عشتار

مع إطلالة أبريل انهمر الربيع على أوتاوا دفعةً واحدةً، فتفتحت في حدائقها ملايين من زهور التولِب (التي أرسلت بذورها أميرة هولندية قبل مولدي ببضعة عقود، عرفاناً لاحتضان أهل المدينة لها في سنوات محنتها). ألوانها الساطعة، وأشكالها الشبيهة بقلوب مفتوحة تبعث في النفس بهجةً غريبةً بعد أن كدرتها الوحول، والمطبات الثلجية، والأمطار المنجمدة في الشوارع خلال فصل الشتاء المثلج الكئيب، الذي حوّل المدينة طوال خمسة أشهر إلى ما يشبه الإسطبل، والطبيعة الى سجادة بيضاء كبيرة، ذات إيقاع واحد رتيب، لا تكسره إلاّ الطرق الملتوية السوداء كأنها أفاعٍ أسطورية لا نهاية لها. مكثتَ ساعةً أو أكثر في تقليم العشب الذي استطال في الحديقة الخلفية، وحين أطفأتَُ الماكنة، وسكن هديرها المزعج كان طنينها لا يزال في أذني. استلقيتَُ على ظهري لأرتاح قليلاً فوقع بصري على غراب ضخم ذي عينين متوترتين كعيني هرة جائعة بين أغصان شجرة القيقب العملاقة، فتذكرتُ على الفور أبياتاً من قصيدة أحبها: "أيها الطائر، أو أيها الشيطان ارجع من حيث جئت، إلى العاصفة أو إلى شواطئ الظلام.. لا تترك منك في هذا المكان أثراً، ولا ريشةً سوداء تذكر بإفكك المفترى .. عُد ودعني لوحدتي، اترك التمثال فوق باب حجرتي انتزع منقارك الذي غرسته في قلبي، وابتعد عني.. " أخذ الغراب يركز نظره على بيتنا، ويحرك منقاره في حركة دائرية، فشعرت برعدة تسري في جسدي، وانتابني القلق، رغم عدم إيماني ببشارة الشؤم التي يجلبها هذا الطائر النحس. التقطت حجراً ورميته به فلم أصبه، لكنه طار بعيداً مخلفاً في أعقابه وريقات فاقعة الخضرة لم يكتمل نموها بعد، وهو ينعق بصوت غائم متهالك كأنه صوت بوق أثري. عدت إلى الداخل فوجدت سامر، على غير عادته في مثل هذا الوقت من النهار حينما يكون في إجازة من العمل، قد ترك الانترنيت في مكتبه وجلس في الصالة. راقبته من شبّاك المطبخ فإذا به يحدق بذهول إلى التلفزيون. ودفعني الفضول إلى الوقوف أمام الباب، الذي يفضي إلى الصالة، فسمعت مراسل الفضائية يتحدث، لاهثاً، وكأنه خرج تواً من ماراثون طويل. عقب مرور ساعة على إسقاط التمثال رأيت سامر يخرج بعض الأوراق، ويشرع في الكتابة، وما إن انتهى حتى عرض عليّ المقالة لقراءتها، فذهبت إلى المطبخ لإعداد فنجان قهوة يعيد إلى رأسي توازنه الذي أفقده هدير الماكنة. بدأت بالقراءة، بعد احتساء قهوتي، وفي داخلي تساؤل يكاد يقفز إلى طرف لساني: ما جدوى الكتابة عن حدث صاعق، مزلزل شاهده العالم كله حياً مباشراً بكل تفاصيله؟ غير انني لم أشأ أن أسأله كي لا أثبط من عزيمته، رغم اختلافي معه في وجهة نظره، فأنا كنت أنتظر هذا السقوط بأية طريقة، أما هو فكان يفضل أن يزاح، بطريقة ما غير دموية، من الداخل. في الليلة التي تلت دخول المارينز بغداد انهالت علينا المكالمات التلفونية من أصدقاء سامر وصديقاتي في غرب كندا وشرقها وجنوبها: فانكوفر.. أدمنتون.. هاليفاكس.. مونتريال.. سانت جوزيف.. تورونتو.. هاملتون.. وفي أميركا وأستراليا والسويد وهولندا وألمانيا... وحيثما توجد بلاد في قارات الأرض يقيم فيها عراقيون لاجؤون ومهاجرون، إضافةً إلى أصدقائنا في أوتاوا. كلهم أمطرونا بنفس الأسئلة وكأننا من جنرالات الحرب. وكانت الوحيدة التي تكلمت معنا في موضوع مختلف تماماً هي صديقتنا آنيا. كانت تتحدث بحزن عميق، وتكاد تختنق بعبراتها وهي تنقل إلينا خبر مقتل أخيها جون، الذي غامر بالذهاب إلى بغداد، دون أن يخبر أهله، قبل بدء الحرب ببضعة أيام. وحين سألتها كيف عرفت ذلك قالت إن صديقه، الذي سافر معه ونجا من الموت، هو الذي اتصل بها من بغداد، وأخبرها بكل شيء. وأضافت آنيا، وهي تجهش بالبكاء: - كان مهووساً بميزوبوتاميا، وظن أنه يدافع عنها فانطلت عليه اللعبة... يا إلهي لماذا قُتل في أرض نحب أهلها كلّ هذا الحب؟ فقلت لها: - لو أن تلك الأرض تحمل قلباً لانفجر من كثرة الدماء التي سُفكت عليها.. - كان أشبه بشاب شرقي في علاقته بوالديّ، على العكس مني تماماً.. يا إلهي كيف سأخبرهما بمقتله وهما في رحلة استجمام إلى دبلن؟ المسكينة أمي ستصاب بصدمة شديدة أخشى عليها من نتائجها.. يا يسوع ما كان عليه أن يصدق، ويسافر إلى الجحيم دون أن يعلمني .. كان يعشق مغامرات السفر والاكتشاف ويعد نفسه ليكون عالماً أثرياً بعد تخرجه في الجامعة. - أنا وسامر أيضاً صُدمنا يوماً ما هناك.. حوّل الخبر الفاجع سهرتنا إلى ما يشبه المأتم، وتذكرت وأنا أسمعه ذلك الغراب اللعين، وظل سامر يشرب كأساً تلو أخرى. وقبل أن يأوي إلى النوم في الثالثة فجراً قال متثائباً محمر العينين: - يا له من يوم حافل بالأحداث! فأجبته: "أتساءل: عن سر طائر الشؤم هذا؟ الطائر العجوز المنكود القاسي، ماذا يعني وهو ينعب فوق رأسي: لا عود..؟" كان يجب أن أستيقظ في الثامنة من صباح اليوم التالي لإيصال سومر وسميرميس إلى المدرسة بدلاً من سامر، لكن نومي المضطرب والمتقطع بسبب الأحلام المزعجة التي سقطت على رأسي منعني من الاستيقاظ قبل العاشرة، ولم أستطع أن أتذكر إلاّ حلماً واحداً، ربما كان الأخير في ترتيبه. لقد رأيت السماء ذات يوم، وأنا في سن صغيرة، مجللةً بغيوم سود قاتمة، تتجه بسرعة فائقة صوب الشرق، في حين تتجه ظلالها على الأرض عكس اتجاهها إلى الغرب، فتعجبت من الأمر وناديت أبي لرؤيتها، وما إن خرج من غرفته ووقع بصره عليها حتى أصيب بالعمى فجأةً، فطلب مني أن أقوده إلى سطح الدار ودموعه تنهمر على شعري كأنها حبيبات مطر ربيعي ناعم، إلاّ أنها لزجة كالصمغ. وقفنا على السطح، وظل أبي ممسكاً بكتفي وأنا أتطلع إلى الأفق كأنني أنتيغونا وهو الملك أوديب. وبعد دقائق فوجئت بعربة ضخمة جداً في السماء تسحبها عشرات الجياد المجنحة، وعلى ظهرها رجل كهل يحمل سوطاً يمتد إلى عشرات الأمتار، وهو يسوط كتل الغيوم التي تفر أمامه مذعورةً مخلفةً وراءها فحيحاً يملأ الفضاء الشاسع أشبه بفحيح الأفاعي. وحين عادت الشمس إلى سطوعها اتضح أن تلك الغيوم لم تكن إلاّ خفافيش ضخمةً تداخلت أجنحتها بعضها ببعض فبدت كأنها كتل من الغيم الأسود. ذلك ما عرفته من أبي الذي عاد إليه بصره مع اختفاء آخر خفاش من سماء المدينة. لم أقصص حلمي على سامر في ذلك اليوم، رغم القلق الشديد الذي أصابني، لئلا يقول لي، كعادته، "أحلامك السريالية لا تنتهي يا عشتار... بالله عليك ألا تشبه لوحات سلفادور دالي؟". ودفعني قلقي إلى محاولة الاتصال مراراً بمن تبقى من أهلي في البصرة لأطمئن عليهم، لكنني فشلت، فاضطررت إلى الاتصال بأمي المقيمة في الكويت لعلّ قربها إلى البصرة مكّنها من الحصول على بعض الأخبار عنهم، فوجدتها أكثر قلقاً مني، وزادتني هموماً ببكائها، وطلبت مني أن أحث سامر على إيجاد وسيلة ما للاستفسار عن أخي وأطفاله، فقلت لها إن سامر قلق أيضاً على أهله في كركوك، فأخذت تصب لعناتها على كل شيء. حملت إلينا القنوات الفضائية مساء ذلك اليوم أنباءً متضاربةً بعضها صحيح وبعضها الآخر مفبرك، إلاّ أن أكثر ما أثار خوفنا، أنا وسامر، هو خبر اغتيال احدى الشخصيات الدينية الذي سيفتح باباً جهنمياً يصعب إغلاقه، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى مداواة جروحنا. وراح سامر يبحث في الانترنيت عن تفاصيل عملية الاغتيال، فعثر في اليوم التالي على تقرير نشرته إحدى الصحف، واستنسخه ليفيد منه في كتابة رواية فكّر في كتابتها عن الأيام العصيبة التي سيعيشها البلد، ثم أخذ يقرأه لي بصوت شابته نبرة حزن... وسألني بغضب: - هل أعجَبكِ ذلك؟ - لقد كنتَ مصيباً في مخاوفك.. إنها بداية لمآسٍ مقبلة لا يعلم مداها إلاّ الله. علّقت على تساؤل سامر، ورحت أفكر بكتابة قصيدة لمعت فكرتها في رأسي، فخرجت إلى الحديقة عند الغروب، وشرعت في صياغة مقطعها الأول: كأني أحلمُ : أن عيلام تفيض على بابلَ من عتمتها و خراسانَ جدار حجري بين فراتين قتيلين ودجلةَ َغارق في فجيعته ليس يعرف أين يمضي هل إلى مأتم ٍفي الكرخ ِ أم إلى مقبرة ٍفي الرصافة ْ؟ وحين انتهيت منه عرضته على سامر، فأعجب به كثيراً، ودعاني إلى المضي في كتابتها، فعدت ثانيةً إلى مكاني، وكتبت مقطعاً ثانياً، فثالثاً، وخلال أقل من ساعتين أنهيت المقطع الرابع.. أعدت قراءته أكثر من مرة فأحسست بأن القصيدة قد اكتملت به، ولا تحتمل أن أضيف إليها شيئاً: كأني أحلمُ: أن عيلامَ خرزة ٌ في جيد بابل َ والفراتَ ينبع من رحم خُراسانَ ودجلة َمنفيُ في كنساسَ فلا نهرٌ ولا ضفةٌ ولا قطرة ُ ماء ٍ ولا الرصافة ُخلف ظهر الكرخ ِ ولا الكرخ ُ خلف ظهر الرصافة ْ. لكن بقي أن أجد لها عنواناً، ورحت أفكر بالكوابيس التي ستهشم رؤوسنا إذا ما تسللت عيلام بالفعل إلى شوارعنا، وفرش مريدوها طريقها بالزهور.. وسرعان ما قفز العنوان إلى رأسي.

ــــــــــــــــــــ روائي عراقي الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم