زيزفوس، هذا هو اسمي، أو فلنقل واحد من أسمائي. فالمسمّى يتغيّر بحسب المسمّي ولغته. ستتساءلون: أنّى لي أن أعرف هذا وأنا شجرة لم أتحرّك من مكاني قطّ مذ كنت بذرة؟ أولا تعلمون أن للأشجار منطقاً، كما للطير وللإنسان؟ وأنّا نخاطب بعضنا البعض كما تفعلون. لو أصغيتم لسمعتم الريح تنقل ما تقوله أغصاننا لأغصانِنا. حتّى جذورنا تنادي في الأرض إلى أن تسمع عرق شجرة قريبة، أو بعيدة، يرد عليها. لا أذكر زمناًَ لم أكن فيه ها هنا، في هذه البقعة. لكنّي لم أكن وحيدة.فهنا كان بستاناً عامراً. وكنت محاطة بأخريات. بنات النارنج والبرتقال والنخيل. ثم جاء يوم سمعت فيه عويلاً من بعيد. سمعت صراخاً أليماً تبثّه جذور تُقتلَع وأغصان تُكسر. وجاء البشر بآلاتهم تلك. ظننتُ أن مصيري محتوم. اقتلعوا كل أشجار البستان ولكنهم أبقوا عليّ وعلى عدة نخلات. سمعتْ واحدة منها بكائي في المغرب، بعد أن رحل البشر. فهمستْ: لا تخافي يا سدرة، لن يقتلعوا أمثالك. كنتُ صغيرة يومها ولم أكن أفقه الكثير من أمور الشجر أو البشر. سألتها بصوت خافت خائف: ولِمَ؟ فقالت: كتبهم المقدّسة تذكرنا وتذكر أمثالك بخير. يخافون أن يصيبهم مكروه إن هم اقتلعوا سدرة. فكفكفي دموعك يا صغيرة. لم أصدق تلك النخلة العجوز يومها. ظننت أنها خرفة. وظننت أنهم سيعودون في الصباح لذبحي وإطعام أشلائي لتنّور أو كانون. لكن العجوز كانت على حق. بعد أن جرفوا جثث الأشجار الأخرى وحملوها بعيداً، أخذوا يقيسون المكان ويعاينونه ويتركون علامات على الأرض. ثم حفروها وأنا أراقبهم. جاءوا بتلال من الطابوق والرمل والإسمنت. وأخذوا يعملون كالنمل. عمروا بيتاً شاهقاً حجب عنّي النخلة العجوز التي لم أعد أراها. لكني كنت أسمعها تخاطب نخلة أخرى أبعد. وظلت تسألني عن حالي بين حين وحين. بعد أن انتهى البيت جاءوا ببستانيّ ليغرس بذور أزهار وشتلات حول مستطيل زرعوه بالثيّل. وتعجّبت من بني البشر هؤلاء. يقتلعون الأشجار من ترابها ثم يعودون ليزرعوا مثلها من جديد. وكبرت شتلات البرتقال والتوت والتين لكنني كنت الأطول والأكبر. وكبر أطفال ولدوا في البيت وأخذوا يلعبون تحتي في الحديقة. كانوا يطلبون من أبيهم أن يهزني حين أكون محمّلة بالنبق ويتلذذون بثمري الذي بدأت أحمله منذ سنتي الثالثة. يحكّون قلفي مندهشين من الصمغ الذي يلفظه جذعي. يستظلون بي ويقرأون ويلعبون تحتي. يدافعون عنّي حين يأتي صبية آخرون ويلقون بالحجار على أغصاني طمعاً في ثمري. وعندما كبروا أخذوا يهزّونني بأنفسهم فأطعمهم، ويشكرونني فأزيدنّهم. وأمضيتُ عمراً هنيئاً كنت فيه أميرة الحديقة. يتغذّى النحل على رحيق أزهاري. وتعشعش الطيور أحياناً على أغصاني. تحسدني الأشجار على مكانتي وطولي. ولعله الحسد أو القدر الذي كاد يقتلني. هما والنمل الأبيض الذي غزا جدران البيت وأثاثه. إذ استوطنت الملكة التي يأتمر النمل بأمرها بقعة خلف البيت. لكن الخبير الذي جاءوا به أوهمهم أن عرش ملكة النمل الأبيض تحت جذعي ونصحهم بقتلي. أصبت بالهلع عندما سمعته يقول ما قاله لصاحب البيت. تذكرت كيف ذُبحَت كل الأشجار التي كانت في البستان عندما كنت طفلة وقبل أن يكون البيت. عندما طلب صاحب البيت من البستاني بعدها بأيام أن يتخلّص مني رفض رفضاً قاطعاً. «حرام» قال له. لأنني شجرة الجنة. «عند سدرة المنتهى، عندها جنّة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى. النبي، صلوات الله عليه، چان يغسّل أيده بأوراقها.» صرخت أنا من خوفي «ملكة النمل الأبيض ليست تحتي، بل هناك في حديقة بيت الجيران.» لكنهما لم يسمعاني بالطبع. أصرّ البستاني، الذي كنت أعرف أنّه يحبّّني، على موقفه. وقال إنه لن يعتني بالحديقة بعد اليوم. وحذّر صاحب البيت مرة أخيرة قائلاً له إنّ كارثة ستضرب البيت وأهله إن هم مسّوني بضرر. أجاب صاحب البيت أن الكارثة ضربت البيت منذ زمن. فجيش النمل الأبيض التهم الأثاث والكتب وشوّه الجدران ولابد من القضاء عليه. هزّ البستاني رأسه ومشى إلى دراجته التي كان قد ركنها بالقرب من باب الحديقة. فتحه وركبها وهو يردد: «وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود وطلح منضود.» ركب دراجته ورمقني من الشارع بنظرة حزينة كأنّّه يودعني ثم ابتعد. اختفى صاحب البيت وعاد بعد ساعة وبيده فأس شرسة. وانهالت الضربات على جذعي. مزقتْ قلفي وجرحت لحائي، لكني صمدتُ. كنت أصرخ من الألم والتوتة والبرتقالات تبكي حزناً وخوفاً. تضرّعتُ قائلة «يا سيدي، لا ملكة تحت جذعي.» لكنه لا يسمع. بعد مئات الضربات، تعب وتوقف وترك الفأس بجانب جذعي ودخل إلى البيت. وبتّ ليلتها أئن من الألم والحزن وجاراتي يواسينني. في اليوم التالي عاد ومعه منشار ضخم ربط ذيلاً يمتد منه بنقطة في الجدار. وعندما استنفره أخذ يصدر زمجرة مرعبة لا تتوقف. قرّبه من موضع الجرح في جذعي وشعرت بمئات الأسنان الحادة تفترس لحائي وتخترق قلبي. بهتت الألوان واسودّت الدنيا. سمعت الرازقي والآس والجمبذ، كلها تبكي معي، وعليّ. انكسر جذعي ومال النصف العلوي من قامتي. وهوت فروعي وأغصاني في الحديقة. لم أعد أرى شيئاً. وكنت أصرخ فلا أسمع صوتي ولا ما أقوله. ولا تسمعني شجرة. فأغصاني لم تعد لي. ولم يبق إلا نصف جذعي المجروح وقلبي الممزق. ولم تكن هذه النهاية. فقد جاء بعدها وزرق قلبي وما تبقى من أحشائي بسائل كريه الرائحة وأغرق الأرض حولي به حتى اختنقت عروقي. سمعتهم يجرجرون أغصاني ويكسرونها ويحمّلونها بعيداً. وظننت أنني كنت أحتضر، لكنّني لم أمت. عمياء، خرساء، بلا أغصان ولا ثمار. لكن روحاً منّي ظلّت هنا. تبخّر السائل الكريه وغسلته الأمطار. ومرت السنين. ربطوا ذات مرة خروفاً حين تخرّج ابنهم من الجامعة بحبل حول جذعي، ما تبقى مني. كان خائفاً كأنه يعرف مصيره. حسدته وقلت في سرّي: أنت ستذبح وتموت. أما أنا فقتلت منذ سنوات ولكنني لا أستطيع أن أموت. ثم جاء يوم سمعت فيه السماء تنكسر وتنهمر منها الحمم. كأن قاع الجحيم قد انهار. اخترقت ما تبقى من قلبي شعلة أضرمت النار فيّ. خفت لكنني استبشرتُ خيراً، فهذا الجحيم سينهي موتي الذي بدأ منذ سنوات. ظننت أن روحي ستحلّق إلى الجنة، راضية مرضيّة، عند أختنا الكبرى، سدرة المنتهى. لكنني ما زلت هنا أحوم حول ذكراي. وأشعر كأن جذعي ما زال هنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية صادرة حديثاً عن دار الجمل في بيروت - بغداد. سنان أنطون روائي وأكاديمي عراقي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم