وفي اليوم التالي أوصلتني الحافلة إلى قرية في أعلى الجبل تدعى «مرمريتا» حيث قال السائق: عليكَ أن تنحدر قليلاً غرباً فتجد «عين الراهب». وكان لا يزال لدي فعلاً نصف ساعة على الموعد المحدد. ومع ذلك فكرت: إن تأخرتُ فقد تكون تتجول في أروقة القرية، ولا بد أن أعثر عليها في إحدى الأزقة...

ولكن ما إن ترجلتُ من الحافلة حتى انداحت أمامي طبيعة مذهلة حائرة تحت صفاء السماء، وكان الغسق يتهيأ ليغطس وراء الروابي، ولم يكن في القرية سوى الريح والأبواب الساكنة

المغلقة، وقد تبدى إلي ضحكات فلاحات وغسيل منشور على حبل، قرب منزل بجوار حقل، وعندما وصلتُ إلى المقبرة بدأ المشهد يغدو ساحراً، فإلى اليسار بحيرة بعيدة غارقة في محيط من الخضرة والشجر، تحاذي التلال التي يتوارى بينها الغسق، وإن نظرتَ إلى اليمين، فإن الغبطة التي تنتابك تحت الغروب الحاني فمن قرميد تلك البيوت التي تتسلق المرتفعات الخضراء، فإذا تعلق بصرك بالأفق رأيتَ شحوب البحر من بعيد.. بعيد جداً... وفي نهاية المنحدر، وإن تحول كل شيء في نفسك إلى حلم، خلتها سائرة إلى الأبدية، لا يوقظها إلا دقات جرس الكنيسة منسلاً من ضباب الوادي.

وتبدت بحيرتان وراء الرياح، وتمايلت الأغصان، وسقطت زهور الياسمين عند حذائي، كأنما يقلن.. هيا خذنا.. اجمعنا.. فصنعتُ خاتماً وأنا أنحدر وأغني:

لكَ هذي الريحُ عودُ لا تبـددك الجــرودُ والغمامات ُ وترْ ويُـجمعْـكَ القمـر

وفجأةً لاحت من بعيد، تجلس على صخرة ويجلس قربها النسيان، معلقة بين الغيم والوادي كقطرة مطر، وأخذْتُ أتساءل وأنا أرتعش، تُرى بماذا تفكر الآن.. بم تحلم هذه الصبية الناعمة

وسط المدى والرياح... هل تعتقد أنني لن آتي؟... ولكن ما إن انحدرتُ أكثر... حتى لم أعد أحتمل... فبدأت أطير طيراناً... وتناهى إليها دحرجة الحصى وحدسَتْ أنها خطاي، ولكنها ظلَتْ مطرقة مصغيةً إلى أحاديث الريح، لا يحرك سوى النسيم خصلات شعرها، وعندما غدوت قربها وراحت عيناي تتنزهان على شعرها، وقفَتْ دون أن ترنو إلى وجهي، يلازم عينيها وميض دافئ عميق، وهي تعلم أن نظراتي تغسلها من رأسها إلى أسفل قدميها.

ولم نقل شيئاً، أخذ ينظر أحدنا إلى الآخر، ويتكلم دون أن يتكلم، كانت عروقنا تبترد، متفاهمين متفقين في الجوهر، لقد شرح كل منا للآخر طويلاً طويلاً دون أن ينبس ببنت شفة، كنا ندرك في أعماقنا أن الكلمات ليست سوى غيمات أقل من هيامنا، وأن سماءنا الصافية وراءهم واحدة.

ووضعتُ يدي على كتفيها وسرنا، وخلنا أقدامنا تخطو نحو الأبدية، الصمت إكليل على رأسينا، ولو أن أحدهم دهمنا وسألنا من أنتما وأين أنتما لأجبنا نحن في قلب الله.

وعندما حاولْتُ الكلام انحبس صوتي، وسرى لهب تحت جلدي، أخذتني رجفة في كل أعضائي، وصرت أكثر شحوباً من

ميت، فشدتني من كفي وتابعنا المسير وحولنا ترف الملائكة وينام الزمان.

أخذنا نسير ونسير... كفي في كفها.. يلفنا المدى من كل الجهات ويرسل آخر ضياء النهار على وجهينا، الريح تداعب جبهتين ليستا من هذه الأرض، وتطير خصلات شعرنا، فلا ينظر أحدنا إلى الآخر عندما نبتسم لقد كنا ندرك ذلك من كفينا، كانت أسراب الطيور ترجع إلى أشجارها، ورفوف النحل تعود من دروب الورود، أما نحن فقد كان يخامرنا أننا وصلنا إلى حواف الأرض وخطونا خارجها فابتلعنا الغسق وتلاشى.

كنا نؤمن أن ثمة من يصغي إلى صمتنا، وكلنا ثقة. ان الملائكة ترمقنا، وأننا حبيبان منذ دهور والآن نحن بين يدي الله نبوح بالحقيقة. هكذا ضمنا وادي الحنين صامتين، كنا نملك نفس الأفراح ونفس الجراح ونفس الحب، منذورين لزمن أكثر هناءً، يهمس في أذنينا أسرار عهدٍ آتٍ مترع بالمحبة.

وفجأةً همَّتْ بالرحيل، وهذا ما جعلني أتمنى الموت، فبكت، وقالت هذا الفراق لا بد من تحمله يا حبيبي، وإني لأذهب مرغمة، فقلت اذهبي، ولكن تذكري أنني ألبست إصبعك خاتماً

من ياسمين، وزينتُ شعرك بزهرة جورية، فقالت: من بين كل البشر من تظن ذلك الذي سأتذكره أكثر منك.

ومن رجفة كفها وهي تغادر يدي، أدركْتُ أنها تمنت أن تموت في سكينة قربي،وأن يُرخي الدهر عليها سدوله، كان خدر اللقاء قد أوهن قلبينا، وعندما افترقنا كان خيالها لا يزال جارياً في خيالي وتورد خديها في دمي....

كل مين طُوي جناحو وراح بها المدى

ولدين وضاعـوا عَ جسـر الصـدى

أخذتُ أردد وأنا ألتفت إليها تتوارى عن ناظري.... وغابت الشمس، وتشتَتَتْ الظلال، وملأَتْ الأطياف الوادي، وبقي القمر وحيداً إلى يساري. وتساقط رذاذ خافت فوق المقبرة، واغرورقَتْ أوراق الشجر، وابتلت الصلبان، وتبدت القبور تندى...

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم