"كوليـــنز" "ساورتني الشكوك حالما وقع عليه بصري. كان جالساً فوق صندوقٍ خشبيّ وراء جذوةٍ تعكس لظاها على نظارةٍ سوداء يضعها رغم الليل. ظلالُ النار لم تخاتلني. حذاءه العسكريّ وبنطلونه وجاكيته وقفّازيه بلونٍ واحد. الأخضر الزيتيّ. يلفّ عنقه بوشاحٍ مرقّط أشبه بكوفيّة فلسطينية. ناصباً سلاحه بين ساقيه. اقتربتُ منه أكثر. لحيته برتقالية خفيفة المنبت ورأسه حليق على طريقة المارينز. أكان هو حقاً. أم شُبّه لي؟
مشيتُ إليه بين مارك ويوسف. وفي خطواتي إليه اجتاحتني ذكرى اندلاع تحقيقات 11 سبتمبر بوادي الشمس. لمّا كنتُ مستهدفَ حملةٍ قادها العميل كينيث وليامز على الطلبة العرب في تمبي. كانت إقامة حنجور في المدينة قد حولتنا إلى زمرة من المشبوهين. سعى العميل وليامز إلى الإيقاع بنا بنبش سجلات مخالفاتنا المرورية وتفقّد التزامنا بقوانين الهجرة. غايته الإمساك بأيّ متورّطٍ محتمل بالهجمات ومنعه من مغادرة الولايات. من نجا مِن سنارة وليامز احتِجز كشاهدٍ ماديّ أو ظلّ متحفزاً. البيت الأبيض أمدّ الفدراليّ بغطاء قانونيّ للتنصّت على هواتفنا ومراقبة حسابات بريدنا الإلكتروني. حتى زراعة كاميرات خفية أثناء تفتيش مساكننا لم تكن مستبعدة. هوس الارتياب بنا ولّد لدينا الهلوسات. الشكوك تعمي السلطات في الأزمات. جرائم الكراهية زادت الوضع احتقاناً. استفحالها دفع بوليامز إلى تأمين مسجدنا. ولحمايته عيّن مسلماً أميركياً نادراً ما كنتُ أراه في الصلاة قبل الهجمات. سمعتُ من شلّتنا عن فقدانه ساقه أثناء عبوره لحقل ألغام أيام جهاده في الشيشان. تحت نخلتنا النحيلة توطّدت علاقتي به حيث كان يقعد على السور المنخفض للمسجد حاملاً سلاحه الناريّ للحراسة. ينحسر بنطلونه قليلاً عن التماع ساقه الحديدية البديلة وهو يحدثني عن ذكريات قتال الروس في القوقاز. حين رفع الرجل خلف الجذوة نظارته إلى رأسه تأكدتُ بأنه هو. اوكاي كولينز بعينيه الرماديتين. الحارس الذي كُلف بحماية مسجدنا في تمبي. المفاجأة التي عصفتْ بي ليلتها لم تبدُ عليه. بل وشتْ نظرته بتوقّعه لقائي. وكأنّي معه على اتفاقٍ مسبق. ضمرنا معرفتنا ببعضنا ولم نبدها لمارك ويوسف. غير بعيدٍ عنّا شاحنة الحمولة. وهج الجذوة يمور على صورة الفواكه على جدار صندوقها المستطيل. كان ملصق الشاحنة التمويهيّ لشركةٍ غذائية. هبّ واقفاً. وأكّد لنا كلمة السرّ. أبومجاهد. صافحناه. وحيّاه يوسف. حمد لله على السلامة. نظرَ للشاحنة قائلاً بلكنةٍ أميركية. تفقّدوا الحمولة. صفّر بأسنانه ونادى باسم مالِك. من الظلام المحيط بالشاحنة بزغ مالكٌ ولوّح لنا بيمينه. ثم فقز إلى دعامية الشاحنة الخلفية وضجّ صليل المزلاج في قفل صندوق الشاحنة الكبير. كان مالك دليله السوري.
يوسف ومارك توجها لتفحّص الشحنة بينما آثرتُ مجالسة كولينز عند الجذوة. بدا الأمر كحلمٍ نسجته خيالات ماضٍ بعيد. لكنّ الرجل أمامي كان حقيقةً كحقيقة إمساكي الآن بالقلم. قعد على الصندوق الخشبي وقعدتُ على الشاغر إلى جواره. مرت لحظاتٌ صامتة. انقضى زمنٌ طويل. بادرني أخيراً. لاحظتُ سماعة شفّافة في أذنه اليسرى موصولة بسلكٍ أبيض ينتهي إلى داخل وشاحه المنقّط. وإذ التمع ما بدا من كاحله الحديدي تبدد ما تبقى لديّ من شكوك. مضت ثلاث عشرة سنة. تابعتُ. انتهتْ بك الدروب إلى المخابرات؟ لا أختلف عنك في هذه كثيراً يا صديقي. تقاطعت نظراتنا. أتمّ قائلاً. كلانا في بلدٍ صار عشاً للمرتزقة والجواسيس".


الرواية صادرة عن دار الفراشة للنشر والتوزيع في 2016 (الكويت).

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم