شيء )).. لا يسمعني، اكتفى بتغيير الحوار ليسألني عن الآخرين إن كنت قد التقيت بهم .. [ 3 ] نسيت وجهه، وجوههم وكذلك وجهي، كثيرا ما أهملت حلق لحيتي فما عدت متأكّدا إن كان وجهي كغيره من الوجوه، إن كنت وسيما كما كانت تدلّلني أمّي، أتذكّرها متباهيّة بي أمام نساء الحوش، في أماسي الصّيف الحارة،عندما كانت الأجواء، الأمكنة، الحياة قريبة من أحاسيس النّاس، كانت تقول((يكبر حبيبي الصّغير و أزوّجه أجمل امرأة في العالم،سأختار له أميرة تشبه الشّمس، لا، الشّمس تغيب، سأختارها كوجه السّماء، السّماء كبيرة، بديعة، تزيّنها النّجوم، النّجوم تسحر العيون، السّماء لا تغيب، من منكن أنجبت أميرا مثل حبيبي الصّغير))، تقرأ عليهن شعرها وهي المرأة التّي لم تطأ مدرسة قطّ فيحدث فيهن هذا الفصيح السّردي وقع الغيرة، يتهمنها بأنّها تفرط في حبّي وتدليلي، أرتمي في حضنها معانقا إيّاها، تطبع على خدّيّ الشّبيهة بقطعة شيكولاطه كما تصفهما قبلة، اثنتان و ثلاثة وتهمس: (( عسل، لذيذ، حلوّ حبيبيي الصّغير))..أحتمي بها، أشعر بذبذبات نبض قلبها الجّارف حبّا وحنانا فأكتشف حينها إنّني أمير صغير يتربّع على عرش قلب أمّه المفتونة بانجاز بطنها، أتذكّر ما كانت تدغدغه في أذني عندما أمرض، تضمّني إلى صدرها بعدما تطبع على جبهتي قبلة دافئة وحنونة، ذلك الصّدر البحر الدّافئ الكبير، الفضاء الذّي يتفرّع منه الحنان والأمان والسّعادة، أسمعها تقول:(( حبيبي،أغمض عينيك،لا تفكّر في شيء، ستشفى وتعود كما كنت))..آه، أين أنت يا حبيبتي، يا أطيب الأمّهات وأحنّهن، كيف لي أن أعثر على امرأة تشبهك؟،تحبّني، تغمرني بحنانها، تعمّدني بحليب أنوثتها فيحيا في الإنسان الميّت، هل تعرفين يا أمّي؟، يا أعظم وأجمل الأمّهات، أنت من علمتني كيف أحبّ النّساء، أتحسّس فيهن رائحة الأنوثة اللّذيذة، لكم أرغب أن تكون بجانبي في لحظة الألم والتّمزّق، امرأة تشبهها لتكون أنثاي، حبيبتي، نجمتي القطبيّة، تكون علاجي من إدمان الوحدة و الكآبات، أكتشف فيها جسد الأنثى المحروم منه،لم تحرميني من شيء، أعطيتني كلّ ما رغبت فيه بسخاء، لم أسمع منك إطلاقا كلمة لا، أمّا اليوم فلقد تخلى عني الجّميع، أحسست منذ أوّل خيباتي الأولى مع النّساء أن القدر أدار ظهره لي، لكن عزائي الوحيد في لحظتي هذه هم أصحاب القلوب الطّيبة والنّفوس الكريمة، أنت، أبي، أختي حورية و..،لكن أين هم الآن؟، هل قدري أن أحبّ الأشباح؟، أتعلّق بهم؟، أشتاق لهم؟، أرسم لهم بورتريهات يتيمة وأعلّقها في متحف الذّكريات، لذا عندما أنظر لنفسي في مرآة لا أستغرب نسيان شكل وجهي، ملامحه، فاسأل نفسي من أنا ومن كنت و ماذا سأكون عليه، لولا صوري وذكرى أمّي وبعض النّساء اللّواتي أشعن فيّ نفسي ذكرى طيّبة قبل أن يختفين لنسيت كلّ شيء، لنسيت أجمل وأحلى الذّكريات، كان غيابهن في حياتي ضربة قدر مؤلمة، خسارة قوّضت ثقتي في نفسي أو ربّما سوء طالع ينذر بالنّحس، لماذا حدث هذا؟، كلّ الذّين أحببتهم و أحبّوني هم ماض وحاضر، حضور وغياب، وهم وحقيقة، أقنعة و وجوه،وجه أمّي، أبي،أخواتي، زاوي، فاروق،عبلة و .. و.. أيضا وجه تهامي و زيزو .. [ 4 ] أضع الألبوم العائلي أمامي، أقلّب الصّور، حكايات فوتوغرافيّة صامتة لكنّها معبّرة، صور لي أنا وأخواتي البنات، هذه لي في عامي الأوّل، هذه مع أخواتي ونحن صغار في أحد النّزهات التّي كان يأخذنا إليها أبي، هذه صورة له مع أمّي وقد التقطت لهما بمناسبة زفافهما وأخرى لها تحمل بين ذراعيها أميرها الصّغير، أجمل شيء حدث لها في حياتها، في ريعان جمالها الذّي لم يسرقه بعد العجوز المخادع، أبي أيّام ثورة التّحرير في جبل بني صالح، صورة ثالثة و رابعة.. و..و..و ، صورة لكلّ أفراد العائلة،التقطت في أحد المناسبات التّي نسيتها، كان وسيما،من المؤكّد إنني ورثت منه هذه الوسامة، صورة أخرى له و هو ممدّد على سرير، أخبرني أن الصّورة التقطت له عندما أصيب عند الحدود في عمليّة عبور كادت أن تكون مميتة، صورة أخرى له بلباس مدنيّ[ قميص مخطّط وسروال عسكري، يضع نظارة شمسيّة،يجلس مع مجموعة من الأشخاص، في خلفيّة الصّورة يظهر عجوز يرتدي مئزرا أبيضا،يضع فوق رأسه شاشيّة تونسيّة و يقف مبتسما خلف كونتوار، كان أبي قد أمال رأسه لليسار حيث النّافذة وعلى يمينه يضع رجل يدّه على كتفه مبتسما]،سألته عنه،فأخبرني بأنّه علاّوة الذّي سيصبح فيما بعد صديقه الحميم، كتب على ظهر الصّورة بخطّ يدّه[الكاف16 أكتوبر 1958 مع خويا علاوة]،هل أقول انّه من حسن الصّدف أن أبي التقى بأمّي و تزوّجا لينجباني؟،هل صحيح بأنّني انجاز نطفتهما العظيمة كما كانت تقول((أجمل شيء حدث لي إنني أنجبتك)) .. أو ربّما العكس؟،هل حياتي بهذه الأهميّة كما كانت تقول؟،بهذا الثّراء؟،أفي خلقي حكمة؟،كيف هذا؟،حياتي تجربة فاشلة في الحبّ والحياة، مرهق هو الإنسان الذّي بداخلي و يرغب في التّقاعد، أقصد أن أغمض عيني في يوم بارد وماطر ولا أفتحهما،فشلت في حياتي و زواجي سفينة غارقة في أعماق بحر الجّحود والنّكران،لم أنجب أولاد كغيري وقد لا أنجبهم وعندما أموت سينساني الجّميع،ماذا فعلت بحياتي؟، أين كنت؟، لماذا هذا الغياب الطويل؟، المعتّم؟، كيف مرّ هذا الزّمن البطيء والثّقيل دون أن أشعرّ به؟، دون أن أحقّق انجاز ما،لا،كانت هناك عبلة،عبلة الفتاة التّي تقطر أنوثة، أميرة طفولتي ، لماذا لم أتزوجها؟، كان يمكن أن نكون مغرمين ببعضنا، حتما تحتفظ لي بذكرى طيّبة، سأبحث عنها عندما أتخلّص من الجّيفة، سأبحث عنها في كلّ مكان، سأسأل عنها من خلال العناوين القديمة وعندما أجدها سأخبرها بأنّها دخلت قلبي وحبسته في نظرة عينيها العسليتين،الآسرتين منذ الأبديّة المطلقة ، سأخبرها بأنني أحبّبتها منذ اليوم الذّي وقعت عيني عليها، سأفرغ ما في قلبي من شجون وهموم دفعة واحدة وأقول لها كلّ الكلمات العاشقة، أعرف إننا لم نلتق منذ إن غادرت عائلتها الحيّ إلا أن حضورها يطغى على حياتي وتفكيري ويسكن حجرات رأسي المائة حيث علقت لها في كلّ واحدة منها صورة من صورها .. [ 5 ] كان أبي دائما متأنّقا وهذا ما تشهد عليه صوره الكثيرة في الألبوم، البذلة وربطة العنق والحذاء الكلاسيكي الأسود، ربّما عمله يتطلّب منه أن يكون أنيقا، أتذكّر معلّم اللغة العربيّة عندما سألني في إحدى المرّات عن عمله، غابت عني الإجابة، لم يخطر ببالي سؤاله عن سبب غيابه لأيّام وفي بعض الأحيان لأسابيع،عن العمل الذّي يجعله يخفي مسدّسا في خزانة الملابس، في غرفة نومه، لم يكن موظّفا،هذا مؤكّد،لم يكن شرطيّا أو ما شابه ذلك لأنني لم أره قطّ يرتدي لباس الشّرطة، كانت تأتي سيّارة العمل التّي يسوقها صديقه علاّوة إلى البيت، يودّع أمّي ويقبّلني قائلا((اسمع كلام أمّك وعندما أعود سنتجول معا في المدينة))، أدرت رأسي نحو رفاقي في القسم الذّين بدورهم كانوا ينتظرون إجابتي، سألت أمّي فقالت لي بأنّه يعمل في الدّولة!، ما هي الدّولة؟،ما معنى انّه يعمل في الدّولة؟، عندما ألححت عليها أن تخبرني قالت((عندما يعود سيخبرك، قل لمعلمك انّه يعمل في الدّولة، والآن أتركني أكمل عملي ))، حزين أنا الذّي عثرت عليه ملقى على الأرض بعدما سقط من كرسيه المتحرّك، كنت في حاجة إليه، لكن أمّي كانت هنا بجانبي، هذه صورة لها في قندورة عرس برفقة أخواتي البنات،التقطت لها الصّورة بمناسبة زواجي، رفضت في بادئ الأمر بحجّة أنّها مرهقة وأنها لا تضع شيء على وجهها،أقنعتها بأنّها لا تحتاج للماكياج، تكفي ابتسامة حلوة منها ليشرق وجهها البهيّ، ليشع منه النّور، بأنّها ستضفي على الصّورة جمالا إضافيّا، دفعتني مبتسمة (( أيّها المخادع،فخورة بك))، لماذا فقدت قدرة الحديث بطلاقة مع النّساء، بدون عقدة، ما الذّي حدث لي؟، من الذّي غيّرني؟، ماذا تغيّر في؟، أين أنا؟، أرغب في اجتثاث الإخفاق الذّي يتغذّى من حدادي الذّي يبدو لي أبديّا، أرغب في البكاء على أطلالي لكنّني لا أعرف كيف، هل فقدت القدرة على البكاء؟، تأتي هذه الصّور لتعوّض هذا الفقدان، حضور أمّي الفوتوغرافي لا يتحدّث معي، لا يدلّلني، توثقني ذكراها وذكراهم بقيود الرّوابط العائليّة المتينة تعرّضت للخلخلة و التّمزيق، بدت لي في ذلك اليوم مريضة، وقفت شجاعة في مواجهة آلة التّصوير، تكفي ابتسامة رقيقة من وجه حبيب فتنسيك أن العالم المنغرس في القبح المطلق يتقيأ مآسي كثيرة،بعدها بفترة نقلناها إلى المستشفى ليفاجئنا الطبيب بأنّها مصابة بورم خبيث وقد يقضي عليها، ثمّ هذه الصّورة القديمة كشاهد على عمر بددته في زرع الخيبات وحصاد المرارات، صورتي أنا ورفاقي في القسم، السّنة الثالثة، يقف نيكولا دي لا روزا أقصى اليسار حازما وغامضا، سمعت انّه مات ودفن في مقبرة الفرنسيس الواقعة على الهضبة المطلة على الحيّ،من يصدّق أنه في ذلك الوقت كان عددنا يفوق الأربعين، انعدمت أشكال الأنوثة في دائرة محتجز فيها أولاد يسربلون فوضاهم بكرة وأصيلا،كان افتقادهن مؤثّر،يشعرنا بفقدان شيء ثمين، يدفعنا هذا الغياب للبحث عنهن ككلاب صيد مدرّبة، بشمّ رائحتهن من مكان إلى مكان، كالوقوف كأصنام الجّاهليّة بعيدا عن فصولهم الدّراسيّة، فننفّذ من حين إلى حين عمليّة تسلّل خلف صفوفهن رغم انتشار العسس المترصّدين لحركاتنا وحماقتنا وما أكثرها، بالنّسبة لي كانت لدّي مهمّة أخرى،لعب دور الحارس الأمين لعبلة، استأجرت عائلتها البيت المجاور لبيتنا لتصبح فيما بعد أمّي صديقة أمّها، مكلفة إيّاي بمرافقتها إلى المدرسة في الذّهاب و الإياب،حراستها وفي السّنة التّاليّة رحلت عائلتها وانقطعت عنا أخبارهم، عند اقتراب موعد زواجي أخبرتني أمّي أن جيراننا القدامى سيحظرون، ثمّ ذكّرتني بالفتاة الجّميلة و الهادئة التّي كنت أرافقها إلى المدرسة،كانت تقف أمامي عبلة أخرى، كدميّة قبائليّة من القطيفة والحرير و كان وركاها رائعان، يطبع وجهها ألفة مقرونة بالحزم والخجل،ابتسامتها أشبه بدعوة غريبة لحلّ شيفرة وجه الموناليزا،اكتفت بابتسامة قصيرة مختصرة قائلة((مبروك)) ، كان التقاط الصّورة المدرسيّة يتطلّب جهدا مضنيا بالنسبة للمصوّر،كان مصوّرا فرنسيّا في الخمسين يتكلّم الدّارجة بطلاقة اسمه مسيو فرانسوا و نطلق عليه عمّي فرانسوا((قفوا أنتم هنا،أنت وأنت كذلك،نعم،أنت أيضا معهم،لماذا لا تسمع ما أقوله لك، قلت لك أنت،نعم، يا الهي انهم مزعجون[يقولها بالفرنسيّة]،لماذا لا تسمعوا كلامي،قفوا في الصّفّ الثاني))، كلّ واحد يرغب في الوقوف في المكان أو في الوضعيّة التي يرغب فيها، أو الوقوف بجانب صديق له ، ضجيج، عراك، زحام،تدافع، يفقد أعصابه فيثور غاضبا،يسمع دي لا روزا المتواجد في المكتب الجّلبة في الخارج،يخرج وما إن نراه قادما ممسكا مسطرته الخشبيّة حتّى يعود الهدوء ويرضخ العصاة والمشاغبين، تستقيم الصّفوف ويأخذ كلّ واحد مكانه، يظهر زيزو في الصّفّ الأوّل من جهة اليسار،يلبس قشابيّة قديمة متسّخة،تبدو على وجهه شديد السّمرة والنّحيل علامة الامتعاض من جلوسه على ركبتيه في صفّ يصف أصحابه بالمجتهدين،في الصفّ الثّاني من جهة اليسار يقف فاروق المسكين، في الصّفّ الثالث، في الوسط أظهر بهدوئي المعتاد،انتباهي الحذر، التّركيز نحو المصوّر وآلته الغريبة، يبعد عنّي بصفّ واحد في الخلف زاوي، يقف تهامي على يساري وبيننا مسعود الدّركيّ الذّي انتحر في الثكنة العسكريّة، تهامي صاحب الجّبهة العريضة التّي تخفي ملامح شخصيّة عدائيّة، يرمق الجّميع بنظرة حادة مقرونة بالتّهور و الاندفاع الذّي يسبق ثورة الغضب التّي كانت سمته البارزة .. [ 6 ] ألم يثقل رأسي بالصّداع، ألم كضربات فأس تحفر في جدار فاصل بين سجن الذّات والحياة، أغلق الألبوم وأضعه جانبا، أقف متثاقلا، أفتح باب الثلاجة ، أسحب علبة باراسيتامول، آخذ قرصين وأبتلعهما، ألقي نظرة على الخارج، الحيّ يتثاءب في قيلولته،أطفال يلعبون، مارة يسرعون الخطى جيئة و ذهابا، سيّارة تعبر الحيّ، شاحنة صغيرة الحجم مركونة أمام الرّصيف وخلفها سيارة بيضاء،نوافذ موصدة، حوانيت مغلقة، رصيف متسّخ، طريق محفورة، أشجار و نباتات المهبولة ونباتات أخرى لا أعرف اسمها غائبة عن الوعي، ثملة بضربة شمس، أغصانها في وضعيّة الرّكوع والسّجود والأوراق تسبح لكهنوت اللّحظة، صدى أصوات تأتي من بعيد،من طريق خلف العمارة المجاورة،عمارة la S-M، بي رغبة في النّوم، أريده أن يكون عميقا وهادئا، أتمدّد على السّرير، كلّما تمدّدت أو نمت ينتابني إحساس بالخوف وفي نفس الوقت بالمرارة من الحرمان وغضب حقيقيّ من الجسد الآخر الذّي لم يبادلني المتعة التّي رغبت فيها، كالعادة ينتصب شيطان رأسي محرضا إيّاي،موسوسا،يوهمني بالمتعة الغائبة، أغمض عينيّ، خيالي المبدع يفتش عن بقايا صور تكون ملح النّوم، وجوه جميلة، أجساد عاريّة، صدور نساء ممتلئة، لا أجد صعوبة فرأسي تعجّ بالصّوّر و المشاهد المحفوظة بعناية في غرف رأسي اللعينة ، رأسي هذه تعجّ بشطحات وشيطانات النّفس الأمّارة بالسّوء، هل تعرف يا عزيزي لو سقطت في يوم ما في كمين الموت وسألوني أيّ أعضائي جسمي يدشّنون بها مراسم الموت، بدون تردّد سأشير لرأسي وعضوي، في الحقيقة أريد أن أرتاح وأنهي فوضاي ولعناتي وأسدّ منافذ الخطيئة، ليس مشكلة فأنا أنتظر هذه اللحظة كما ينتظر شيخ في أرذل العمر نهايته الحتميّة من خلف نافذة مغلقة، تتماوج الأفكار وتتسلّل الصّور الضّبابيّة من ثقب ما مذكرة إيّاي بمشهد فيلم شاهدته فيما مضى، طالبة حسناء بين ذراعي أستاذها، قطة مفترسة، جامحة، تحدّق فيه، ترغب فيه بكلّ بحواسها، بدا ذلك من خلال نظرات عينيها ، جسد جائع يجرفه طوفان الشّهوة، توغل يدّها الصّغيرة في مكان ما، عندما كنت صغيرا كان يحلو لي شراء آيس كريم في عزّ حرارة الصّيف و أقوم بامتصاصها مستلذا اللحظة، لا أقاوم ذلك الشّيء المؤثّر والطاغي الذّي بداخلي، ما اسمه؟، ما شكله؟،من أين يأتي؟،كيف أمسك به؟،بركان، هيجان، عطش،جوع، وحش داخليّ يمزّق الصّمت والصّوت، أشعر في لحظتي بمذاق اللّذة تأتيني، تحيط بي من كلّ مكان، مازلت على تلك الحالة إلى إن تلاشت مقاومتي، هدأت نفسي، هدأت فجاء النّوم هادئا و حميما ..

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم