المكان: وايت سيتي، غرب لندن.. الطابق 7 من إحدى البنايات الزمان: فبراير 2015

هل يمكن أن يصنع كأسان من الفودكا قصة حب، يتخيل زين أن غرامه البديل لجوليان بدأ في ذلك الليل عندما دخلت تلك الشابة العملاقة ليشعر بأن قلبه بدأ يرن قويا، مثل جرس كنيسة في أعياد الميلاد في الخرطوم، ثم يزيح صورة الشارع والحياة هناك وكيف أنه كان ينحشر بين أصدقائه الذين يمزجون في حياتهم بين الطابع الإسلامي والمسيحي، إنهم بلا دين وربما هم عاشقون لكل الأديان، مثلهم مثل ماليدا، فهل لها من دين. في طريقهما إلى لندن، واصلت المافيا عملها. دفعا المبلغ ووصلا بهدوء وسلام في انتظار إجراءات اللجوء السياسي، قدما على أنهما هاربان من جحيم وفوضى الحرب ومضايقات النظام في السودان، كتبا في الاستمارة، إنهما فقدا الأمل في حياة حرة وعيش كريم. قبل أن يكون ذلك كان جعفر يروي بعض من تفاصيل تلك الليلة وهو غير نادم، يكتشف زين أن جعفر ربما يكون من نوع الناس الذين يفعلون أي ما يشبع غرائزهم أو أهوائهم ثم يتركون الأمس وراءهم ويرحلون وقد فعلها مع ماليدا ليتركها تواجه الرياح وحدها. "لا اعتقد أنها لها دين.. مثلما لا دين لي" "أنت ملحد؟" "شيوعي.. استغفر الله.. يضحك جعفر، كان قد بدأ أكثر هندمة، فقد اشترى ملابس جديدة في باريس، وعطر غال، أخبر زين همسا وهما يتجولان في المحلات بصحبة ممثل المافيا: "أريد أن أدخل حياة جديدة.. يجب أن أحتفي بنفسي" ابتسم زين وهو ينظر إليه في المرآة ذكره ببعض أصدقائه القدامى من البرجوازيين، قال لنفسه، هذا الشاب وراءه حكاية.. ثم مضى يختار هو قمصيا جديدا بدعوة من جعفر الذي ما كان يفعل سوى تقديم الدعوات للشراء والأكل وهو لا يدفع، فالذي يأخذ الفاتورة ويقدم المال هو زين ولم يكن ثمة خجل من جانب صديقه. هل يكلم جعفر أن ماليدا جاءت لأجله؟ أم ينسى الأمر؟ وهل يخبره أنه ذهب خلفها إلى أن عرف أين تقيم بالضبط، وهل يقول له أن ذهب لأجل خطة في ذهنه لا يعرف مصيرها، فهو يعرف أن جعفر لم يعد يهتم بها بعد أن عثر على رفيقة صومالية، تعمل عارضة أزياء.. كانا سويا في أحد مكاتب تسجيل اللاجئين، عندما تعرفا ومن ثم عرضت عليه فكرة أن يعمل بهذه المهنة التي لم تخطر بباله، وعرضت ببال ماليدا. في ذلك اليوم في البندقية، وقبل أن يأتي ليل روما الوقح، أخبرته: "ليس من عارض أزياء أجمل منك.. طلتك البهية" لم يعلق، وإن بدأ يفكر جديا في الأمر. واليوم تعيده هذه الصومالية النحيلة الطويلة إلى ذلك الاقتراح: "أعرف وكالة للتوظيف سوف يعتنون بك.. هم متخصصون في البحث عن عارضي الأزياء الأفارقة" "لكنني لم أمارس هذا العمل من قبل" "ليس مهما.. سوف تتعلم كل شيء.. لا أحد يولد عارفا" كانت حسناء شيخ برهان.. فتاة متحررة وقوية الإرادة، ليس فيها ضعف ماليدا كما رآها جعفر. فقد فكر لبعض الوقت إنها سوف تصبح متعة أو مطية سهلة له، غير أن ذلك كان صعب المنال. قد يكون للخبرة أثر، فهي متمردة ومتمرنة على عوالم الرجال المغامرين والعاهرين.. أخبرته: "عالم الأزياء يبدو رائعا من الخارج وفي داخله دنيا متعفنة" "هل تريدن أن تزجي بي في العفن إذن؟" ويضحك.. ثم تجيبه بمباغتة: "اعتقد أن فيك من الشقاء ما يكفي ليجعلك تتعايش مع هذا العالم.. والمهم أنهم سوف يدفعون لك أموالا كثيرة.. ماذا تريد غير ذلك.." ثم غمزت عينها اليمني وأضافت: "كذلك سوف تحصل على شابات جميلات بلا مقابل" كان ذلك استفزازيا بالنسبة لجعفر، فهي قد أدركت إذن ما يدور في دماغه الداخلي، غير أنها غير مهتمة بذلك. تدريبها جيد على الحياة وعدم خلط الأمور، وعلى أي حال فهي التي ابتدرت الحديث معه في مكتب اللاجئين، كان بإمكانها أن لا تفعل ذلك.. إذا كان ثمة طرف لديه خلخلة في قلبه فسيكون هي لا هو. تأملها وهي تنهض من على المكتب الصغير حيث كانا ينتظران فتاة أخرى تقوم بأخذ صور للشباب والشابات الراغبين في العمل، ثم تسجل معلومات مثل الوزن والطول، وتسأل بعض الأسئلة الخفيفة، وبعضها كان محرجا.. لكن لا مشكلة.. "هل لديك أسرة.. أعني هل أنت متزوج؟" "لا..." "هل لديك أطفال من علاقة غير الزواج؟" "لا..." كان يكذب.. ولا يكذب.. فهو لا يدري ما الذي حل بماليدا.. وبدا متماسكا، كان قادر على احتواء الأكاذيب، وسمع السؤال التالي: "هل تمارس الجنس كثيرا.. هل أنت كائن شبق، إذا لم يكن كذلك هل تمارس العادة السرية بشراهة.." كانت الشابة الصومالية تسمع وهي غير مهتمة فهذه الأجواء عادية لها، وكررت الموظفة الإنجليزية عملها الذي اعتادت عليه وبات روتينيا، دون أي إحساس مخجل.. رد جعفر: "ليس كثيرا.. لا اهتم بالجنس إلا..." "... نعم ماذا؟، كل المعلومات الدقيقة هنا مهمة لأجل اختيارك في العمل.." "إلا إذا وجدت فتاة أو شابة جميلة قادرة على إغوائي" ابتسمت الفتاة لم تكن جميلة، وجهها شاحب وترتدي نظارة سوداء كبيرة تخفي وراءها غالبا ملامح لا تحب أن يراها أحد.. في ذلك الوقت كانت حسناء قد أدارت رأسها للوراء وهي تستمع لأغنية من سماعتي الهاتف الصغيرتين المتصلتين بالسامسونج جلاكسي الموديل الجديد. مضت أيام، وأيام.. ليكتشف جعفر أنه غير موفق للمهنة، لا يعرف الأسباب التي جعلته غير مرغوب فيه، لكن حسناء أوضحت له: "إذا كنت ترغب فلا تيئس سوف نجرب من جديد ومع مكتب آخر.. هناك العديد من الشركات وكل شركة لها رؤية مختلفة قطعا.." لا يعلم زين كثيرا عن مسار علاقة جعفر وحسناء، يراهما مع بعضهما مرات متفرقة وفي أماكن مختلفة، ولم يشاء أن يتدخل في أمور لا يرغب جعفر في أن يتكلم عنها. غير أنه لم يجد بدا من إخباره في ذلك المساء بأن ماليدا كانت هنا قبل يومين. راقب جعفر، لم يكن في وضعه الطبيعي، قد يبدو مرتبكا، وقال: "وماذا تريد؟" "كانت تبحث عنك.." رد زين بابتسامة ساخرة.. ومعها ارتبك جعفر كثيرا، فقد تحرك ذهنه سريعا في تفاصيل تلك الليلة في روما وطفله المرتقب، ولم يجد من كلام يتفوه به سوى قوله: "إخبرها إذا بحثت عني مرة أخرى أو أدعت أنها تعرفني فسوف.." قبل أن يكمل أسرع زين لإغلاق فم جعفر بأن وضع صفحة يده كاملة عليه، وقال له بعد أن أزاح يده سريعا حتى لا يشعر أحد بالمقهى بما جرى: "لا تقلق كثيرا.. لا يبدو أنها حامل.." تنفس جعفر قليلا، استرخى، وسأل: "هل سألتها؟" "هل أنت غبي؟ كيف سأسألها.. لكن وضعها الخارجي يفيد بذلك.." تبادرت لجعفر فكرة أن يغامر بأي شكل كان لرؤيتها حتى يتأكد من ذلك، ولكن أن يراها دون أن تشعر به، أي من بعيد.. حتما سوف تعود في الأيام المقبلة.. قال لنفسه.. كان قد عاد للشعور بالخوف، حتى لو أن زين طمأنه.. ومرات فكر أن زين يقول ذلك ربما لأنه يفكر في أمر آخر، ألمّ يسرّ له وهما في باريس أنه أحب ذات يوم زميلة جامعية لم تلتفت له أو تلقي له بالا، تشبه ماليدا لحد كبير.. قال لنفسه، هل يريد مثلا أن يباعدني بأي شكل كان ليفوز بها، وهو يعلم أنني لم أعد أهتم بسوى حسناء.. ومن ثم غالط نفسه، هل أنا أحبها حقا حسناء أم أبحث من خلالها عن مستقبلي، أم ربما أتسلى بها لو استطعت هذه القاهرة والقوية والشجاعة. انصرف جعفر، ليمضي في سبيله دون أن يتذكر ماليدا كثيرا.. في انتظار أن تطل ذات يوم.. ومع الأيام يمكن للإنسان أن ينسى حتى الأشياء المهمة والتي قد تكون سببا في سعادته أو شقائه. كانت حسناء قد شغلته كثيرا، هذه العارضة المميزة التي احتلت صورتها أكثر من مرة صحف التابلويد البريطانية، ماذا تريد منه؟ أو ماذا يريد منها؟ لم يكن له من جواب محدد. بقي زين يتذكر كيف أنه أخبر صديقه، ثم تلاشت تلك الصورة ليراجع بدقة الشقة التي دخلتها ماليدا، وهو متردد هل يضغط على الجرس أم لا، وماذا سيقول لها، وإذا ما حدث أن كان هناك شخص آخر هل يخترع له أي كذبة ما، وما شكلها. ولم يقف ينتظر التوقعات. لا أحد يمكن أن يتصور المستقبل، فالحياة هي بيت المفاجأت. وضغط على الجرس. كان لا يعمل. لا صوت له. قام بالطرق بخفة على الباب الخشبي، مرة، مرتين، ثلاث. أخيرا فتح الباب. لابد أن أحد راقب العين السحرية قبل أن يفتحه. فالناس هنا تتوجس كثيرا لاسيما بعد فوبيا الإرهاب والقتل المجاني، فالغرباء يجب الحذر منهم. وقف عمر بمواجهة زين، ولثوان لم يتكلم أحدهما ولو بالتحية.. ومن ثم سأل عمر: "نعم أيها المحترم ماذا تريد؟" "مممم.." لم يعرف ماذا يقول.. كانت ماليدا قد ظهرت لتغلق الغموض: "نعم هو صديقي بابا.." ربما هي المرة الأولى التي تتكلم فيها ماليدا عن صديق يمكن أن يزورها في البيت، صحيح أن لها أصدقاء منذ أيام الصبا والدراسة، سودانيون وبريطانيون بالأخص ولم يحدث أن أحدهم دخل هنا، فتعليمات عمر صارمة. هذا الوالد التي تراه ماليدا متناقضا، كيف لرجل لا يصلي وكاره لحكومة في بلده يقول أنها تقيد حرية النساء ولبس السراويل أن يطارد حرية ابنته. كان الأمر مفاجئا له ولم يعرف ماذا يقول.. ولدقيقة ظل الجميع صامتين.. أخيرا قال عمر وهو يرى نظرات ابنته: "تفضل أيها الشاب.. أدخل" كان زين جريئا.. لا يعرف الخجل.. دخل. جلس في الصالون الصغير للبيت على كرسي بلاستيكي مغطى بالقماش، ومقابله كان محرر البي بي سي. ولثوان فكر زين أن هذا الوجه ليس غريبا عنه، ثم اكتشف الخدعة أن الرجل يشبه بيليه الأسطورة الكروية، وكان لابد من ابتدار النقاش بأي شكل كان، قال زين يسأل: "حضرتك كنت لاعب كرة قدم؟" ابتسم عمر وفهم المسألة، ولم يعلق.. اكتفى بالابتسامة، ثم قال للضيف: "ماليدا سوف تخبرك" شعر زين بالضيق للإجابة، فهو غير مرغوب فيه إذن، وحلل بسرعة مع نفسه أن هذا الأب ربما هو أحد أسباب خدعة الحياة السيئة التي تعيشها ماليدا، فمنذ أن قابلها في يوم كأسي الفودكا ومن خلال حكايات جعفر عنها لم يشعر بأنها سعيدة أبدا. كانت له قدرة قد لا تكون عميقة لكنها كافية في فهم مشاعر الناس ونظرتهم للوجود ومدى اندماجهم في العوالم من حولهم. قد تكون هي الفلسفة التي درسها في الخرطوم هي التي منحته هذا الشيء، وهذا مبرر ليس مكتملا لأن الفيلسوف لابد له من استعداد مسبق، كان زين يشعر بأنه يمتلكه حتى لو أن توظيفه للفلسفة في الحياة كان سيئا أغلبه. حاول من جديد مع الرجل العصي أمامه، وهو يلمح ماليدا تعد كوبا من عصير التانج المشروب المفضل لبني جنسه، وضعته أمامه على الطاولة الصغيرة. أخذ الكوب الزجاجي الطويل ورشف منه سريعا، وهو يمسك به قبل أن يضعه على الطاولة، قال للسيد عمر: "الأوضاع في السودان ليست على ما يرام لا أحد يفكر في البقاء" نظر إليه عمر، رد باقتضاب: "لا جديد يحدث، هذا الواقع منذ عقود" أحس زين بالحرج، وضع كوب التانج البرتقالي على الطاولة، أستأذن للخروج، قبل أن يقبض عمر يده بقوة، أمسك بساعده وهو يحذره: "لا أراك مرة أخرى هنا أتسمع ذلك.." كان تصرفا غبيا كما بدا لماليدا وكادت أن تصرخ، كانت شكوك الوالد تتعمق وهو يراقب الأوضاع التي جاءت بها ابنته من رحلة ألمانيا، ثمة أمر خاطئ لم تكشف عنه، وكانت لديه خبرة كافية ببعض هذه الأمور ليفهم ما جرى. سألها مرة دون أن يسترسل عن سبب البطء في حركتها، لم تقدم إجابة واضحة، قالت: "عملنا كثيرا في الشهور الماضية.. كما أن ماء البحار يقلق جسدي.. أكثر من مرة اضطررنا للدخول إلى البحر المالح" من جهتها كانت زينب تشعر بذات الشيء. وكلمت عمر دون أن يحرجا البنت.. أغلق زين عينيه وهو في المصعد ينزل لأسفل من هذا الكابوس، لم يكن له أدنى تصور أنه سوف ينجو من هذا الوجه القبيح. لم يرى رجلا بهذا القبح في حياته كما تصور الآن.. عندما يكون القبح بعدا نفسيا لا مجرد صورة نراها في الوجه. كاتب سوداني مقيم في سلطنة عُمان emadblake@gmail.com

المصدر: كيكا

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم