جيُوفاني علّمني أن أحبّ البحر وأنظر إليه كسيّد. ثم جاء اليوم الذي انتبه فيه أحد الصيّادين لجلساتي مع جيوفاني فهمس بكلمات سوداء تناقلتها الأفواه إلى أن وصلت إلى فم صيّاد قالها بصوت مرتفع، وهكذا وصلت إلى شباك أبي المثقلة بسمك "بوري" صغير. تعكّر مزاج أبي فأعاد السمك للبحر والتهم حذاءه طريق العودة إلى بيتنا. حتى الصيّاد الأحول الذي لطالما سخر الصيّادون من شباكه الفارغة، قال لوالدي بسخرية: "أسرع يا رجل قبل أن يلتهم الحوت الإيطاليّ ابنك". يومها حين عدت للبيت وجدت أبي ينتظرني على عتبة الباب. وبحزامه الجلدي الأسود المهترئ حفر أخاديدَ على ظهري. عند كل جلدة صرخت مثل حيوان علق في فخّ وانغلقت المصيدة على قدمه. لم تتدخّل أمّي وتدافع عنّي لأنّها لم تكن موجودة في البيت، أمّا أختي فحاولت الدفاع عنّي لكنّها أخذت نصيبها صفعة من يده الكبيرة جعلتها تدور في مكانها قبل أن تسقط أرضاً. فقط حين تعبت يده وتعب الحزام معها، توقّف عن ضربي. جررت جسدي للفراش دون أن أنبس بكلمة. أغمضت عيني وتذكرت حكايات جيوفاني الممتعة يسردها بلهجته التونسية المُكسرة المضحكة. ولأنسى الألم تخيلت البلدان التي حدثني عنها، بأشجارها العملاقة وهسهسة أوراق الخريف نبيذية اللون والمقاعد العمومية الخشبية التي يجلس عليها الناس قبالة البحر. وقتها فكرت بأنّ البحر مرآة فاصلة بين بلدي وبين البلدان التي حدثني عنها. وصوت جيوفاني لم يكن سوى صوت المرآة التي تعكس تفاصيل تلك البلدان. بسبب الحزام الأسود وكلمات أبي توجّب عليّ التوقّف عن رؤية جيوفاني: "إذا لم تتوقف عن رؤية هذا الإيطالي العجوز، هذا القذر محبّ الأولاد الصغار، فأقسم أنّني لن أكتفي بجلدك، بل سأقتلك دون ندم". توقفت عن رؤية صديقي الإيطالي وهجرت البحر. هجرتُ زرقته وأمواجه وأسماكه وروائحه والمقاهي الصغيرة القريبة منه. هجرته لهدف واحد. أردتُ أن أعود إليه مغامراً قوياً يمخر أسرار موجه ويصل للبلدان التي تتخفّى خلف مراياه. ولتحقيق هذا الهدف كان عليّ الالتزام بساعات الدرس في المعهد فعدت إليها طوعاً بعد أن كنت أهرب منها باتجاه البحر والصيد. التهمتُ دروس الجغرافيا المُدرجة في الكتب الدراسية لكنها لم تروِ عطشي فلجأت للمكتبة العامة. أول مرة رآني فيها جيوفاني، كنتُ واقفاً على حافة رصيف يطل على جانب من مياه الميناء. كان الرصيف بعيداً عن الصيادين ومياهه ضحلة نسبياً لذلك كان من الصعب أن يتجمّع فيه السمك الكبير. ومع ذلك وقفتُ هناك تحت شمس أكتوبر الناعمة مُمسكاً بخيط طويل علقت في آخره شصا سرقته من أبي. بصبر تركت صنّارتي المُرتجلة تنساب في المياه بطريقة عمودية آملاً في التقاط بضعة سُميكات. كان الطُعم الذي استطعت أن أوفره بسيطا. لُباب خبز يابس مزجته بالماء وبقطعة جبن حتّى تشكّل عجينة مُتماسكة علقتها بالشص. وكخطوة تحضيرية أولى قبل أن تلامس صنارتي سطح الماء، ألقيت في الماء بالقشر الخارجي للخبز الذي فصلته عن اللباب. كنت أعتمد هذه الطريقة لجذب السمك. فقط حين أرى الأجسام الصغيرة تقترب بحركات سريعة تحت الماء الشفاف، وقتها ألقي بصنارتي. لم أنتبه لعيني جيُوفاني الصغيرة تُتابع حركاتي باستمتاع. كان جالساً في المقهى المقابل لمكان وقفتي، يرتشف قهوته "العربي"* المعطرة بماء الزهر ويتصفح عناوين جرائد لا يقرأها. لم أنتبه إليه يومها ولا في الأيام التي تلت إلى أن اقترب مني ذات صباح وقدم لي أجمل هدية تلقيتها في حياتي، صنارة حقيقية.

كان جيُوفاني كهلاً قصيرا، عيونه الزرقاء صغيرة مثل عيني نورس ضائع في السماء وأنفه طويل وحادّ، أما شفتاه فخطّان متوازيان. كان يحبّ كلّ ما لونه أزرق، البحر والسماء والأبواب والنوافذ الزرقاء التي تزين البيوت البيضاء في المدن التونسية العتيقة. وأغلب قمصانه زرقاء اللون. أزرق سماوي. أزرق ليلي. أزرق بحري. أزرق مائل للأخضر. أزرق قريب من لون التركواز. كان يعشق الأزرق بكلّ تدرّجاته. مثل كل الايطاليين كان جيوفاني يستعمل يديه كثيراً عندما يتكلم. ورغم انبهاري بشخصيته، إلا أنني كنت أشعر بأن عينيه الصغيرتين تضفيان عليه لمسة من اللؤم. كان ذوّاقاً ومحبّاً للأكل. يتناول كلّ لقمة كأنها آخر لقمة يتناولها في حياته. يحبّ السمك كثيراً ويتناوله كل يوم تقريباً. يبدأ نهاره بالمرور على شباك الصيادين ليختار أحسن أسماكهم قبل أن يأتي "القشار"*على درّاجته النارية ويأخذ السمك ليبيعه في السوق المركزي. بعدها يتجه جيوفاني بخطى متأنية لنفس المقهى المطل على الميناء الذي يجلس فيه كل صباح. ذلك المقهى الذي سُمي ذات يوم بمقهى "تحت السور" والذي أسّسه في بدايات القرن الماضي الكاتب علي الدوعاجي وجماعته، جماعة تحت السور. يجلس جيوفاني هناك كل صباح مفتتحا نهاره بمراقبة حركة المدينة وهي تستيقظ من نومها نشطة أو كسولة، غائمة المزاج في الشتاء أو فرحة بصخب في الربيع. في البداية لم يحب الصيادون جيوفاني كثيرا. لم يكن كرههم له نابعاً من كونه أجنبي بل لأنه كان مختلفا عنهم. كرهوا أناقته وأناقة كلامه واجادته للهجة التونسية وخطواته المتأنية. لكن نظرتهم له تغيرت بعد أن انتبهوا إلى مواظبته في المرور على شباكهم. كان يأتي كل يومين في نفس الساعة تقريبا. يصل قبل أن ينتهوا من إفراغ شباكهم في الصناديق المفروشة بالثلج. ولأن أبناء البحر يعرف بعضهم بعضاً، عرفوا أنّه رغم أناقته المفرطة كان ابن بحر. انبهروا بطريقة تقليبه وتقييمه للسمك فرغم عطره الفاخر المُختلط برائحة السيجار الذي دأب على تدخينه، كان جيوفاني لا ينأى عن لمس السمك وتقليبه بيدين عاريتين. كما كانت يداه سخيتين. فهو يدفع أكثر ممّا يطلبونه لذلك تنافس الصيّادون في ما بينهم واحتفظوا له بأحسن ما لديهم من سمك. قبل يوم الحزام الجلدي الأسود، لم أعر انتباهاً لما يتحدث به الآخرون عن الأجانب الذين يتصيدون الأولاد الصغار. كان الكبار يغمغمون بمثل هذه الحكايات في ما بينهم دون أن يوضحوا لنا شيئاَ وكان المراهقون الأكبر مني سناً يتهامسون بهذه الحكايات بينهم كسر من أسرار رجولتهم المُبكرة، سر لم أهتم بمعرفته. لكنني وبعد أن جلدني أبي بحزامه الجلدي الأسود المهترئ، عرفتُ وفهمتُ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ * فصل من رواية "اشكل" تصدر قريباً * القهوة العربي: التسمية التونسية للقهوة التركية. * القشار: تسمية تطلق على بائع يشتري السمك من الصيادين ثم يعاود بيعه بسعر أعلى في السوق المركزي.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم