هي ليلياتي الكئيبة التي قررت فيها التحدث إلى شخصي، أول مرة أجد نفسي في وضع كهذا، منع عني الخروج، كأي سجين في قبو انفرادي، يزيد من عذاباتي، لا أذكر اسم الكاتب الجزائري الذي سجنه والده في مكتبة المنزل فقرأ ألف ليلة وليلة، ربما تلك العزلة جعلته يكتب لاحقا، من يا ترى؟ أجلس قبالة هشام آخر، أكتشف خسارتي ونجاحاتي، سوء الطالع الذي يفاجئني في كل دورة أو النحس الذي يرافقني أينما ذهبت. هي ليلياتي الباردة جدا، كشخص شبه منبوذ يترقب موته، ينتظر قاتله بين لحظة وأخرى، وأنت تواجه نفسك بعريك وقبحك وربما نذالتك، وأنت تجري خلف سراب. النجاة من شرك مريم والرينڤو تبدو مستحيلة.

تتلبسني قصة سفيان عبد الجليل بكل غموضها ونزقه المتعمد ونرجسيته المتعالية، ها أنا ذا هو، أكونه بعد مكالمة مريم، الفارق الوحيد فقاتلي يتربص بي فعلا، في أي مكان بينما سفيان عبد الجليل يتوهم قتلة يتعايشون معه في غرفته، كل ليلة يراهم ملء العين في ظلمة دامسة، يعيثون فسادا في غرفته، في أوراقه، يتفنون في تعذيبه. تنكر باية بشدة هذه القصة المتخيلة، فتجعله يغضب ويشتمها، إذ تؤكد بإصرار أنها لم تعش ولا ليلة من هذا الوهم الذي يتحدث عنه سفيان، كان ينام إلى جانبي، يشخر، يتكور، في الهزيع الأخير من الليل أسمعه يستيقظ يخرج إلى دورة المياه، عندما يفرغ مثانته يعود إلى السرير يشعل سيجارته التاسعة ربما العاشرة، كنت أكره التدخين في الغرفة، لكنه يدّخن ربما ليقلقني، ليجعلني متوترة، كل شيء ممكن مع سفيان.. ربما مرة وحيدة سمعته يبكي أو يتصنع بكاءه ليستعطفني لأني أهملته.

إني هَهنا بالصدفة أكتب يومياتهم، لا تعنيني حياتي بعدما وصل الأمر الى حدّ القتل، ولا تهمني حكايتي الشخصية بقدر ما تهمني هذه التسجيلات الكثيرة والكناشات المليئة بملاحظات ومواعيد ورؤوس أقلام لقصص وحكايات وعقد ومناوشات واعترافات ساخنة، أسجلها على الطاير وهي تخرج حارة من أفواههم العطشى للحب والحرية والقبل والحلوى.. كانت تنطق بحرائقها منذ وطأت قدماي العيادة التي صنعت اسمي وتاريخي، فعلا لا يعنيني هذا التاريخ الشخصي المليء فرحا وتعاسة بقدر ما يهمني هذا الإرث المهم من تاريخ مرضاي الذين أعتز بصداقتهم ومشاكلهم الصغيرة التي يسببونها بين الحين والآخر. هذا الإرث الكبير المتمثل في السجلات الصوتية حين أمدّ يدي نحو الآلة وهي تسجل الآهات والكلمات والحشرجات وحكايات استجمعها يوميا من أفواه صانعيها ومجانين فقدوا البوصلة، ومهمشين سحقتهم الحياة سحقا فظيعا، حكايات سوداء كلما اقتربت من عقدها وفك طلاسمها تزداد تعقيدا. وأجد العزاء في الكتابات الأنيقة الساحرة التي يخصني بها الكاتب سفيان عبد الجليل، على قلتها وغموضها، تبقى بلسما فكان يزودني بين الحين والآخر بقصص نشرها بعد تعرضه للانهيار كقصة الأدلويز، وقصة الضيف الساحر، وغيرهما، عادة أنصحهم بالكتابة، بالرسم بالعزف، لا تهم طريقة التعبير أو الوسيلة بقدر ما تهم، الجرأة على فعل البوح.. الكتابة في النهاية هي وسيلة للشفاء وسيلة لتدمير فوبيا الخوف والشك والخجل والانطواء، هذا ما قرأته طيلة مساري الدراسيّ.

بصفتي كاتبا لهذه الحكايات المفتوحة، أدعي لأول مرة أني أعرف الكثير من التفاصيل غير المسجلة في الكناشات الكثيرة، الآن تطفو من أعماقي.. أعرف بالتأكيد التفاصيل المهمة الخاصة بحياة "باية" تلك الإنسانة الرقيقة البكاءة الصامتة في أشد المواقف تعقيدا وعنفا، يحيط بها من كل جانب أو يواجهها سفيان عبد الجليل بأسئلته الحارقة، الشكاكة، في تصرفاتها وتخيلاتها التي ترعبه كلما خلت بنفسها في غرفتها، على ذكر هذا التباهي بقوة ذاكرتي وانغماسي الكلي في جمع الكم الهائل من المعلومات التي تتعلق بشخصيات واقعية بإمكاني أيضا الحديث وبجدارة عن الكاتب الشبح الذي حرر رواية "جزائر" (إن كان ذلك صحيحا) فالأسباب الحقيقية التي جعلته يسلك طريق التحوير والشطب المتعمد وتجميل القبيح وتقبيح الجميل هي تدخل في سياق التبييض المتعمد من طرف من؟ على ذكر تلك الرواية السيئة السمعة تلك التي قرأتموها أو سمعتم عنها باعتبارها الأكثر مبيعا في جزائر منتصف التسعينيات من القرن الماضي، باعتبارها أيضا أيقونة الأدب الجزائري بسبب تعريها للواقع الملتبس بكذا مشهد دموي بداية من الثالث من أكتوبر1988، كان لي الشرف في لقاء كاتبها المفترض الذي تقدمه وزارة الثقافة كمنقذ لفن الرواية لكنها خسرت الرهان بمرضه المفاجئ. التقيت به أو بالأحرى لجأ إلي في أسوأ مرحلة بلغها كمجنون رسمي رغم الشهرة والانتشار الذي حققه، فلجأ إلى أسلوب التنكر أو نكران حقيقة كتابته للرواية التي سببت له التشظي في ذاكرته وقدراته العقلية. ثم هذا أغرب حالة عشتها كطبيب وقارئ، لم يسبق لي أن قرأت في حياتي أن كاتبا يتبرأ من عمله الإبداعي، ويرفضه بشدّة غير معقولة.. هذا نادر الحدوث بل يستحيل، أجادله في الأمر في كذا جلسة ولو أني أحاول بتلك الاستفزازات الى فهم هذا الانقلاب الجذري في مسار الكاتب الشاب الواعد. مستبعد سيد سفيان أن تشوّه روايتك وتكتب بأسلوب أرقى وأنقى ثم تنشر باسمك الحقيقي، أنا معك في قضية السرقات الأدبية الشهيرة، نعم تسرق النصوص لكنها تنشر باسم سارقها. مستحيل صديقي سفيان. إذن ليس جديدا أن أعرف هذه المتون المتشابكة لشخصيات واقعية بالفعل، لم تذكرها الرواية المذكورة أعلاه لأسباب مختلفة أو ربما تجنبا لسوء الفهم كما أحب سفيان أو الكاتب الشبح (القضية غير محسومة إلى حد هذه اللحظة والشك قائم عندي وعند النقاد الذين تطرقوا باستحياء للموضوع في فترات سابقة) أقصد كل الشخصيات التي اختارتني طواعية وقصدت عيادتي صباحا و مساء، كنت الطبيب الوحيد المختص في مدينة تكبر وتمتد في الجهات الأربع اسمها البويرة.

عيادتي التي أفتخر بها كثيرا أمام الزملاء بحكم تواجدها في أهم شارع وأخذت حيزا مكانيا رائعا، في شارع "ستراسبورغ" قبالة حديقة الأسود الثلاثة، بشرفة مثالية تطل على الشارع الممتد و قاعة الريش البديعة، في مشهد جمالي خلاب. هذا ما جعلها تستقطب لاحقا: مريم، الرينڤو، سفيان، باية، راس الكيلو عفوا عمي بشير الكريم.. وغيرهم، أقصد الجميع بما فيهم أنا في هذا الكولاج القصصي السردي المريع المتواصل كشلال قبل نحري، أو لا أعرف إلى الآن بأي طريقة أقتل، تجدني متألما، ينهشني من الداخل إلى الخارج أسكبه حروفا و كلمات و جملا لعلي أرسل كل هذا الفيض إلى صديقي من يدري؟ (لم يذكر صديقه، أنا أو أنت؟ في تقديري هو أنا) الآن أتفهم حرقة سفيان عبد الجليل في محاولاته الكثيرة لتبرئة ساحته من التهم الموجهة إليه كمستغل ليوميات معارفه وأقاربه. أتفهم إصراره في البحث عن دليل واحد يثبت براءته إلى حدّ هذه اللحظة. سنوات طويلة وهو في رحلة بحث عن مسودة لحرائر بدل" جزائر". ــــــــــــــــ

* كاتب من الجزائر

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم