سمعته بين النوم واليقظة يقول "سلمى ..سلمى" وهو يهز جسدها بيده، استيقظت من دون أن تفتح عينيها، محاولة استجماع نفسها وهي تتأكد من أن ما تسمعه هو صوته. فتحت عينيها عليه بعد أن توقف عن هزها، وجدته قريباً جداً من صورته المطبوعة في ذاكرتها، لكن بتعب أكبر على وجهه المعجون بمصائر كثيرة خلَّفت عليه تذكاراتها. عندما خرجت من بين ذراعيه، أحست بأن جسده أنحف بكثير من الماضي، رأت ووجهه بين يديها ندبة قريبة من عينه اليمنى، مررت إصبعها عليها، فأبعدها عنها بعصبية، ومضى مبتعداً بضع خطوات ثم عاد مطرقاً، مرتبكاً كما لو أنه يلتقي بها للمرة الأولى في حياته. لم تجد سلمى ما تقوله لزوجها العائد بعد غياب امتد لأكثر من ثلاث سنوات، بدت كل العبارات لا معنى لها، ضائعة مثلها مثل غسان البراني الذي بادلها الصمت، وهرب بنظراته إلى إبنها النائم، وقد احتلت وجهه ملامح الفضول والحيرة والحزن، ولتجد في ذلك فرصة لقول شيئاً ذا معنى: - هادا إبنَّا! عاد غسان يتفقده بنظرات مغايرة، كما لو أنه اكتشف للتو أنه ابنه، لكنه سرعان ما أشاح بوجهه عنه، ملبياً نداءً غامضاً في داخله، خرج إلى الصالون، تفقد لوحاته بشرود وهو يدخن سيجارة. بدا غسان ملبداً بنداءات استغاثة لا تجدي نفعاً، استبدلها بصمت عميق ينذر بصراخ حاد في أية لحظة، كانت عيناه ملطختين بمشاهد لا تنسى، كلها كارثية طالته هو بالذات، ونجا منها بعد أن دفع كامل أثمانها الباهظة. كل ما فيه كان يدعو سلمى لاستنفار كامل حنانها، لا بل شفقتها، وأن تغمره ليختبئ بها من العالم، أن يتكور تحتها مثل جنين وهي فوقه على أريكة الصالون، تحيطه كاملاً دون أن يطوقها بذراعيه، محتفظاً بهما متصالبتين على صدره، يريد أن يبقى على ما هو عليه طويلاً أو للحظة كأنها الدهر.. لا تتركيني قال ذلك أم لم يقل، كان على سلمى أن تبقى طويلاً كذلك، وهو لا يأتي بحركة من تحتها، لكنه يزيد من انضغاط جسده طامحاً لأن يتضاءل أكثر. حين خرجا من بعضهما، قال لها غسان: - تعبان كتير فعادت سلمى إلى ضمه من جديد، ثم نزعت عنه ثيابه، وتفقدت جسده وهي تحممه كما لو أنه ابنها الثاني. طالعها وشم لياطر على ذراعه اليسرى، وكتابة بأحرف صينية على منكبه الأيمن. كانت عضلاته على ما هي عليه تتحسسها وتوقظ لذات بعيدة، لتقع وهي تفركه بليفة اليقطين على ندبة أخرى على فخذه الأيمن خلَّفها جرح أطول بكثير من الذي على وجهه. خرجت به من الحمام، ألبسته ثياباً داخلية نظيفة وبيجاما مقلمة، وحين عادت من المطبخ بفنجاني قهوة، وجدته نائماً على الأريكة. أنهضته ومشى متكئاً عليها إلى السرير. لم تمض نصف ساعة على نوم غسان حتى سمعت سلمى إبنها يبكي، فركضت مسرعة من المطبخ إلى غرفة النوم وكلها خوف من أن يوقظه، لكن شيئاً لم يزحزح نوم غسان لا بكاء ابنها ولا صراخه أو صخبه، ولا حتى انفجار قنبلة. كان يغط بنوم لا قرار له، ولولا شخيره العالي لبدا لها ميتاً. نام غسان أكثر من يومين، لم يستيقظ فيهما إلا إلى الحمام، أو تناول شيء من طبخات سلمى الكثيرة التي أعدتها وهو نائم. أخذت إجازة من عملها، أمسى انتظار استيقاظه الشيء الوحيد الذي تفعله، والذي لم ينقطع إلا بزيارة عاجلة من منال. لم تتلق منال أخبار عودة غسان بفرح، أقلقها كثيراً أن يحول ذلك بينها وبين إبن سلمى الذي صار جزءاً من روحها، وروح زوجها الذي كان يتعلل بأي شيء ليأتي إلى البيت ليراه ويلاعبه ويعود إلى ثكنته، لا بل صار يفعل المستحيل لأن يأتي قبل موعد مجيء سلمى وأخذها إياه. وافقت سلمى أن تأخذ منال إبنها معها، بعد أن قالت لها مع غمزة من عينها: - خدو راحتكن! ولتكون أولى خيبات سلمى في ما بادلها إياه غسان من حب، ونجاحه في قتل كل أشواقها المحتدمة لملمسه، للغرق بلذات متزاحمة سرعان ما انطفأت بقسوة صاغها البرود، وتلقي غسان لها كقطعة لحم باردة لا طعم ولا رائحة لها، عليه علكها ومن ثم بصقها بسرعة وجحود وقرف. كل أفعاله كانت تنم عن ذلك، والتي توالت وبقيت خالية وجافة إلى أن أيقظت سلمى على كابوس غبائها وانقيادها الأعمى نحو جنة اعتقدت واهمة بأن من فوقها سيوصلها إليها، سيجعلها تذوق ما غاب عنها طويلاً وهجرها. بذلت كل ما بوسعها لأن تمنع نفسها من رجائه أن يعاود من جديد، ونجحت تماماً بألا تفعل تحت ما يوحي به من شرود ولا مبالاة. حدث كل شيء خاطفاً سريعاً مشوشاً، تكشف عن وعورة ومناطق قاحلة، خلت من تدفق الينابيع وترقرق الجداول، كان الحب أقرب للمصافحة، لتربيتة على كتفي من وقع في هاوية لا قرار لها. صارت تشعر بالقرف من نفسها ومنه، بينما دخان سيجارته يحفر رئتها، تسعل فلا يلتفت إليها، وهي تواري عريها كفضيحة، كخطأ لا رجعة عنه، وحين نهض من السرير أجبرت نفسها على اللحاق به، وجدته في المطبخ يأكل بنهم، يفتح القدور والطناجر ويأكل منها مباشرة، بملعقة كبيرة وجدها في واحدة منها، سألته أن ينتظر قليلاً لترتب كل شيء على الطاولة، فأشار لها بيده ألا تفعل، وواصل انكبابه على الطعام دون أن يقول لها كلمة واحدة. حين عادت إلى البيت بإبنها، سألها: - شو اسمو؟ - عبدالله على اسم أبوك المرحوم! - يعني عبودة! - إيه عبودة. كان يريد أن يواصل حديثه لكنه توقف مانعاً نفسه من المضي إلى أسئلة كثيرة هجمت عليه دفعة واحدة، لدرجة كانت سلمى تنتظر فيها خروجه عن الصمت في أية لحظة، لكنه خيَّب توقعاتها مجدداً، ومع الوقت صارت تكتشف أنه أصبح رجلاً آخر لا علاقة له بغسان الذي تعرفه، متجهماً، غامضاً، لفظ كل بهجته وفرحه في مكان ناء. خافت سلمى على ابنها من غسان، كانت تراقبه كيف ينظر إليه بريبة وشك، دون أن يداعبه أو يبادله كلمة واحدة، وكيف ينكمش إبنها على نفسه متى كان غسان في البيت الذي بقي حبيسه بدايةً، موصياً سلمى بألا تقول لأحد بأنه قد عاد. كانت أياماً شديدة الوطأة، حصار صامت في البيت، تخرج منه كمن يهرب من هلاك قادم لا محالة، لا تمتلك في مواجهته إلا انتشال ابنها منه، وتسليمه لمنال وشعورها بأنها صارت أماً له أكثر منها، خليها تصير أمه أحسن من الخوف اللي عايشتو ومعيشتو فيه ولو فيني خليه دايماً عندها لكان أحسن تستيقظ باكراً، الشوارع ليست كما عهدتها، الأمن في كل مكان، وأحياناً تخرج هويتها لثلاث أو أربع دوريات حتى تصل عملها، والسؤال نفسه دائماً "وين رايحة" والإجابة نفسها "الريجي"، في إحدى المرات استوقفتها الدورية نفسها لثلاثة أيام متتالية، حينها قال لها الضابط الجالس في مقعد السيارة الأمامية بلغة حازمة "يا ست سلمى حاجة مشي خدي الباص أحسنلك"، ولتلتزم بما قاله في اليوم التالي وتحرم من متعتها الوحيدة في المشي صباحاً. عرفت سلمى من غسان أنه أمضى سنتين من غيابه في برشلونة، وأنه كان ينوي الاستقرار هناك لكنه عاد بعد شيء حدث له "من تحت راس ولاد الحرام"، وأنه تعرض لمخاطر كثيرة أوصلته الموت الذي نجا منه بأعجوبة. هذا كل ما قاله لها بعد خمسة عشر يوماً أمضاها في البيت لا يطيق الخروج ولا البقاء، يزداد نزقاً واضطراباً، وليجد في وضعه كرسياً أمام مدخل بناية بيته أول إعلان له عن مجيئه. قابلته الحارة باحتفاء كبير، وأصبح رفاقه وأصدقاؤه يحضرون كراسيهم ويجلسون معه، وهكذا كان يمضي يومه من لحظة استيقاظه حتى نومه، يستقبل ويودع، وإلى جانبه ترمس للشاي وآخر للقهوة وجوب الضيافة، وفي أحيانٍ كثيرة كان يستعيض عن ذلك بترمس براندي أو ويسكي، وكيس حمص. في عصر يوم جمعة بينما كان غسان البراني جالساً على كرسيه وحيداً يدخن لم يجد إلا سيارة "تويوتا" خاكية تقف أمامه مباشرة، ورجل يقول له من الشباك بقرف: - يلا ولاه ضب كلاكيشك وطلاع على بيتك؟ استفزت غسان الطريقة التي خاطبه بها رئيس الدورية فأجابه بتهكم: - ما في صباح الخير! لم يكمل غسان عبارته حتى أفرغ صندوق السيارة الخلفية حمولته من أربعة عناصر انهالوا عليه بالضرب من حيث لا يدري، ولم يتوقفوا إلا وقد تكوَّم على الأرض مضرجاً بالدماء، وسمع ولم يسمع رئيس الدورية يقول: - عم تكبر راسك مع المخابرات يا أخو الشرموطة! حين تحلق حوله أهل الحارة يتفقدونه ويساعدونه على النهوض، اجتاحته نوبة هيستيرية دفعته لضرب كل من لمسه، وراح يضرب الجدران، يصرخ ويسب وهو يصعد درج البناية. حين فتح باب بيته بخبطة من قدمه اندفع يكسّر كل ما يراه، وعندما دخل غرفة النوم وجد سلمى في الزاوية قرب السرير وقد وضعت ابنها خلف ظهرها، فقام بصفعها وركلها مرات لا يعرف عددها، وسلمى تتلقاها وكل ما تفكر به هو منع نفسها من الرجوع إلى الخلف متحاشية أن ترمي بثقلها على ابنها، ليتركها وبكاءها يتبعه إلى الحمام. هناك نظر إلى وجهه في المرآة فرآه مشوهاً ومضرَّجاً بالدماء، بضربة من قبضته تهشمت صورته، صار الدم ينزف بغزارة من رسغه، حينها فقط تبددت نوبته، حل شعوره بالخطر محلها وضرورة إسراعه إلى المستشفى. استقبلت منال سلمى بهلع وهي تطالع آثار صفعات غسان على وجهها، ولم تصدق ما قالته لها من أنها المرة الأولى التي يضربها بها. سألتها منال أن تبيت عندها كون زوجها مناوب والجيش في حالة استنفار. في حوالي الثامنة مساء تركت منال سلمى وإبنها في بيتها وعادت بعد قليل ومعها أدهم سراج. كان وجه أدهم سراج مليئاً بالغضب، ولم يتبادل كلمة واحدة مع سلمى التي مشت إلى جانبه تقطع شارع "بورسعيد" نحو بيتها في "الزاروب"، لكنه حين رأى غسان البراني بوجه مليءٍ بالجروح وعين مزرقة ومنتفخة، تغيرت معالم وجهه واستعاض عن الغضب بالارتباك والحيرة. تداخلت مشاعر أدهم سراج، نسي تحت وطأتها ما الذي جاء به إلى هنا، سرقته مفاجأة أن يرى غسان البراني بكل عنفوانه مكسوراً ومهزوماً بهذا الشكل. لم يجد أدهم شيئاً ليقوله، لم يعطه غسان أية فرصة، فما إن انتهى من سرد ما تعرض له حتى اندفع فجأة باتجاه سلمى وهو يرجوها أن تسامحه، بتذلل، بشعور صادق بالندم، وهو يدعو ربه أن يكون قد قطع يده قبل أن تمتد إليها، ملتفتاً إلى أدهم قائلاً: - والله أول وآخر مرة. عادت سلمى وابنها إلى البيت، عاد غسان إلى سابق عهده في غيابه أياماً، وتباينت مواعيد ظهوره، وأحياناً كان يمضي في البيت ساعة أوساعتين لا أكثر، حتى أن سلمى صارت تستغرب ما الذي يجيء به إلى البيت، يجلس شارداً، يسألها عن أحوالها، بالكاد يسمعها، أحياناً يترك مبلغاً من المال على طاولة المطبخ ويمضي، وفي مرات كثيرة لا يفعل، وإبنها منكمش على نفسه في حضوره، يحاول غسان أن يلاطفه، لكن عبثاً، ما من استجابة. كانت سلمى على يقين بأن ما يدفع غسان لزيارتها هو شعوره بالذنب ولا شيء آخر، ولعله كان يتذكرها فقط حين يتذكر مشهد إقدامه على ضربها، كل تصرفاته تفضح مشاعره، وعندما صار متأكداً من أن آثار ما فعله انحسرت، أصبح غيابه أطول، تناقصت زياراته، اقتصرت على مرة أو مرتين في الشهر، إلى أن جاءها مساء يوم اثنين وقال بتوتر بالغ بأنه سيسافر من جديد، وعندما ودَّعها ضمَّها بشدة أجفلت منها سلمى، وأمسك بابنها رغماً عنه وضمه أيضاً غير مبال بممانعته وتخبطه، ثم قبَّله من دون أن ينجح كل ما فعله لتفادي قبلته، وقال لسلمى: - رح تكون غيبتي طويلة.. ديري بالك عليه والله إنو ولد كويس. رغم انعدام أي شيء جديد في ذلك، إلا أن سفره هذه المرة بدا لسلمى مغايراً عن كل ما سبقه، محمَّلاً بنكهة مختلفة تماماً، وسكنها إحساس أقرب لليقين بأنها المرة الأخيرة التي ستراه فيها. لحقت به، نزلت الدرج ولم تعثر عليه في "الزاروب"، خرجت إلى شارع "بورسعيد" كونه الشارع الذي سيفضي به إلى المرفأ ولم تر له أثراً، عادت إلى بيتها وهي تتذكر بأنه لم يحزم أمتعته، لم يأخذ حتى معطفه المطري، اختفى بسرعة غاب تبخر خلص ما في غسان تحول غسان البراني إلى غيمة عابرة، فاصل وجيز، صار يغيب عن ذهن سلمى تحت وطأة أيام أشد ثقلاً وتخبطاً، ويظهر بقوة أمام حاجة ماسة له لتواجه موجات هائلة من الخوف غمرتها وحيدة. ليال كثيرة مؤرقة بأصوات مكبرات الصوت التي تحملها سيارات المخابرات، وأحياناً من مآذن الجوامع وسلمى تسمع "يحظر التجول حظراً باتاً من الثامنة مساء ولغاية السادسة صباحاً"، ولتستيقظ في السادسة بعد أن يكون قد غافلها النوم على أصوات مكبرات الصوت وهي تجدد حظر التجول. أصبح ذهابها إلى العمل متقطعاً، وانقباضها شديداً إن تمكنت وذهبت إلى العمل، حيث كانت العاملات ينظرن إليها بريبة شديدة، وكثيرات ممن كن قريبات منها لم يعدن يبادلنها أي حديث، ومع تخفيض الإنتاج إلى حده الأدنى، منحت إجازة لم تطلبها، وقال لها مديرها المباشر: - إجازة لمصلحتك! لم تسأل سلمى عن مصلحتها في هذه الإجازة إلا أن المدير أكمل قائلاً: - يلا بتهدى الأمور وبيمشي الحال. لكنها أدركت أن ما يحدث خطير جداً، ولم يخب حدسها بأن القادم أسوأ، فما هي إلا أيام حتى انفجر دكان أبو خليل، الذي باعها كيلو لبن بدا لونه الأبيض ناصعاً جداً بين الجدران المتفحمة من جراء قنبلة يدوية وضعها له رجل في الميزان بعد أن قال له "السلام عليكم".. - والله حط القنبلة وركض وركضت وراه فورا ونفدت بقدرة قادر - الحمد الله عالسلامة وأردفت سلمى بسؤاله بسرعة وقبل أن تفقد فضولاً هبط عليها على غير العادة: - ليش عملوا فيك هيك؟ - قال لأني ببيع كحول .. خلص بطلنا .. ستين عمرو.. لم يكن يؤرق سلمى ما تعيشه نهاراً، مهما بلغ سوءه، كان الليل كل ما تفكر به في نهارها، ويجعلها في حالة ترقب محفوفة بالهلع، أعصابها مشدودة، خلاياها مستنفرة، وكلما ازداد الليل إيغالاً بالعتمة تخبطت أكثر في بحر من الغموض، مع مفارقة النوم لها وهي تسمع صوت طلقات نارية متفرقة، وأحياناً متواصلة وقريبة جداً من بيتها، تستمر لساعات، تختفي فجأة، ثم تعود أشد ضراوة، مترافقة مع صرخات، وحركة دائمة لسيارات تزأر محركاتها ممزقة أدنى أمل بسكينة وهدوء. خوفها الأكبر اندلع ليلة استيقظت في الرابعة فجراً على صوت دعسات ثقيلة لأرجل كثيرة تتدافع على درج بنايتها، وخبطات قوية على باب البيت في الطابق فوقها، وامتزاج الصراخ بالصفعات والشتائم، وصوت واحد يعلوها جميعاً، جهوري وخشن يسأل "وين ابنك ولاه منيك.. وين مخبيه"، ومن ثم صرخات تأتي من الدرج مباشرة تبينت سلمى من خلف باب بيتها صوت أم هشام بوضوح وهي تبكي وتولول وتقول "لك وين آخدينو للحجي"، سلمى تسمع كل ذلك معانقة إبنها الذي نجحت بإيقافه عن البكاء ومنع نفسها بمعجزة من أن تنخرط بنوبة بكاء أشد وهي تتخيل أبو هشام الستيني يتلقى كل تلك الصفعات التي تسمعها وهم ينزلون به. ما هي إلا دقائق حتى دخل أربعة جنود بثياب مبرقعة بيتها، مدججون بكامل عتادهم بما في ذلك الحراب اللامعة على بنادقهم، ولتكون هذه المرة الأولى التي ترى فيها جنوداً منذ بداية الأحداث. تبعهم بعد دقائق رجل بثياب مدنية أدى له الجنود التحية مع خبطات مدوية من أرجلهم اهتز لها البيت، وقال له أحد الجنود بصوت عال جداً "تمام سيدي.. البيت خالي"، وليلتفت ذاك الرجل ببرود إلى سلمى ويسألها بصوت بالكاد سمعته إن رأت هشام هوشه، وحين نفت ذلك، سألها بنبرة مختلفة توحي بأنه لا ينتظر إجابتها، عن زوجها واسمه ولم هي وحيدة، لتجد نفسها تقول له إنه بحار وهو مسافر الآن. ظلت سلمى لدقائق ترتجف من الخوف، ولم تستجمع نفسها إلا حين انتبهت إلى أنها ما زالت واقفة قرب الباب حاملة ابنها تكاد لا تشعر بوزنه على ذراعها ولا بنظراته الهلعة. لم تهدأ حركة الجنود حتى الصباح، ورأت سلمى أشياء كثيرة من شباك بيتها لم تجد لها تفسيراً، طناجر وقدور وكراسٍ وغير ذلك من أثاثات البيوت يرميها الجنود من الشرفات، رجالاً منبطحين على الأرض وأيديهم موثوقة خلف ظهورهم، وآخرون يزحفون والجنود يرافقونهم مشياً ويحثونهم على الإسراع بركلهم "يلا أسرع ولك". ومع توالي الساعات، أصبحت سلمى تحت سطوة هواجس لا تجد ما يوقفها، صارت تتخيل أن الجنود سيدخلون بيتها في أية لحظة ويطلقوا النار عليها وابنها، أو أنهم سيفجرون "الزاروب" بكامله، وهم الآن يزرعون العبوات في كل مكان وما هي دقائق حتى تدفن هي وابنها تحت جدران البيت. تحت وطأة هلعها المتزايد خرجت وابنها من البيت في العاشرة صباحاً، وما إن خطت خارج مدخل البناية حتى سمعت ثلاث صرخات من ثلاث اتجاهات مختلفة تقول الكلمة نفسها "قف"، فتجمدت في مكانها، والتصق ابنها بها فأحاطته بذراعها وقربته أكثر، وهي تنظر إليه بسنواته الخمس وتقول لنفسها يا الله ما أحلاك.. يا الله شو بحبك وانتا الوحيد الي بتحس فيني حتى صرت ما تبكي حتى ما تزعجني اقترب منها جندي كان أمامها مباشرة وأنزل بندقيته التي كانت موجهة نحوها وقال لها: - وين رايحة؟ ممنوع التجول! وجدت سلمى كلمات خرجت إلى لسانها قالتها من دون أن تفكر أو تعرف ما تلفظت به: - إبني ساخن وأنا لحالي.. بدي روح لعند إختي ما عندي دوا وهي عندها.. ليك البيت هالكام متر. قالت ذلك بسرعة وقف أمامها الجندي مشدوهاً، واحتاج لثوان ليلتقط معاني ما سمعه، ثم اقترب من ابنها ليتفحص حرارته لكنه أبعد يده عن تحسس جبهته في اللحظة الأخيرة وهو يلوم نفسه على قيامه بذلك. سألها عن هويتها وصرخ بصوت عال بعد تصفحه الهوية: - سيدي في مرا وابنها بدها تمر لحالة طارئة سيدي؟ ولتأتي الإجابة بمكبر الصوت ومن جهة لم تتبينها: - خليها تمر بسرعة! - حاضر سيدي. ومضى الجندي يرافقها وقد خيم سكون هائل على شارع "بورسعيد" الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، و احتلت أكياس الرمل كل مكان. بدا الهدوء الذي رافق سلمى في طريقها القصيرة إلى بيت منال مسكوناً بكل أنواع الرعب، متخماً بصمت على موعد مع الانفجار في أي لحظة، رأت سلمى وهي تهرول إلى جانب الجندي رتلين على يمين ويسار الشارع يتقدمان لصق المباني والجدارن باتجاه "الطابيات" حتى أن الجندي اضطر إلى دفعها هي وابنها حين كان عليهما أن يقطعا الرتل. استقبلتها منال وهي تقول لها بأنها كانت ذاهبة لكي تحضرها، لأن الأمور صارت خطيرة جداً، وأخبرتها كمن يروي قصة مسلية بأن "الوحدات الخاصة" و"سرايا الدفاع" نزلت إلى الشارع لتحسم الأمر، وأن عناصر الإخوان صاروا محاصرين في الطابيات وصولاً إلى الحرش. أعدت لها القهوة، وأمضيا كل الوقت وهما تراقبان الشارع من خلف "أباجورة" تركتها منال مواربة لهذا الغرض، وكل ما يظهر أمامهما طيلة جلوسهما الطويل أكياس رملية استقر خلفها الجنود، وسيارة تويوتا حمراء وبيضاء مليئة بعناصر الأمن تسير ببطئ وحين تصل الدوار الذي يفضي إلى "الطابيات" تدور حوله لمرتين وتعود من حيث أتت، لتعاود من جديد الحركة نفسها. قضت منال على كل مخاوف سلمى، وتحول ما يحدث إلى فرجة مسلية ليس فيها إلا المتعة، الأمر الذي انتقل إلى ابن سلمى الذي كان يلعب على السجادة بالجنود الذين رتبهم في رتلين وضع كل واحد منهما لصق أريكتين متقابلتين في صالون منال، وتعامل مع المكعبات كما لو أنها أكياس الرمل راح يضع خلفها الجنود. بعد ساعتين من وصول سلمى، توقفتا عن متابعة ما يجري في الشارع، وانتقلت منال إلى أحاديث أكثر تسلية، سرعان ما انقطعت مع دوي انفجار أعادهما إلى الأباجورة المواربة لتريا منها السيارة الحمراء والبيضاء مقلوبة على ظهرها، ومن ثم بدأت سيارات الاسعاف تهرع، إلى أن تجمعت ثلاث سيارات قرب السيارة المهشمة التي لم ينج منها إلا اثنين كانا مضرجين بالدماء، ولتأتي بعد ذلك سيارة إطفاء قامت بغسل بقعة دم هائلة خلفها العناصر الذين كانوا في السيارة. أصبح السكون مجدداً أشد وطأة، لا يخترقه إلى أصوات اللاسلكيات، التي غابت تماماً مع أزيز الرصاص والتفجيرات التي اندلعت فجأة ودفعة واحدة، ولم تعد تتوقف إلا لتزداد ضراوة، ولم تنجح سلمى ومنال في مواراة خوفهما على الطفل، ووجدتا أنه من الأفضل الابتعاد عن الصالون والجلوس في الممر الخالي من أية نوافذ، وللتخفيف من الخوف صارتا تتناوبان على الذهاب إلى الصالون بحذر والتلصص على الشارع الذي كانت تتقدم فيها الوحدات العسكرية باتجاه الطابيات. منال صارت تضحك وتقول: - أخرا شي تكون الوحدة متزوجة من ضابط.. هلأ عرفت! وسلمى تضحك وتقول: - لأ الأخرا تكوني متزوجة من بحار! مع استمرار المعارك صارت سلمى ومنال أكثر تعوداً واسترخاء، لا بل نجحتا في دفع عبودة إلى النوم، ونامتا بدورهما لأكثر من ست ساعات وكل ذلك في الممر. وفي صباح اليوم التالي بقيت أصوات إطلاق النار والقنابل على غزارتها لكنها أمست بعيدة، إلى أن انحسرت تماماً في المساء. وفي صباح اليوم الثالث قامت "سرايا الدفاع" و"الوحدات الخاصة" بتمشيط كامل منطقة "الطابيات" وصولاً إلى الحرش، والتمركز فيها، ثم عاودت من جديد تمشيط شارع "بورسعيد" وحي "الصليبة"، وامتد الأمر إلى حارات "الشحادين" و"القلعة" و"العوينة"، بحيث شمل التفتيش كل بيت أو زاوية أو ركن، وتم القضاء على كل مصادر النيران، وسحق العصيان المسلح، مع ترافق ذلك بحملة اعتقالات أوسع لكل منتم لحركة الإخوان المسلمين أو مشتبه بانتمائه أو لمن ساعد أحداً من عناصرها.

روائيّ سوريّ الرواية صادرة عن دار المدى 2012م. الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم