“ 1 “

((فراشة ممزقة الألوان ))

كانت تجلس أمام شاشة الكومبيوتر بمعية البيادق. تحرك قواتها على رقعة الشطرنج بنزق . تقتل وتزيح. تناور وتتخندق. لم تضع لهجومها خططاً إستراتيجية خاصة بتصفية عدوها الافتراضي تصفية نهائية. فهي وبعد أن خسرت مختلف الحروب السابقة مع عشيقها ، لم يبق لديها غير رغبة واحدة: إلحاق الهزيمة به في معركة خاطفة ولو على رقعة الشطرنج.

هكذا كان الشدّ العصبي يفعل بها .فقد كانت جوانكا في تلك اللحظات، تتصور نفسها أشبه بزورق رفيع يحاول الخروج من مجرى عشيقها فيلمون ،لتضع بذلك نهاية لحياة عبثية استمرت معه طويلاً،دون جدوى من تحقق عملية تصحيح لقائمة الأخطاء والخيانات التي عادة ما يرتكبها فيلمون. كانت المرأة غارقة بظلامها الداخلي على الدوام،ولذا ،فما أن يداهمها السأم من القتال والطعن والموت ونصب الكمائن، حتى تغلق جهاز الكومبيوتر تاركة الظلام يزحف على الشاشة ،ليبتلع البيادق يفرمل حركة الجيوش في تلك المعارك دون اكتراث.

وفيما كانت أفكار جوانكا تتطاير كالمناطيد الثقيلة من رأسها في تلك اللحظات،حتى سمعت حركة المفتاح يدور في قفل باب الشقة. فما كان منها إلا الإسراع بدفع جسدها تحت أغطية السرير لتُوهم القادم بأنها نائمة. يدخل فيلمون مخموراً وفائضاً بهرج تلك الأفكار التي ذهب لنسيانها في الحانة دون فائدة. يلقى بجسده على الكنبة بكامل ثيابه ،فيما يبقى فمه أشبه بمدخنة لا تكف عن الهذيان. جوانكا في تلك الدقائق ،وجدت نفسها أشبه بخلاط تملؤه مختلف المشاعر المتضاربة.خانتها قدرتها على حسن التصرف والحسم في مثل تلك اللحظات كالعادة .لذلك راحت تراقب المشهد بسريّة. شعرت برغبة أن تقفز من تحت الأغطية وتقبل صاحبها.لكن وفي نفس الوقت، راودتها فكرة أن تقوم بربطه بقوائم السرير والقيام بجلده حتى تتبخر منه الخمورُ كاملةً. لم يمض وقت طويل على تلك الأفكار التي سيطرت على رأسها الذي عادة ما يتحول مع مصائب فيلمون إلى ما يشبه غرفة عمليات،حتى تضجر من لعبة الاستغماية السخيفة بالتلصص على عشيقها الثمل، مغادرةً سريرها باتجاهه وهي شبه عارية، لتحد من صوت ثرثرته العالية . إلا أن فيلمون لم يستجب لطلبها بشكل فوري. بل يمسك بيد جوانكا ويسحبها لتجلس إلى جانبه قائلاً لها بسخرية فيها الكثير من القلق:

• ما الذي يريده مني ذلك الصحافي؟! اللعنة! هذا ما كان ينقصني . القلق!! يصيح فيلمون بها محموماً وكأنه يهذي. ليردف بعد ذلك مضيفاً: لا أستبعد المفاجأة. فقد يكون الرجل مخبولاً، وليس لديه ما يُسلي به نفسه سوى الرغبة بالعبث. أو إنه مكلف بزجي في متاهة من المتاهات البوليسية العويصة مثلاً؟! أليس ذلك ما أخبرني به في رسالته الأخيرة؟ قال أنه يريد أن يجلس معي جلسة تاريخية. ما هدف ذلك الكلام بحق الربّ؟ ألا يعني لك شيئاً محدداً يا جوانكا ؟ أم كل ما جاء في رسالة الرجل المجهول تخريف بتخريف؟ أنا أظنه معتوهاً بحق، وإلا لمَ كل هذا الاهتمام الذي يخصّني به؟!! طوال الشهرين الفائتين وهو يبحث عني! أليس ذلك ما أخبرني عنه في رسالته. إصراره على مقابلتي، وبأي ثمن، أمرٌ مثل ذلك لا يقلقني وحسب، بل يدمرني. ألا تعتقدين أن ذلك الصحافي مصاب بلوثة ما_ لو لم يكن كذلك، لما يمنح الحق لنفسه بالبحث عن عنواني طوال تلك الفترة! يتابعني ويتقصى آثاري بين العديد من المدن والكثير من الولايات، وحتى يصل إلى هدفه مؤخراً. اللعنة عليه. حقاً إنه مخبول بامتياز. أتعرفين يا جوانكا. سأضحك منه طويلاً سأعتبره نكتة مرسلة إليّ بطرد من السماء. خاصة وإن السموات لا تكرر بعث الرسائل لمن هبّ ودبّ. فهي، وفي كل قرن أو أكثر، تنتخب شخصاً، لتخصه بقصة فريدة أو بمعجزة خطيرة. ومع أنني غير مكترث لكل ذلك حتى اللحظة، إلا أن مجرد رؤية وجهه، ستنهي قلقي ومخاوفي. وهذا ما قد يحدث في الغد بالضبط.

يرفع فيلمون قدميه إلى الأعلى، وهو ممدد على الكنبة، ثم يردف قائلاً: المهم هو استثمار المجهول يا جوانكا. الإمساك به أو تلقفه بيدين من حديد، قبل أن تضيّعنا أسراره . هل ثمة خطأ في تفكير كهذا ؟ ** لقد بدأت الهموم تفترس رأسك مبكراً يا فيلمون. وكأنك تتقمص دور قبطان يقود بارجة عملاقة وسط الوحل. إذا كنت غير مكترث بالرجل، فلمَ لا تكف عن الثرثرة في مختلف الحسابات والتأويلات التي لا تنتهي حوله؟ الزوابع التي تثيرها حول نفسك، ليس إلا وهمّاً. فقد يكون ذلك الصحافي ضالاً أو مضللاً ، ووجهته غير الجهة التي استدل عليها بشخصك. خذ ذلك بالحسبان ويكفيك هذراً وتشاؤماً. • ولمَ لا. فقد يكون من حقك اعتبار مخاوفي هذراً. ما المانع؟ لو كان الأمر متعلقاً بك، سيتحول دمك في لحظات إلى شوربة تسدّ شرايينك وكل عروق جسدك. ** ولكنه كما تقول، يعمل في الصحافة. وأنا كما أعرف ،فليس على رأسك طبق حلوى، ستجذب ذباب الإعلام ليتطاير فوقك يا فليمون. لا تترك مخك عرضة للأوهام. فقد تلتهم ما بقى منه وتنتهي. ثم ما الشيء المهم فيك يا صديقي، ليستحق مجازفة من ذلك النوع الذي تحدثني عنه؟ فما أنت سوى أستاذ كيمياء يُغرر بطالباته وصيدهنّ بما توفره البيولوجيات التي غالباً ما تفلت بعض عواصفها عند المراهقات! أليس ذلك كل ما تملكه من شهادات واهتمامات ووظائف في حياتك؟!!

يضحك فيلمون بمرارة ،فيرد عليها بصوت ممتلئ بالسخط: * لو قابلت ذلك الصحافي،فقد لا أطلب منه إلا شيئاً واحداً فقط: أن يطهر لي هذا المنزل من عفونة اللامبالاة والسخرية المحشوة برأسك ليس إلا!! ** ولن يحدث ذلك بطبيعة الحال؟ • لن أستسلم لمناكداتك. أفضل النوم على أن أستمع لهذه الثرثرة التافهة.

ينهض فيلمون متمايلاً ويتجه إلى غرفة النوم. فتخاطبه جوانكا بعصبية: ** ليس غريباً ما تفعله . بتّ أعرف ذلك جيداً. أصبحت مهنتك الحقيقية ، التهرب مني. تدخلني في فخ الأرق ، وتذهب للنوم. بتنا نطارد بعضنا حتى داخل الأحلام. أنت في قطبّ، وأنا في القطبّ الآخر. لا تستطيع نكران شيء من ذلك القبيل؟ قبل أن يدخل فيلمون إلى غرفة النوم ويغلق الباب، يصيح عليها بشيء من الملل: * حان الآن وقت رقادي في صندوق النوم يا عزيزتي . لا وقت عندي للرد على الترهات وما يخرج من رأسك في هذه اللحظات. فغداً موعدي مع الصحافي. وعليّ أن أكون نشيطاً وممتلئاً بالحماس والتفاؤل والإشراق. تلاحقه جوانكا إلى الداخل هائجة وهي تقول:

** قبل أن تذهب في النوم يا فيلمون، قل لي: هل رأيت البنت “ لورا “ في هذا اليوم ؟ * كلا. ولكنني ربما أكون قد لمحتها وهي تدخل القسم الخاص بالمختبرات. ** تقصد اجتمعت بها في إحدى غرف المختبرات لقياس ضغطك الجنسي؟ تصرخ به صديقته جوانكا وهي تكزّ على أسنانها كقطة برّية متوحشة، بينما تنهمك يداها بجمع أكياس “ الكوندوم “ الملونة من حقيبة يدها، لتدسها تحت وسادته، هامسة في أذنه: خذ أوقية منع الحمل التي نسيتها في جارور مكتبك هذا الصباح. فقد تلزمك بعد قليل ، فيما لو تصادف “ لورا “على طريق الأحلام أيضاً ؟!

تتركه جوانكا مبتعدة عن غرفة النوم، دون أن تسمع من جوف فيلمون كلمة واحدة للرد على التهمة. ربما لأن التهمة تلك صارت أسطوانة جاهزة للدوران في كل لحظة. فطالما شعرت جوانكا بأنها ليس غير أرنبة حلوة تدور في فراغ قفص فسيح اسمه فيلمون. والأمل بإصلاح حياتها مع نموذج عبثي من طرازه بات صعباً .لو كان بمقدورها إصلاح عالم فيلمون الجواني، لما تأخرت باستخدام المبضع الجراحي لإنجاز مثل ذلك الهدف. خاصة وإنها طبيبة. المرأة تحبه.

صديقها فيلمون، ومنذ أن قرر الغرق في نفسه مع بداية دراسته لعلوم الكيمياء، انساق وراء العمل في طبيعة الأجساد وغرائزها، كمادة تصلح لمعالجة تحولات الحياة . لم يترك للآخرين فرصة التدخل في بنيته الذاتية، ولا في البنيان العام لعلاقته مع العالم. عرف كيف يكون ناراً تصطلي بها الفراشات. أما من كانت له رغبة بالبحث الجيولوجي في تربته. فلا يستطيع قطعاً تبديل مسارات حياة رسمها على تلك الشاكلة. ربما لأنه متورط بأفكار محيرّة، مُقلِقة، تتجاوز كلياً أنقاض الثقافات القديمة والشروط الاستهلاكية التي تتحكم بمصائر البشر ووجودهم على الأرض. قد تكون هي تلك المسافة الفاصلة ما بين الحمامة والصقر. أي ما بين جوانكا المتشبثة بالواقع. وفيلمون الذي يريد تقويضه ونسفه. “ إلى أين سيؤدي خلل التوازن ما بيني وبين هذا الوحش الفانتازي؟ يحاول هدم كل شيء لينفلت من عقال القوانين. يريدني حشرة جميلة في عالم مختبراته. أو على هيئة غيمة ممزوجة بالرعد وبالبرق تحت زجاج ساعته الصغيرة وسريره فقط !! كم أشعر بالمرارة من هذا الطواف الدائري في علاقتي مع فيلمون. ثم أليس هذا هو الذي يدفعني للتعامل مع ذلك الخراب العاطفي، بهدف ضبط عقاربه وفقاً لصيغة ما من صيغ التعايش. أنا كلما فكرت بالهرب من حالة الحب - اللاحبّ التي أعيشها معه، والتخلص من آثاره التي تمزق داخلي بشراسة. كلما ترسخ فليمون في ذهني وشعرت بأهمية العبث الذي يتلبسه. فليمون كائن موسيقي يزخر بشحنات مضاعفة من الطيش السيمفوني. إنه لا ينتمي إلى خط هرموني بعينه. هو في نهاية المطاف، ذلك المايسترو الذي يقود بعصاه قطيعاً من الشياطين “. تخاطب جوانكا نفسها بحرقة وتأثر، وهي تمسك رأسها بيديها، بعد ذلك تخطو نحو النافذة. تلقي بنظرة نحو الخارج، فتنكمش تعابير وجهها، تسدل الستارة بشكل عصبي، لتعود إلى الاستلقاء على الكنبة وبيدها مجلة سرعان ما التقطتها يدها من على طاولة في زاوية الصالون. فيلمون لم يستغل الوضع الذي تعاني منه صديقته جوانكا. طموحه غير ذلك تماماً. كان يحرض صديقته على ضرورة أن تقوم بنسف الأنماط التي تأسر بها حياتها كاملة، كي تكسر القفص العقلي وتطير بعيداً عن النمطية التي ألزمت بها نفسها. يريدها أن تصبح قريباً من صورته، شخصاً يهيم في الحبّ، لا أن يتخندق فيه. العشاق بنظره مخلوقات من الكريستال. وهم الوحيدين الذين تتلألأ أرواحهم من وراء جدرانهم الإنسانية، بكل ما تملك من هيام في تجاوز الواقع، بحثاً عن عوالم أخرى أشد ذهولاً مما هو معاش ومكتشف على الأرض . تنهض جوانكا من على الكنبة متجهة نحو درج طاولة الكومبيوتر، تقذف بالمجلة، ثم تنشغل بعملية بحث غير واضحة الأهداف. تلتقط كارتاً صغيراً. ثم تعود إلى الصوفا مجدداً لقراءة ما كان مكتوباً عليها: “ في زمن تختنق فيه أيامنا كاللؤلؤ في المحار.. لن تقودنا سماكة عقولنا يا جوانكا إلا إلى عالم تفترش أراضيه التماسيح. قد لا ندرك كمية النيران التي فينا الآن، ولكن ستصطدم رؤوسنا بسقف النار حتماً، لنعرف آنذاك كم المسافة الفاصلة ما بين عقل يقودنا بنباحه نحو الفلسفات الميتة، وبين روح تحاول انتشالنا من مستودعات الإرث الواقعي الذي كثيراً ما نطلق عليه صفة المعقول المتجذر في واقعنا. دموعنا يا جوانكا لن تنظف العالم من قلقه ولا تنقذه من جفافه. كما ولن نعثر على أحلامنا في دوامة المجهول. إما الواقعية المحافظة التي تتصورين بأنها ستحتل العالم وتحول ترابه إلى شذرات ذهب، فلن تنتصر إلا في المستشفى الكوني الذي نسكن فيه بمعية ألعابنا المريضة منها أو المتوفاة “.

ما أن تفرغ جوانكا من قراءة الكارت، حتى تضحك. بعد ذلك تلفظ من صدرها زفيراً طويلاً قائلة لنفسها بصوت مسموع: “ أليس هذا ما كتبه لك حبيبك فيلمون في العام الماضي يوم بلغت الثلاثين عاماً يا جوانكا؟ حسن. لا تأبهي بكل ما يقوله عنك أو يكتبه لك عشيقك . سيأتي الوقت الذي يعود فيه إلى رشده. قبل أن يضيع للأبد “. أعادت جوانكا الكارت إلى مكانها، ثم شقت الطريق نحو غرفة النوم. رفعت الأغطية واندست إلى جانب النائم هناك، وكأنها فعلت ذلك لتملأ فراغاً كان بارداً في ذلك السرير. كانت جوانكا تعتبر كلمات صديقها فيلمون ميزة أدبية، تحرص على عدم حرمانه منها في كل الأحوال. وأن رجلاً مثله، سقط ذات يوم بين فخذيها أشبه بسفينة محطمة، لن ينسى في أسوأ الاحتمالات حادثة من ذلك النوع. ((ألسنا نحن نساء الأرض، مخلوقات غاية في البساطة. لا نستهدف الرجل إلا حينما يكون عاشقاً ، من أجل التمتع بالتهام أعشابه الطازجة)).

فكرت بذلك جوانكا، فيما كان جسدها يحاول الدخول في علبة النوم . ولكنها لم تستطع فعل ذلك لصعوبة ما. لذلك نهضت كفراشة ممزقة الأجنحة خارجة من الفراش، لتستقر على الكنبة في الصالون، وهي تتأمل صورة لفيلمون كانت معلقة على الجدار. صورة الرجل الحاضر الغائب. كأنها أرادت متابعة مسيرة نهر من مصبّه. ضحكت جوانكا في نفسها قائلة بسخرية: ((بدلاً من استهلاك النظرات بالتأمل في صورة فيلمون، يكون عليك القيام بفعل أعظم: أن تفتحي جميع بوابات الجحيم، وتقومي بحمل الرجل من السرير، وقذفه هو ونومه وأحلامه إلى هناك. ولا تنسي صورته بالطبع!)). ذلك ما فكرت به في تلك اللحظات. شعرت بأن جبهتها أشبه بصفيح تهرول عليه نيران . إلا أنها سرعان ما تراجعت عن فكرتها المفاجئة، لتقوم بارتداء ثيابها والخروج من البيت مع الساعات الأولى لذلك الفجر الرمادي .

ــــــــــــــــــــــــــ الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم