وعندما كاد يصل الى كشك العم مدبولي الذي يقع على أول ناصية من الحي..تمهَّل في سيره وتحسَّس شيئا...كان هناك ورقة صغيرة دسها في جيب سرواله قبل أن يغادر البيت.أخرجها ونظر اليها بتمعُّنٍ وتردُّدٍ..ثم هتف في سرِّه: "نعم أنا حي.." توقّف أمام الكشك الصغير..نظر في عيني العم مدبولي بثبات قائلا: " انا عايز اطلب الرقم ده من فضلك". هزَّ العم مدبولي رأسه بايماءة الموافقة.. ان أكثر ما يعجبه في شخص العم مدبولي أنه لا يتكلم..هو صامت دائماً..كأنه لا يجاري عقارب الساعة في دورانها ويقف في الزمن مشدوداً الى الوراء.. قابعاً في زاوية مطبقة على ذاتها لا تخضع لفصول السنة ولا لتغييرات الزمان اوالمكان.. تمنى لو أنه يستطيع ان يصمت مثله الى الأبد فيكفي نفسه شرور الدهر.. بيد أن ذاك الهاتف المتمرد في أعمق أعماقه ما زال يصرخ فيه بلا رحمة لائماً صارماً : أنا حي..نعم أنا حي... أعطاه العم مدبولي السماعة...انتظرَ لثوانٍ قبل أن يسمع صوت الست زينات يأتيه معطَّراً كندى الصبح يذرف في وريقات الزهر رذاذَ حلم قديم...مبشِّراً بأمل قريب..نافضاً عن عينه الندى وعن جبينه الأرق والسهاد المضني.. -ألو..الست زينات..صباح الورد..انا عز الدين الادريسي..لي مثلت معاك مشهد من فيلم الزمان ..فكراني؟... دقَّ قلبه بعنف..متوجساً مما قد يجده من الست زينات من لامبالاة أو ضيقٍ به.. رغم عهده بها انسانة طيبة جارفة العاطفة .. مرّت بضع ثوان خال بها أنه تسمّر دهراً امام كشك الحج مدبولي..وأنه يرقب العالم من علو السماء ويسمع الضجيج من أسفل الأرض.. جاءه أخير صوت الست زينات محتفياً به فأذهله..وتراقص له الجذل أمام عينيه بدوائر هائمة على وجهها بين الأرض والسماء.. التقطت اذناه كلماتها وهي تجيب ببشاشة وترحاب: - واد يا عزالدين..فينك من زمان انت اختفيت فين؟..انا سألت عنك ما حدش يعرف عنوانك..اسمع تقدر تجيني البيت دلوقت؟..انا مستنياك.....هديك العنوان...يلا اكتبو عندك.. لا يذكر ما دار بينه وبين الست زينات على وجه التحديد على الهاتف..كان بين الحلم واليقظة يمخر في عباب أمل خافق بالغبطة..يرفل بكل أثواب الطموح...ربما يعي أنه كتب عنوانها على الورقة التي انتزعها من دفتر حساب الكشك الذي وجده وهو يتحسَّسُ ما أمامه كالأعمى على طاولة العم مدبولي...والى جانبها القلم..وأنه هرول الى الشارع العام ليركب أول تاكسي ويمليه العنوان على عجل..وأنه ترجَّل من التاكسي أمام العمارة الشاهقة الفخمة التي تسكن فيها الست زينات..وأنه أصبح كخطف البرق في المصعد متوجهاً للدور الخامس..وها هو يقرع الجرس بتؤدة وحرص وقلبه يدق.. فتحت له الست زينات الباب..كانت المرة الأولى التي يراها فيها غير متبرِّجة..ترتدي قميص نوم أخضر طويل يكشف قليلا عن جزء من نهديها..وفتح فاه بدهشة فاقت كلَّ توقعاته..فقد اكتشف لأول مرة أن الست زينات جميلة...أجمل بكثير مما بدت عليه في كل الأفلام التي رآها فيها حتى في شبابها.. بل أكثر اغراء ودلالاً..في قميص نوم مغرٍ يمسح عنها شبح الكبر..ويعطيها هالة من الأنوثة الفائضة.. ابتسمت وهي تدنو منه لتقبِّله على جبهته..وهي تتمتم بكلمات الترحيب والود القلبي من غير أي تكلف : - وحشتني يا واد...ايه الغيبه دي كلها... ارتطمت يده اليمنى بثديها الأيسر وهو يقترب منها ليمدَّها للسلام...فسرت في بدنه رعشة تنتاب طفلاً صغيراً عندما يستكشف لأول مرة في حياته أمراً جللاً في خارطة طفولته..فقد لاحظ أن نهديها كبيران يضجَّان بالشباب والتمرد..رغم ـأنها قاربت على الستين عاماً..ضحكت بودٍّ فطري زاد من حماسته وقد خالها لفرط فرجخ بأنها تقرأ ما يدور في خاطره من أفكار وما يجيش في صدره من أحاسيس تنأى منطوية على ذاتها..ودعته للدخول.. وكان الدخول بمثابة الدخول الى الجنة ...فبيت الست زينات هو الجنة بعينها..والتي نصبها الخالق في احسن تكوين..ودخل وقد انجاب عن نفسه الضيق والهم...وكأن الفقر بات ذكرى بائدة.. والحلم يميس من تحت هدبه يكحِّل أشجانه..كل ما في المنزل وثير مثير مدهش مغر للبقاء فيه وكأنه دوح هرَّبته حوريات الجنة الى الأرض.. جلس على أول أريكة صادفته..وكان يلهث كمن قضى عمره يعدو في مسارب الدنيا..حتى آذنت شمسه بالأفول فالتحف غلالة المساء فانتحى ركناً بعيداً منصهراً بآخر أنفاسها.. لم يكن لهاثه تعباً ولا أرقاً..كان يجمع بين البصر والبصيرة..فبصره معلّق بجسد الست زينات وبمنزلها المبهر..الذي خطف أنفاسه..وبصيرته مشغولة عنه بحلمه الأبدي يسري فيها دبيب الحياة التامة..والبصر والبصيرة كالليل والنهار...عندما نبصر بمآقينا نتقلب في مهد الخيال الذي يجلب أطياف وهم وأضغاث حلم..وعندما نبصر ببصيرتنا يتناهى الينا بريق الحق ووهج الواقع...فنحتار بين الخيال والواقع..بين الليل والنهار...فلكل وقع يطوي سحب المدى ويعود لعرش الله..ولحضن الانسان.. جلست الست زينات الى جانبه..ترمقه بمحبة وابتسامة ذاوية من التجاعيد التي انتصبت حول الثغر تصبُّ كدماتها المتأرجحة بخطوط دقيقة..وقد عاث الصبح بذاكرتها قليلا فانتفضت من الأغلال التي تأسرها كلما تذكّرت وهج الماضي ونجوميتها فيه وكيف خَبَتْ كالنجم الذي يغادر ليله بعد أن كان له السراج الوهَّاج.. لقد علمتها الحياة بأنه قد تقطِّعنا خيبة الهوى (هوى الحياة) الى نصفين.. نصف مكلوم .. ونصف مهزوم.. لكن الأمل هو الذي يحيينا ويجمع نصفينا......ليكون جناح الجراح.. يربط جذعنا في البيداء .. ليحليها دوح امل ....ومحراب صمت.....وانشودة مساء...وسرُّ اهتمامها بذاك الفتى الجالس أمامها كعود القصب المترنِّح وسط الرياح بأنها ترى نفسها فيه..ترى ماضيها وفقرها وعوزها و..حلمها..وترى التهالك المفرط من أجل أن يتحقق هذا الحلم. لقد كان عليها أن تحافظ على ما تبقّى من هذه النجومية التي آلت للشحوب..بأن ترتِّبَ أدوارَها لتناسبَ سنها...فعندما يتغضّن القلب ويتهدّل على مفارق الشوق لما غبر.. وتدمدم براكين الحنين لتهزَّ وجدانها.. يئنُّ الجرح من مقبض الشريان ساطعاً كالنور.. ليفسح لتسابيح الكرامة بأن تتلو صلواتها.. فتدوي جلبة الماضي بذكراه الحبيبة.. ويتراءى لها الغد حيّاً.. شاهداً على ابتسامة آتية لا محال...أمحتوم عليها أن تخيّر بين الدمعة والابتسامة ام تراهما محتومان عليها؟...وحدها الكرامة تفك قيودها وتبلسم جروحها ...وتعلن انعتاق الروح...وكرامتها تكمن في عطائها الفني..ليدافع عنها..تماما كما تدافع قصيدة الشاعر عنه وتنزِّهه عن أي خطيئة...واحساسها أن دوراً كبيراً ما زال في انتظارها يحثُّها على المثابرة والتجرد من أنين اللهفة للأمس.. لقد سمعت الكثير من الكلام الجارح المُجحف بحقها كفنانة كبيرة كانت تطأطئ لها الرؤوس وتلتهب لابتسامتها الأيادي تصفيقاً..وهي لا تستحق ما يترتَّبُ على ما جناه عليها القدر من الشيخوخة المحتمة ما دامت ما تزال في عزِّ عطائها.. لطالما ردَّدت لنفسها بأنها راسخة في قلوب الجمهور مهما سفك الزمن من شبابها وأخذ من عمرها وهذا ما رسخها في تلك الأرض رغم وعورتها..وجعلها تستمر في عملها رغم انها لا تعوز المال ولا الشهرة..لكنها تعشق الفن وتشتاق له ولحفيف شوقه تراتيل الظلام... ولهبّات الأمل فيه توق الأحلام...يعربد صمت ويزفر نجم..لتسافر لتسابيح تتكور من المهد الى اللحد..في محاجر الدياجير والضحى..كم حاول البعض السخرية منها لأنها باتت من ممثلي الدور الثاني ولكنها لا تعبأ بدور البطولة ما دامت قدمها راسخة في عالم الفن السحري..وما دامت ما زالت على قيد الحياة. وحبها لهذا الفن لم يكن يوما من طرف واحد..فقد سخَّرت له حياتها وكل وقتها وتفاصيله..فذاد عنها الكرب والجوع والحزن والتسكع.. فالحب بعطي صحيح ولكنه بحاجة أن يأخذ تماما كالنبات.. عندما نسقيه الماء ينتعش ويرتوي ويكبر.. لكن ان أهديناه القحط والجفاف مات واندثر.. لهذا من لا يسقينا عاطفة وحنانا لا نزدهر في دوحه ابدا... وقد أهدت الفن حياتها فأهداها الأمان...وكان من الأجدى لها أن تكتفي بما حققته من نجاح ورونق..لكن عشقها له كبير لا ينتهي الا بالموت..الموت الروحي وليس السريري.. ولهياكل الحب هذه جروح وقروح.. تندى منها العين ويتشقّق بها القلب.. الحب وهم كبير رغم أنف عقولنا يقترف فينا هولاً... يخدر حواسنا الى حين.. حتى يغشاها الألم فيرديها صريعة الذكريات...والوجع.. والهذيان. ..فالنسيان موت.. والبقاء موت..وبين الموت والموت نشيد ضريحنا.. كيمامة يصرعها العشق فتهوي ... لأنها تهوى! ولكن هوى الست زينات بالفن يختلف عن الهوى بين عاشقين..فلم يؤلمها هذا الحب قط في حياتها ولم يرهبها أو يسلبها دمعة قد تفرُّ جرحاً وخيبة..بل عزَّزها وارتقى بها الى مقام عال..لم تكن تحلم به..لهذا اكتفت بهذا الحب...ولم تغدق به لأي كائن بشري..بل حصرته في عملها فقط وفي عطائها له وفي أخذها منه..وحاصرها هو بعناق أبدي لا تتحرّر منه إلا إلى القبر..فهي عاشقة الفن ومعشوقته.. عادت الست زينات ترمقه بعطف وقد رأت معالم ماضيها في تقاطيع كيانه.. لم تنتظر منه جواباً عندما سألته ان كان جائعاً..بل وجدت نفسها في المطبخ تحضٍّر له طعام الافطار بكل حب وطيبة خاطر..كأنه ابنها العزيز الذي عاد اليها بعد غياب..أكلا سويّاً..وضحكاً..كان يلهو بنظره بمعالم جسدها الذي اكتشف جماله لأول مرة..وكانت تعانقه بنظراتها كأنه ولدها الذي تبنّته وشرعت في تربيته..سألها بعد تردد: - ست زينات..وحشني التمثيل قوي..ما فيش دور صغير كده ممكن انفع فيه..؟.. ابتسمت في سرِّها وهي ترى طفولتها فيه..نفس لهفتها وتهافتها لأي دور تَنْفُذُ من خلاله للغير وتنفِّس عن موهبتها الجميلة.. أجابت وهي تبشره بصوت مرح عميق النبرات: - طبعا يا واد فيه..وفيه ادوار كتيرة جاية في السكة..حضّر نفسك.. لم يكن من الصعب على الست زينات ان تقنع المخرج بعز الدين..فقد كان الشاب موهوباً بالفطرة..لكنها كانت قلقة عليه بسبب وضعه المادي الصعب الذي يسيل له الحزن حزنا!!.. بيد أنها صمَّمت على أن تمدَّ له يد العون حتى تنتشله من بؤسه..وحتى تساعده ما وسعت في تحقيق حلمه الذي يتشبث به تشبث الغريق بخشبة تطفو على سطح الماء وبيدها خلاصه. ومنذ تلك الزيارة لبيت الست زينات..تبدَّلت حياة عز الدين الادريسي..توالت الأدوار وتشعَّبت وكبرت..من مشهد لبضع ثوان الى عدة مشاهد في الفيلم الواحد..بات وجهاً شبه معروف في عالم الفن...لكن حلم الشهرة المطلقة ما برح يطارده وهو يتشبث بحدقتيه في وجوه أبطال الفيلم كأنه يصرُّ بأنه يفوقهم قدرة وموهبة وحباً للتمثيل وجدارة واستحقاقا بما يتميز به من الموهبة الحقيقية. لكنه ما زال يعاني...يعاني الفقر والهلع من اليوم الآتي..فكيف يتملّص من تلك القيود التي تحيق برقبته وتمعن فيها ذبحاً؟.. ان ما يجنيه من التمثيل لا يكاد يكفيه مصروف شراء ثياب او بدلة جديدة لفيلم جديد..وما يكسبه من بيع الخضار ينفقه على أمه واخوته..فكيف يسمو بحلمه الى هذا الحد من الرقي وهو محبط محض محبط؟... مرّت ست سنوات..وأصبح في العشرين من عمره..واستطاع أن يتخرج من المدرسة رغم تعثّر الأمر بالنسبة له سنة كاملة بسبب وضعه.. كانت زياراته للست زينات جزءاً من روتين حياته في تلك الفترة..فقد كان ينتظر عطلة آخر الأسبوع ليهرول اليها لاهثاً كعادته..وبريقٌ غريبٌ يشعُّ من عينيه..وحبٌّ أمومي ينطلق من عينيها..هي ترى فيه نفسها وهو يرى فيها حلمه..وشبابه..هي تبصر فيه ابناً لم تنجبه وهو يبصر فيها امرأة جميلة..وطاقة نور فُتحت له حتى يعبر بها إلى درب الفن.. الى أن أتت...ذات يوم... تلك الفرصة التي انتظرها أعواماً كثيرة بل ربما خُلق لانتظارها..ولكي يصبو لها ويحتضر بها.. كان عائداً من زيارة الست زينات وهو يخطو مسرعاً في حيّها الراقي الجميل.. فقد كان يوماً خريفياً دامساً بليله..مجحفاً بريحه..مثقلاً بالأسى..ولمحها تتبختر في سيرها بدلال..تبللُ حبيبات المطر أطراف رموشها..الدمع الثائر المجنون. كان الترف ينضح جليّاً من ملامح وجهها..وقد تألّقت عيناها ببريق الراحة..ربما هي راحة الشبع التي يتمتع بها الأغنياء..فلا أفواه مفتوحة تلحُّ كل يوم عليها بظلالها حتى يخفق القلب مُروَّعاً بخوف الجوع..ولا وسادة ممزقة تتقلب فوقها رؤوس هدّها الزمن قبل أوانها..ولا آلام ولا وجع ولا ضيق ولا تعب...لعالم الفقر حرمة شجون لا تطالها أرواح الأغنياء ولا تدرك فاقتها أو تعاستها بحال.. اجتاحته نسائم الفضول وتحرَّكت في باطنه الرغبة التي تلحُّ عليه في أن ينخرط بهذا العالم المخملي..عالم الرقي..لكن رقعة السواد التي غشت قلبه تسدُّ عليه الطريق..كالطبلة الجوفاء أحلامه لا يُسمع لها صدى...فتابع سيره منكساً رأسه.. ولدهشته سمع صوتاً رقيقاً من خلفه..يقول: - مش انت عز الدين الادريسي الممثل؟.. التفت فوجدها هي..ينسلُّ صوتها كالبوق منبهراً بعتمة الليل وبه..وعيونها مُدجّجة بالانبهار..وهي تبتسم بلطف وتودد.. أجابها بصوت مختنق من الفرح: -اه صحيح انا هو..أهلاً وسهلاً يا فندم.. كان مصدر فرحته وهو يحدِّقُ بها بأنها عرفته..عرفته رغم كل ما تمتلكه من حياة منّعمة مهرّبة من فكِّ الفقر واليأس والحرمان..لم تعرفه فقط بل هي أيضا معجبة به.. وقد التمس هذا من نظراتها التي تسبر غمائم كَلْمِهِ بحماس.. ولم يعر التفاتاً بأنها ليست جميلة...وبأنها تميل للسمنة..وأن مساحيق التجميل التي تضعها على وجهها تروم مع رذاذ المطر على ثنايا وجنتيها ومن فتحة جفونها وتفضح البثور التي تملأ وجهها..وبأن أسنانها الأمامية عوجاء تميل الى الاصفرار..كل ما شغل فكره في تلك الليلة هو ما وراء تلك الفتاة من حسب ونسب و..مال!!... كانت النار مستعرة في جوفه رغم برودة الطقس وغدت سماته تنمُّ عما يجيش في صدره من حماس تسرّب اليها فغدت تتكلم بجرأة وتقهقه معه ضاحكة تحت وقع المطر الذي يغمر أكتاف المدينة ويتهالك عند مفارق الطرقات.... ومن كلمات قليلة عرف بأنها تقطن هذا الحي الراقي واسمها آمال.. وأنها من عائلة مكونة من أربع أفراد..الأب والأم وهي وأختها فقط..وأن أباها مقاول كبير في السوق..لكنها لم تحظ من العلم سوى القليل..لكرهها له..وعدم تقبُّله رغم كل ما وفّره لها والدها من سبل التعليم..وأنها تهوى الطبخ..ومشاهدة الأفلام.. فتاة تقليدية بكل ما في في الكلمة من معنى... وجرَّ الحديث بعضه..واندمجا في الكلام كأنهما يعرفان بعضهما من زمن بعيد..وقد اعتمد أن يتحدث معها بتلقائية حتى تطمئن إليه..وكانت جريئة مندفعة متحمِّسة نحوه وقد لفتها وجهه الوسيم الجذاب وقوامه الطويل المتناسق..تواعدا على لقاء آخر قبل أن يودِّعها، في مقهى يطل على النيل في اليوم التالي..ولم ينم ليلتها وهو يستحضر الكلام الذي دار بينهما..ويتساءل عما سيقوله لها..وحضر مبكراً في اليوم التالي إلى موعده..باسطاً كفَّيه للغد الذي يلوح له بابتسامة أمل تحضره وهو يترقب مجيئها..بعد أن اغتصب الشحوب وهلع الفاقة من قلبه الابتسامة.. ورآها بوضوح عندما أقبلت تزهو في سيرها كأنها قدمت لتوها من كوكب الزهرة..وطغت عليه الخيبة عندما تمعن في وجهها على ضوء النهار المبهر بشمسه التي تجلو الرؤيا في كل ما هبَّ ودبَّ على وجه الأرض.. استعارت انتباهه بعد أن جلست قبالته شامةٌ غليظةٌ نبتت على خدِّها الأيسر لم يرها الليلة الماضية لفرط حماسه وراعته عروقٌ سميكةٌ نبتت في رقبتها..وقد انحدر من فوقها ذقنها المتعرج..الذي يميل للطول كما وجهها الذي يرصِّعه جبينٌ عريض بعيد عن العينين الغائرتين الصغيرتين وكأنه نصب نفسه وجهاً آخراً بملامح وتقاسيم أخرى!!..أما أنفها فكان مقوَّسا يشي بالعناد اللامتناهي..وينصبُّ عليهم جميعا لون البشرة القمحي الحالك... كانت غير جميلة..بل تميل للقبح..لكنها تخال نفسها جميلة وتتشبَّث بثقة عالية بنفسها..تزيدها قوة وانبهاراً بذاتها وقد حارب أفكاره الأسيفة بكل ما أوتي من شحنة طمع بالغد الموعود الجميل الذي يفتح له ذراعيه من خلالها.. طغت عليه رؤى الأماني ووشوشات الأمل..وقد حَفَّتْ به حاشيةٌ من ظلال التساؤلات..هل يبادر من فوره ببوحه لها بحبه؟..أي حب؟..ضحك في سره وكاد يقهقه بصوت عال يخترق حجب الضباب الذي يحتشد في رأسه..هو لا يحبُّ أحداً الا نفسه التي تصرخ فيه أنت حي..الا أمه التي تعاني في الظلمة قهر الدهر..وعائلته التي تتضور جوعاً..وألماً..وذلّا...واخوته الذين يشقون في تلبية طلبات أهل العمارة الذين يغدقون عليهم بالقليل ويأخذون الكثير من صحّتهم ووقتهم وكرامتهم واتزانهم..ولا يتبقَّ لهم غير لقمة العيش يتناولونها آخر الليل.. هي تبرق كالنجم الزاهر في عينه ويرى فيها طوق النجاة الذي ينتشله من عالمه السفلي الذي يلقي اليه بالعطف والشفقة ويتلفع بالفقر المدقع الى عالم شاهق العلو يرمقه الكون فيه بكل احترام وخفر..يغفو ويأرق فيه وقتما يشاء.. وقرَّر أن يصارحها بوضعه المزري من البداية..وبعد أن تحدَّثا عن الطقس والسينما والفن وطلبا القهوة وشرباها وتغنّى بها قليلاً وبجمالها "المفترض"..بدأ كلامه عن نفسه وماضيه..وحكى لها كل ما يتكبَّده من عناء من العمل الدؤوب لتأمين لقمة العيش لعائلته وكيف يحاول التوفيق بين عمله ودراسته وموهبته..والبؤس الذي يكتفنهم ويطوف بهم في دنيا الشرود والقلق..وموهبته التي تلحُّ عليه ولا يجد بعد الفرصة المؤاتية للعب دور رئيسي في فيلم أو مسلسل ما..وتكلم وتكلم وهو ينظر في عينيها الضيقتين.. لكن النفور ما لبث أن طغى عليه بعد أن لمح نظراتها الثاقبة المشمئزة التي تكاد ترجوه ان يعفي لسانه من الاسترسال بالكلام..كأن فقره قد هالها أو خيَّبَ من تطلعاتها له كممثل موهوب في مقتبل العمر..كأن السينما في نظرها تعني الجاه والثروة من أوسع أبوابها..حتى لو كان الممثل ما زال في خطواته الأولى في الفن. فبُهت عندما قالت له بصوت جاف نضب منه الاحساس: - انا لازم امشي دلوقت.. لكنه ابتسم في وجهها وأجاب بخفة وبساطة: - مع السلامة.. لم يحاول ان يستوقفها أو يسألها عن موعد جديد..فقد حفرت في مهجته جرحاً جديداً..كأنها تعيده باشارة منها لواقع عالمه السفلي وتدهسه بقدميها..وتسقيه مرارة الكون كله..وتقول له أنت لست حياً..أنت ميت ميت ميت.. شعر أنه كبر أعواماً وأن الشيب قد احتل ببراثنه مساحة فوديه..وأنه هَرِمٌ لا يقوى على الزمن..وهو ميّتٌ لا محالة.. لكنه استجمع ما تبقّى من كرامته وقال لها وهي تمدُّ يدها لتتناول حقيبتها وتهمّ بالانصراف: - شوفي يا آمال..أنا فقير صحيح.. بس أنا كبير وغني بالعقل والموهبة والشهامة والرجوليه..وما فيش داعي تتصرفي بالتفاهة ديه.. آنس منها تردداً بعد أن تبدَّلت ملامح وجهها..واعتراها نوع من الدهشة التي تمتزج بالاحترام..وكأن كلمة رجولية منه قد حرَّكت من نوازع نفسها ذروتها.. خيٍّل اليها انه الممثل الذي تراه من وراء الشاشة بكل عنفوانه وقوته وصراحته و..شبابه الفذ العميق..وأنها أمام اجمل دور مثّله ممثل في حياته.. عادت الى جلستها وقد تقيَّدت بذاك الانجذاب الخفي الذي ينبع من نفسها وينصُبُ منها تمثالاً حيّا بالحس والاعجاب حيال هذا الشاب الغامض.. أخذ بيدها وقد تسرَّب اليه احساسها بالضعف والاعجاب..وضغط عليها..فندت منها آهة مبعثرة..كأنها المرة الأولى التي ينتابها ذاك الشعور..الشعور بالآخر.. همس لها باعجابه بعد أن تقارب رأساهما بتلقائية فوق مجمرة الوله..وشعر بأنوثتها تفيض من يدها التي استسلمت لراحة كفِّه كمثواها الأخير.. رأى في تلك اللحظات فرصته..فسألها بما يشبه المناجاة: - ايه رايك نتقابل في مكان..نكون فيه لوحدنا..؟.. هاله ردها الفوري الذي انبعث من عطش الجسد الذي لم يرتو بعد..ومن عواطف متقِّدة لم تجد من يؤججها..وفي جرأة تميل للوقاحة سألته: - ايوا بس فين؟... وخطرت له شقة صديقه بدر الدين الذي سافر إلى سويسرا لاكمال مدراسته الجامعية وسافرت معه أمه بعد أن توفي أبوه منذ سنة ..وكان قد سلّمه مفتاح الشقة قبل سفره لينظِّفها ويهتم بها في غيابه..لثقته المفرطة به كصديقه الحميم المقرب منه والذي يعتدُّ به ويعتبره اكثر من أخ وأغلى من صديق. وضرب لها موعداً هناك..فهو ان سيطر على جسدها سيسيطر بلا جدل على حواسها وقلبها وعقلها وأفكارها..وسيربط مصيرها بمصيره حتماً..ويسيِّرها وفق ما يترتب عليه مصيره..ليصل الى ما ينشده ويصبو اليه.. وانتظرها بعد ظهر اليوم التالي في شقة بدر الدين..وتساءل ان كانت ستفي بوعدها وتأتي اليه أم أن الخجل والتردد سيفعلا فعلتهما بها ويمنعاها من المضي على ما عزما عليه...فترتبك أحلامه ويرتطم أمله بصخرة الخيبة.. ــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية صادرة عن دار سما للنشر والتوزيع 2015م. نسرين بلوط شاعرة وروائية لبنانية، لها من الشعر ثلاث مجموعات: أرجوان الشاطئ صادر عن دار لبنان للطباعة والنشر عام 2010. رؤيا في بحر الشوق صادر عن الجزائر عام 2011. ومهربة كلماتي اليك صادر عن دار مكتبة التراث الأدبي 2013. و رواية بعنوان مساؤك ألم صادرة عن دار سما للنشر والتوزيع 2015 Email: nessrineballout@hotmail.com

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم