كيف أستطيع أن أتذكّر ذلك الآن؟ أين أنا؟ أعبر من خيالات ضبابية إلى أوضح الصور المنزلية، وأرى صمتاً شاملاً مطبقاً. لا أشعر بشيء خارج جسدي، بل كان كلّ شيء في داخلي. أحاول أن أحرك إصبعاً، يداً، ساقاً، لكنني كنت كمن لا جسد له. كما لو كنت أطوف في العدم وأنزلق باتجاه الهاوية. هل خدّرني أحد؟ من؟ كيف أتذكّر أين كنت آخر مرة؟ إذ يتذكّر المرء عادة عندما يستيقظ ماذا فعل قبل أن يخلد إلى النوم، حتى إنه يتذكر أنه أغلق الكتاب ووضعه على الطاولة الصغيرة بقربه. لكن يحدث أحياناً أن تستيقظ في فندق، أو حتى في بيتك بعد أن تعود من رحلة طويلة، وتبحث عن الضوء إلى يسارك بينما يكون إلى يمينك، أو أن تحاول مغادرة الفراش من الجانب الخاطئ، معتقداً بأنك لا تزال في المكان الآخر. إني أتذكّرها وكأنها كانت ليلة البارحة، قبل أن أغط في النوم بينما كان أبي يقرأ لي الفرسان الأربعة، أعرف أن ذلك، لا بد حدث قبل خمسين سنة، لكنني أسعى جاهداً لأتذكر أين كنت قبل أن أستيقظ هنا. ألم أكن في سولارا وبيدي أول مجلد لشكسبير؟ ثم؟ لقد وضعت أميليا مخدّر L.S.D. في حسائي وها أنا أتأرجح هنا، في ضباب يعجّ بالأشكال والهيئات التي تظهر من كلّ ركن مظلم من ماضيّ. يا لغبائي، ما أبسط الأمر... فقد تعرضت إلى حادث آخر في سولارا. ظنوا أني متّ، وواروني الثرى، وأفقت داخل القبر. الدفن حيّاً، سيناريو كلاسيكي. لكنك في مثل هذه الحالة تهتاج، تحرّك أطرافك، تطرق على جدران صندوق الزنك الذي تقبع فيه، تلهث طلباً للهواء، مسعوراً. لكن هذا شيء مختلف. لا أشعر بأني جسد، وأنا هادئ إلى درجة كبيرة. أعاني من هذه الذكريات التي تعتريني فقط، مستمتعاً بها. فهذا لا يشبه طريقة صحوك في قبر. إذن لا بد أن أكون ميتاً وأن الحياة الأخرى هادئة هكذا، منطقة مملّة سأعيش فيها حياتي الماضية إلى الأبد وسيكون حظي سيئاً إن كانت رهيبة (فذلك سيكون جحيماً)، وإلا فإنها ستكون فردوساً. أوه هيا! قل إنك ولدت أحدب، أعمى، وأخرس أصمّ، أو أن الذين أحببتهم ماتوا وتساقطوا كالذباب من حولك: الأبوان، الزوجة، ابن عمره خمس سنوات - هل هذا يعني أن حياتك الأخرى لن تكون سوى شيء مكرور، مختلفة لكنها مستمرة، عن كلّ ما عانيته في حياتك الدنيوية؟ أن الجحيم ليس les autres (الآخرين)، لكن أثر الموت هو الذي نتركه حيّاً؟ حتى أقسى الآلهة لا تستطيع أن تتخيّل مثل هذه المصير لنا. ما لم يكن غرانيولا محقاً. غرانيولا؟ أظن أنني عرفته ذات مرّة، لكن ذكرياتي تتدافع وتتصارع ويجب أن أرتبّها، أصفها في رتل واحد، وإلا فإني سأفقد نفسي في الضباب مرة أخرى، وسيعود المهرّج ثيرموجين. ربما لست ميتاً. فلو كنت ميتاً، لما شعرت بأية أهواء دنيوية، ولما شعرت بحبّ لأبويّ أو لما اعتراني القلق من التفجيرات. أن يموت المرء فهذا يعني أن تنتهي دورة حياته وتتوقف دقات قلبه. ومهما كان الجحيم جهنمياً، فسيكون بمقدرتي أن ألاحظ من مسافات فلكية ماذا كنت أنا نفسي. أن يُسلخ جلد المرء في حفرة تغلي بالماء ليس هو الجحيم. تفكّر ملياً بالآثام والشرور التي ارتكبتها، ولا تستطيع أن تحرر نفسك منها أبداً، وأنت تعرف ذلك. لكنك ستصبح روحاً صافية. وفي حين لا أتذكر فقط، فإني أرى أيضاً كوابيس، وأشعر بالمودّة والبهجة. لا أستطيع أن أحسّ بجسدي، لكني لا أزال أتذكّره، وأعاني كما لو كان لا يزال مستمراً. بنفس الطريقة التي يشعر فيها شخص بترت ساقه لكنه لا يزال يشعر بها تؤلمه. حاول مرة أخرى. تعرضت لحادث ثان، وهذا الحادث أشد من الأول. كنت في غاية الإثارة، للتفكير بليلا أولاً، ثم عندما عثرت على المجلد الأول. لا ريب أن ضغط دمي ارتفع كثيراً. فدخلت في غيبوبة. في الخارج، تراقبني باولا، بناتي، كلّ من يحبّونني (وغراتارولو، يشدّ شعره لأنه تركني أذهب في الوقت الذي كان ينبغي له أن يبقيني تحت مراقبة صارمة لمدة لا تقل عن ستة أشهر)، فيما أنا أغط في غيبوبة عميقة. أجهزتهم تقول إن دماغي لا يظهر أي دلائل على وجود حياة، ولم يكونوا يعرفون هل عليهم أن يسحبوا القابس الكهربائي أم ينتظروا، لربما لسنوات عديدة أخرى. تمسك باولا بيدي، وتضع كارلا ونيكوليتا بعض التسجيلات، بعد أن قرأتا في مكان ما أنك حتى لو كنت في غيبوبة فإن الصوت أو أيّ نوع من المنبهات أو المحفزات قد يوقظك فجأة. مجرد وهم، وباستطاعتهن مواصلة ذلك لسنوات وسنوات وأنت لا تزال معلّقاً بالأنبوب. وسيقول أيّ شخص لديه ذرة كرامة، لننه هذا الآن، كي تشعر هؤلاء النساء المسكينات أخيراً بأنهن يائسات لكنهن حرّات. أستطيع أن أفكّر بضرورة أن يسحبوا القابس الكهربائي، لكنني لا أستطيع أن أقول لهم ذلك. ومع أن الدماغ يغطّ في غيبوبة عميقة، كما يعرف الجميع، ولا يظهر دلائل على وجود أي نشاط، فإني أستطيع أن أفكّر، أحسّ، أتذكّر. لكن لا يظن الناس في الخارج ذلك. العلم يعرف الخطوط المستقيمة التي يظهرها جهاز الأشعة الدماغي، لكن ماذا يعرف العلم عن حيل الجسد؟ ربما كانت موجات دماغي تظهر في خطوط مستوية على شاشاتهم وأنا أفكر من أحشائي، من أطراف أصابع قدمي، من خصيتيّ. إنهم يعتقدون أنه لم يعد لديّ نشاط دماغي، لكن ما زال لديّ نشاط في داخلي. لا أعني القول إنه عندما تصبح خطوط الدماغ مستوية على الشاشة، فإن الروح لا تزال تعمل في مكان ما. بل إن ما أقوله هو أن أجهزتهم تسجّل نشاط دماغي إلى نقطة معينة. أما دون هذه العتبة فأنا لا أزال أفكّر، وهم لا يعرفون ذلك. لشدّ ما أتمنى أن أفيق ثانية لكي أروي لهم حكايتي، فقد يحصل أحدهم على جائزة نوبل في الجهاز العصبي ويلقى بتلك الأجهزة إلى القمامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ .(الرواية ستصدر قريباً عن منشورات الجمل)

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم