"متى وجدناه (الترجمان) أيضاً قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخلَ الضيمَ عليهما، لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها" (الجاحظ، كتاب "الحيوان").

"قد تكون (الترجمة) تضليلاً وخداعاً، تزويراً واختراعاً، وأكذوبة بيضاء"؛ ومن يشارك فيها "يصبح أذكى، يتحول إلى قارىء أفضل: أقل اعتداداً بنفسه، لكنه أكثر رهافة في أحاسيسه، وأكثر سعادة" (ألبرتو مانغويل، "تاريخ القراءة").

الفصل الأول : قتيل في غابة الأرز

التهمتني مثل ثمرة، وبصقتني مثل نواة. أمسكتني بضربة يد واحدة. بيدها اليمنى أخذتني بثقة آمرة. انقدتُ إليها. جعلتني أتبعها، فلا أمشي إلى جانبها. هذا ما حدث في غفلة مني، مثل من يتعثر في مشيته، فإذا به ينزلق. وقبل أن يتحقق من انحداره المتتابع، يسلم قدميه، بل جسده كله، للانحدار المتسارع، بل يلتذ بما يحصل له، إذ يفقد أي رقابة على جسده، وعلى ميلانه المتناهي صوب الانحدار. انحدار، بل استرخاء ممتع، كما في أحلام الليل، أو في رغبات النهار الصاحية، في عتمة الفراش، بين رخاوة المخدة وليونة السرير المتجاوب. قطفتني برغبة حاسمة، قبل أن تتناولني بلمساتها المتلاحقة.

أكتب هذا في اليوم التالي، في المقهى عينه، وقد انتهى بي انحداري إلى وقفة صادمة، مباغتة ونهائية، ينتهي فيها النازل إلى مراجعة قد لا تكون سعيدة، حتى للحظات المتعة أو دقائقها المتسارعة، إذ نسي جسده، بل حمله إلى غابات كثيفة وظليلة في الوقت عينه، إلى غابة الليل التي في الجسد. دخلتُ إلى المقهى، هذه المرة أيضاً، من الباب عينه، كما قبل يوم، وكما في زياراتي السابقة. دخلت من الباب الثاني، الذي يفضي على "ساحة بروغلي"، واتجهت إلى المقعد عينه الذي وقع نظري فيه على نظرها. كان مقعدها خالياً، اليوم، وما كانت تنتظر نظري كما قبل يوم. كنت أتجه يومها إلى مقعدي الاعتيادي، المطل جانبياً على الساحة، لكنني اتجهت بقوة مغناطيسية خفية إلى الجهة المقابلة، إلى جانب طاولتها. لكنني خرجت على عجل، وسلكت درب المكتبة المجاروة للوصول إلى الفندق. لم أحسن الوصول إليه في الأزقة الداخلية، قبل أن أستل من جيب معطفي "دليل ستراسبور"، طالباً الوصول إلى محطة القطار: إنه "فندق الراين"، الواقع مع فنادق أخرى مقابل المحطة الدولية... إنه الأرخص سعراً بينها... وجدتُ عاملة الفندق، ذات النظارتين السميكتين، التي التقيتها يوم أمس، عند دخولي إليه معها. لم تجبْ عن أسئلتي كلها، بحجة أنني لست شرطياً أو محققاً بوليسياً. ولما ألححت في السؤال عن اسمها، عن عنوانها، عن مكان انتقالها، أجابتني بشدة: مدير الفندق أجاب عن كل الأسئلة، وهي في عهدة الشرطة. زادت أسئلتي لها، وزاد امتعاضها مني. أنهت الحديث معي بالقول: اسمعْ... نزلتْ في الفندق قبل يومين، وغادرتْ ظهر البارحة، بعد دقائق قليلة على مغادرتك الفندق. إنها ألمانية، واسمها في بطاقة الهوية: دانييلا شوغولا. حللت في مقهى قريب من الفندق، مقهى "الإكسبريسو"، حاملاً معي أسئلة كثيرة، وأجوبة قليلة. كان في ودي الصعود من جديد إلى الغرفة: رقم 12. لم يبقَ شيء من دون شك. لم يبقَ سوى الصدمة التي جعلتني أنام ليلة أمس مثل الملسوع، أتقلب بين أخيلة قبيحة، تتخللها صراخات صوتها. في المقهى لم أتردد في وصل شبكة هاتفي الجوال بشبكة المقهى، وفيها بـ"غوغل" للبحث عن: دانييلا شوغولا. كانت الخيارات عديدة، متاحة: أي دانييلا بين كل هذه الأسماء المتتالية، التي تحيل على أسماء ألمانية في الغالب؟ وجدتُ أكثر من دانييلا واحدة في المحفوظات الإلكترونية: أميرات، جامعيات، كاتبات، راهبة "هاربة" من ديرها، شابة بلباسها العاري للسباحة، من دون أن تشبه الغائبة، وهي أصغر منها عمراً.

عدتُ إلى "مقهى بروغلي" في يومين متلاحقين، ما لم يكن في عاداتي أبداً، إذ كان لي فيه موعد أسبوعي فقط، فيما أكتفي، في أوقات فراغي، بالتجول في ستراسبور، مدينتي الجديدة. اخترت هذا المقهى بعد أن وقعت عليه في منتهى نزهتي في اليوم الأول، الذي قررت فيه التعرف على المدينة. خرجت من "فندق إسبلاناد"، ورحت أمشي بعكس سكة الترامواي، في خط مستقيم، ثم درت يساراً صوب جسر، ومنه وصلت إلى فسحة عريضة تتخللها منصات ومحلات بيع لباعة متجولين. لم أكن أرغب في أي ضياع، طالما أن أموراً عديدة تنتظرني وتشغل أوقاتي وأيامي: من السكن حتى العمل مروراً بدائرة الشرطة، قبل أن أتفرغ تماماً لعملي الجديد، ولمشروعاتي المثيرة التي قادتني إلى هذه المدينة. ضمنتُ لنفسي، يومها، طريقاً هيناً، واضح الانتقالات، فيما رحت، بعد تأكدي من موقع الساحة العريضة، "ساحة بروغلي"، بالنسبة إلى خريطة طريقي، أتنقل في الشوارع المتفرعة منها. في جميع زياراتي للمقهى، يوم الجمعة قبل الظهر، قبل العاشرة صباحاً، أقتعد الطاولة نفسها، على مقربة من الباب الزجاجي، لكي أحسن متابعة ما يجري في الشارع، وفي داخل المقهى في الوقت عينه. أهذه من عادات المترجمين: أن يكونوا بين مكانين، في الخط الواصل بينهما؟

لم أعد أطيق البقاء في شقتي الصغيرة. ما كان يبدو اكتشافاً وتعرفاَ على المدينة، راح يتحول إلى ضيق وتبرم فيها. أخرج مثل تائه، لا مثل باحث عن وجه ضائع. في المقهى، أو خارجه، لما أكون ساهماً في مقعدي في "الترامواي"، أو مستلقياً على سريري الضيق، أو لما أكتب في دفتري الأزرق، أو أسهو أثناء قراءة أحد مجلدات "ألف ليلة وليلة"، أستعيد ما حدث لي مع دانييلا: ما أن جلستُ في "مقهى بروغلي" حتى بادرتني الكلام كما لو أنها تنتظرني، أو تستكمل حواراً مقطوعاً للتو: - من هنا يمكن رؤية الداخلين والخارجين في صورة أفضل. = بطبيعة الحال، هذا ما أقوله لنفسي دوماً. لم يتح لي طلب فنجان القهوة كالمعتاد، ولا سماع جملتها الثانية، التي قالتها من دون أن أتبينها تماماً، إذ أمسكتْ بيدي اليمنى، ودعتني إلى اللحاق بها. مضتْ أمامي، من دون أن تلتفت إلى ورائها، بثقة من يعرف، بل من يحسن تنفيذ الأوامر. لحقتُ بها، على الرغم من أنني لم أسمع جملتها الأخيرة بسبب تعثرها في النطق. وهو ما تأكدتُ منه إذ وجدتُ يدها، وهي ممسكة بيدي، مرتبكة هي الأخرى. في الشارع ذي البلاطات السوداء مشت إلى جانبي، بخطى حثيثة: - لا يبعد الفندق سوى خطوات قليلة. عن أي فندق تتحدث؟ نظرتُ إلى وجهها من دون أن أراه تماماً. كانت تسبقني بقليل. ما أتيح لي رؤيته كان معطفها الخفيف ذي اللون المعتم. كانت تمشي بانتظام، بعد أن فكَّت يدها عن يدي، من دون أن تقول شيئا مزيداً. حاولتُ أن أتلفظ جملة، فأتت متناثرة، مثل قرقعة كلام ليس إلا، فإذا بها تقول من دون أن تحيد عن مشيتها النظامية: - هل وجدتَ المسافة بعيدة؟... لا تتبرمْ. سنصل بعد قليل. لم أجبْ. اكتفيت بالانتباه إلى أن في حديثها بالفرنسية لكنة ظاهرة. قنعتُ بالمضي قدماً إلى جانبها، من دون أن أنعم بغموض المشي المتمهل في شوارع وأزقة ستراسبور الداخلية. فقد حلا لي، منذ حلولي فيها، قبل ما يزيد على الشهر، التمشي من دون خريطة، وفق إيقاع غامض. أمشي بتمهل ناظراً، بل ممعناً في النظر إلى ما يعرض لي. كما لو أنني أقرأ في واجهات عماراتها، أو في علامات السيارات والحافلات، أو في هيئات العابرين والعابرات، ما يمكن مطالعته مثل حروف أو ألفاظ في كتاب وقعتُ عليه صدفة، واندفعتُ في قراءته من دون استهداف مسبق. بمجرد وصولنا إلى الفندق ذي الواجهة الزجاجية، طالبتْ الموظفة بمفتاح غرفتها: رقم 12. أشارت إليها من دون أن تلتفت إليها: لا تنسي، ساعة المغادرة في الثانية عشرة ظهراً. كانت قد أمسكت بالمفتاح، وتأكدت من لحاقي بها. ضغطتْ مرة، ثم مرتين، ثم عدة مرات على زر المصعد الكهربائي... دعتني إلى الصعود مشياً، فيما كانت موظفة الاستقبال تُخطرنا بأن عاملة التنظيف تشغل المصعد لعدة دقائق أثناء عملها الصباحي.

ماذا لو تزورني دانييلا؟ كيف لها أن تعرف عنواني، وهي لا تعرف اسمي أساساً؟ لم يكن الانتقال من "فندق إسبلاناد" إلى شقتي الجديدة بالصعب، إذ يقع الفندق على مبعدة خطوات قليلة من الحي الجامعي المعروف باسم: "اسبلاناد"، هو الآخر. اقتصر الأمر على نقل حاسوبي الصغير، وحقيبة جلدية بسيطة، بعد أن وصلتْ قبلي إلى المدينة حقيبتين لثيابي، الشتوية خصوصاً، وصندوقاً كبيراً لبعض كتبي. كانت الشقة صغيرة، تقتصر على منامة وصالون استقبال صغير، فضلاً عن الحمام والمطبخ. كانت تقع على مسافة عشرات الأمتار من فندقي الذي أقمت فيه لأيام قبل تجهيز الشقة. والشقة نفسها لم تكن تبعد سوى أمتار قليلة عن المباني الجامعية المختلفة. هذا ما جعلني أتنقل في فضاء محدود، ما خفف من شعوري بالغربة الغامضة. حللت، واقعاً، في مدينة أخرى، مدينة ثانية، مدينة مختصرة، إذ كان في إمكاني ألا أغادر الحي الجامعي وأقضي فيه حاجاتي كلها: من المكتب إلى قاعة المحاضرات، ومن المطاعم الجامعية الأربعة إلى المكتبات الجامعية المختلفة، ومن المراكز الصحية للخدمات السريعة إلى المراكز الرياضية المتعددة، فضلاً عن لقاء الزملاء الذين اتخذ بعضهم شققاً في الحي، أو على مقربة منه، أو لقاء الطلبة أنفسهم، ممن توزعوا في أكثر من ثمانية منازل خاصة بهم... بل يمكن زيارة تواريخ مختلفة، وأنا في الحي، إذ أتعرف فيه على مبان لها زخارف خصوصية، كما في مبنى "المدرسة العليا للفنون الزخرفية"، الذي يبدو قرميده الأحمر نافراً بالمقارنة مع الأبنية الأخرى، التي تحيل على أساليب البناء في ستينيات القرن الماضي. وهناك غيره من الأبنية التي تتميز بخضرتها، حتى إن أحدها يمتاز بعشبه الصاعد على جدران المبنى... هذا ما قرأت في "دليل" الجامعة، قبل أن أحل في شقتي. هذا ما رحت أعايشه يوماً بعد يوم، في تجوالي فيه. كانت أيامي الأولى مرتبة، كما في جدول القطارات الذي يفوق دقة جدول الطائرات، على ما تأكدت عند مجيئي من بيروت إلى باريس، ثم في القطار من مطار شارل ديغول إلى محطة ستراسبور: تأخرت الطائرة أكثر من ثلث ساعة قبل إقلاعها من بيروت، فيما انطلق القطار من محطة موصولة بالمطار في الوقت نفسه، في الخامسة بعد الظهر وسبع دقائق، ووصل في الوقت المعلن عنه سابقاً إلى ستراسبور، أي في الثامنة مساء ودقيقتين. وصلتُ إلى المدينة قبل أسبوعين من التحاقي بعملي الجديد. اقتصر وقتي، بعد حلولي في الشقة، قبل خمسة أيام على مباشرة عملي، على توزيع أغراضي في الشقة. كانت الأمور ميسرة، مناسبة لغير أستاذ سبقني إلى السكن فيها. اتخذتْ الأغراض أمكنتها المناسبة بيسر شديد، ووزعت كتبي فوق رفوف مناسبة موضوعة خصيصاً لها، سواء في مدخل الشقة أو في جهة مقابلة للشرفة الصغيرة في صالون الاستقبال. لكنني احترت بالمقابل في وضع مكتبي: وضعوه في غرفة النوم، بين حائطين، ما أزعجني تماماً. فكان أن نقلته إلى المطبخ، وجعلته طاولة أكل، فيما اتخذت من طاولة الأكل في الصالون مكتباً لي. وقد قمت بتوزيع مجلدات القواميس المختلفة فوقها، ما جعلها تحيط بالحاسوب. ولكن، ماذا أفعل إن دعوت أحداً إلى الأكل؟ هل يأكل معي في المطبخ، حيث يحلو لي الأكل؟ ماذا أفعل بدانييلا إن حلت فجأة؟ هل أوبخها على فعلتها المشينة أم أصفح عنها؟ هل أستقبلها في سريري الخشبي الضيق أم فوق الكنبة العريضة في الصالون؟ الجواب معلق، إذ لم يزرني أحد في الشقة، وقلما أكلت فيها: الفطور في مقهى مجاور، والغداء مثل العشاء في أكثر من مطعم جامعي مخصص للطلبة. هذا ما يناسبني إذ كنت طالباً وأستاذاً في الوقت عينه. هذا ما لن يريح والدتي لو عرفت به. هذا ما علمتْ ببعضه في اليوم التالي لمغادرتي سن الفيل: عاتبتني في الهاتف، بعد الاطمئنان على سلامة وصولي، لأنني أبقيت الحقيبة المحشوة بمواد الأكل الجاف مركونة في زاوية من خزانة ثيابي: احتفظتُ منها بعلبتَي بن... هذا ما أحتاجه، فأنا لن أُقبل على أي عملية طبخ، إلا في الحدود الدنيا، فيما رتبت مكاناً إلى جانب النافذة لحبقتي الصغيرة.

انقطعَ خبرُها تماماً. لن تكون هناك تتمة لما جرى بيننا. كيف لها أن تستعيد صلتها بي وقد سرقتني؟! ما جمعَ بيننا هو أقل من صلة عابرة، ومع ذلك فهو يحرقني ليلة بعد ليلة، ما أن تحوم دانييلا بجسدها فوقي، في الأخيلة التي تراقصني وتجندلني واقعاً. التهمتني فعلاً مثل ثمرة، ولفظتني فعلاً مثل نواة. تناولتْني بلمسات متتالية، كما لو أنني فتاها الذي يصلح لتمارينها المتتابعة. بأقل مما كان عليه عمري، الطبيعي كما الجنسي. ذلك أنها لم توقعني في شباكها، لم تبذل مجهوداً كبيراً لجرِّي خلفها، إذ انقدت إليها بيسر، من دون أن تبادلني حتى غمزة عين. انقدتُ إليها بطواعية، مثل من يسلم نفسه لريح تداعب جسمه على مقدمة سفينة وسط البحر. كانت تقطفني، تتلقفني، تقلبني من دون طلب مساعدة. كنتُ طبقَها ومائدتها من دون أن تحتاج إلى توابل أو بهارات أو أدوات أكل. يداها تكفيانها، عدا أن جسدها كان يحرثني مثل حقل في قريتي البعيدة. دانييلا تحل في بيتي ليلاً، ولا تفارقني إذ أستيقظ صباحاً، من دون أن أتبين نقمتي عليها من اشتياقي إليها. كيف لي أن استقبلها في شقتي، ولا شيء فيها يبشر بالاستقبال. أعيش فيها كعابر سبيل، كنزيل فندق، مع فارق بسيط، وهو أن أحداً لا ينظفها: حتى في فندقها المتواضع كان هناك من يعمل، على ما تحققت، على تنظيف الغرف. هذا ما جعلني – في أول قرارات عيشي المؤكد في شقتي – أنتقل إلى مساحة تجارية كبيرة تغص بكل ما يحتاجه أي بيت: من مواد الأكل إلى مواد التنظيف، مروراً بعدة المطبخ اللازمة. هذا ما اقتضى مني تنظيم رحلات متتابعة من الشقة وإليها، بعد أن وضعت خطة ذات بنود لما أحتاجه من مشتريات ومقتنيات. ارتحتُ لِما أقدمتُ عليه: يجب أن أحتاط لأي طارىء. يجب أن تتحول شقتي إلى بيتي، خاصة وأنني مرشح للإقامة فيها على مدى سنة أكاديمية على الأقل. زاد من قناعتي بما أقدمت عليه الحادث المقرف الذي حصل لي في اليوم التالي: اخترتُ يومها العشاء في "مطعم غاليا الجامعي"، وفق خطة قضت مني التنويع والتنقل بين المطاعم الجامعية الأربعة... كنت قد أتيت بصينية الأكل، وشرعت بتناول السلطة، لما وقفتْ أمام طاولة الأكل سيدة تحط على رأسها كيساً بلاستيكياً: - كيف تقبل بأكل هذا الطبق؟ = من تكونين؟ - أنا عاملة في المطبخ. = وما يزعجك في الأمر؟ - هذا ليس باللحم الحلال. = لا يهم... فأنا لست مسلماً. - تتكلم بالعربية، ولست مسلماً، وتأكل لحماً غير حلال... يا إلهي!

ألقيتُ، اليوم، محاضرتي الأولى. لم تكن محاضرة بالمعنى الدقيق للكلمة، كانت أقرب إلى لقاء تعارفي. كانت القاعة مليئة، ما أراحني في أول درس لي، خاصة مع حضور مدير "الدائرة"، البروفسور جاك دورمييه، الذي عمل على تقديمي للطلبة. شرحتُ للطلبة موضوع محاضراتي الدورية: ثلاث ساعات متتالية، يوم الجمعة، بين العاشرة صباحاً والأولى ظهراً، مع استراحات قصيرة، لا تتعدى العشر الدقائق في الساعة الواحدة. وضعتُ لمسلسل محاضراتي عنواناً جامعاً: "الترجمة بين النقل والتأليف". كما أبلغت الطلبة، وهم يزيدون على الستين، حسبما عرفت، بأنني سأعمل على مساعدتهم – إن شاؤوا - في اختيار موضوعاتهم لرسالة الماستر أو لأطروحة الدكتوراه، ضمن حدود اختصاصي بالطبع. فقد كان الطلبة يجتمعون تحت مسمى: "الدراسات الشرقية"، ويتوزعون بين مدارات ثقافية مختلفة (عربية، فارسية، هندية، عبرية وغيرها)، وفي اختصاصات مختلفة تتنوع بين أدبية وثقافية عامة وفنية وغيرها. وكانت الجامعة قد قبلتني أستاذاً وباحثاً في الوقت عينه، على أن ألقي محاضراتي في مسائل الترجمة، ما يثير اهتمامات أعداد من الطلبة، في اختصاصهم الضيق، فيما قد تشكل الترجمة لغيرهم مادة جانبية وإن مساعدة في دروسهم ومشاريعهم البحثية. قبلتْني الجامعة في عدادها إثر مسابقة تقدمَ إليها أكثر من دكتور شاب من المتعاملين مع "المكتب الإقليمي" للفرنكوفونية، وقضتْ باقتراح موضوع بحثي يتم استكماله في فرنسا، خصوصاً في ستراسبور، فضلاً عن ثلاث ساعات تدريس أسبوعية وبعض المتابعات البحثية لعدد من الطلبة. ولقد اقترحتُ على "دائرة الدراسات الشرقية" القيام ببحث يتناول سياسة الترجمة لدى المترجم الفرنسي أنطوان غالان، المترجم الأوروبي الأول لـ"ألف ليلة وليلة". محاضرتي الأولى لم تثرْ اهتمامات الطلبة بدليل أن أحداً لم يستوقفني بعد انتهائي منها. كما لم يزرني أحد في مكتبي المؤقت. وتناقص عدد الطلبة في محاضرتي الثانية، الأولى واقعاً. وبعد انتهائي منها لحقني أحدهم، وسألني بالعربية، وأنا خارج من بوابة القاعة الكبيرة، ما إذا كان في إمكاني مساعدته في إيجاد عمل... ولما أجبته بالنفي، وبكوني جديداً وغريباً في المدينة، اكتفى بابتسامة سريعة ومضى. السيدة التي وبختني في المطعم الجامعي التقيتُها بعد أكثر من يوم، لما كنت خارجاً من المبنى الذي يقع فيه مكتبي. لعلها هي، إذ التقت عيناي بعينيها بمجرد أن تلفظتْ بمساء الخير بالفرنسية، فاقتربتُ منها، وسألتها: - ألي تتوجهين بالتحية؟ = نعم... لم تكمل حديثها بجملة ثانية، فيما كانت تبدو مستعدة لذلك. أدارت ظهرها، ومضت حاملة معها صلحاً وغفراناً لم أتبين معانيهما ولا أسبابهما. توقفتُ قليلاً بدوري متابعاً تقدمها فوق العشب الأخضر، ثم تحت الشجرة الباسقة، متنبهاً إلى أنها كانت ترتدي معطفاً معتم اللون، وتمسك بيد حقيبتها اليدوية، وباليد الأخرى شمسية مقفلة. لعلها هي، وقد أبقت في المطعم الجامعي الكيس البلاستيكي الذي تضعه على رأسها، والثوب البلاستيكي الذي يغطي بقية جسمها.

مكتبي مؤقت، لكنه مريح وفسيح. ورثته، بين هلالين، مثلما قال لي البروفسور جاك دورمييه، مدير "الدائرة"، لما أوصلني إليه، وسلمني مفتاحه: أنت محظوظ، ولو لوقت محدود... ستقيم في مكتب كبير الأساتذة، الذي شغله طوال ما يزيد على أربعين سنة من دون انقطاع. لم يشغل هذا المكتب واقعاً إلا في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن جرى تصميم البناء، وتمَّ نقل الجامعة من مكاتبها الفخمة والمعدودة إلى هذا المجمَّع الجامعي، الذي يشكل مدينة واقعاً: أحياء لسكن الأساتذة، أحياء أخرى لسكن الطلاب، مطاعم ومقاه ومحلات للتبضع البيتي، وفسحات وحدائق مع مقاعدها الحجرية والخشبية، ومظلاتها الواقية من المطر والثلج، فيما تتجول الكلاب فيها بثقة الأليف في نطاقه. توفي كبير الأساتذة قبل شهر ونيف على وصولي إلى ستراسبور، من دون أن يبارحه واقعاً، على ما تحققتُ ذات مساء، إذ فتحتْ سيدة باب المكتب عنوة، وبادرتني بالقول: - أأنت ورثتَه أيضاً؟! لم أفهم سبب دخولها العنيف، ولا وجود رجل بجانبها. راحت تبادله الجمل متتابعة: - لكَ أن تسجل وجود منتفعٍ في مكتبه (متوجهة إلى شريكها الذي كان يدون فوق ورق في ملف ذي غلاف سميك)... من تكون (متوجهة صوبي من دون أن ترمقني بأي نظرة)؟ ما اسمك؟ ابرزْ هويتك... (متوجهة إلى مرافقها)... لعله أفسدَ أو بدد بعض محتويات المكتبة... يجب الحصول على قائمة محتويات المكتبة... لمَ لم يوفروها لك؟ هذا جنون... هذا اعتداء... كنتُ مصعوقاً مما يجري أمامي، من دون أن أقوى على تلفظ أي عبارة. كانت جملها متلاحقة، عدا أن نَفَسها المتلاحق يهيء، بمجرد توقفها بعد جملة، لغيرها من الجمل المتدافعة. شدني مدير الدائرة بيدي، ودعاني إلى الخروج من المكتب... كان يرافقه اثنان من "أمن الجامعة". لم يمضِ المدير دورمييه سوى دقائق معدودة مع الزائرة والمرافقين. بلغني تدافع كلمات متقطع، لكنه ما لبث أن توقف تماماً. اعتذرَ المدير مني بعد خروج المجموعة من المكتب، وربتَّ على كتفي: لن يزعجك أحد بعد اليوم... لو تمر بمكتبي بوم غد. كان يسير إلى جانبها، ويتابعان الحديث مثل زميلين أليفين. أبلغني المدير في موعدنا الصباحي، أن السيدة صحفية، وهي الوارثة الوحيدة لأبيها البروفسور، وتطالب باستعادة مكتبة والدها الباقية في المكتب، فيما أظهر المدير لي ورقة تُظهر أن والدها تبرع بمحتويات مكتبه إلى الجامعة. شكرت المدير على ما شرحه لي، وطالبني، على عتبة مكتبه، باختيار أحد الطلبة لكي يقوم بوضع سجل لعناوين الكتب والوثائق المحفوظة في المكتب، ولجميع المحتويات المادية، على أن تتكفل الدائرة بدفع بدل مادي لقاء هذه الأتعاب.

لم أكن قد توقفت طويلاً أمام محتويات المكتب، ولا فحصتها. هناك ما أثار انتباهي فيه من دون قصد، إذ قفز إلى نظري أو وقع عليه تلقائياً. كنت مقيماً فيه بصورة مؤقتة. مجرد عابر سبيل، لأيام معدودة. ما عناني، بعد حلولي فيه، هو ترتيب مكان مناسب لحاسوبي فوق المكتب الخشبي العريض، الذي لا يناسب أبداً أثاث المكتب العصري. كانت هناك أوراق مبعثرة فوق المكتب، وقصاصات أوراق مربوطة بسلك مطاطي أصفر، ومجسم لكرة ذهبية بدا عليه العتق الشديد، فضلاً عن أقلام من أنواع مختلفة، وممحاة كبيرة وغيرها من أدوات وملحقات الورق والكتابة. ما استرعاني بمجرد دخولي إلى المكتب في المرة الأولى، هو أن أوراقاً متفرقة كانت تتوزع فوق المكتب، بل وجدت كتاباً مطوياً بفعل قارىء أقدمَ على ذلك على أمل العودة إليه سريعاً. كان مدير الدائرة يتولى تسهيل حلولي في المكتب، وكانت ترافقه إحدى الموظفات التي كانت تمسك بيد بمجموعة أوراق، وبقلم باليد الأخرى في انتظار "التعليمات"، بعد أن قامت بنفسها بفتح المكتب. أمام دهشتي، البادية على وجهي من دون شك، سأل دورمييه مساعِدته: كيف يحدث أن حالة المكتب متردية إلى هذه الحالة؟ لماذا الغبار المتراكم هنا وهناك فيه؟ هل دخل أحدهم إليه وبعثر بعض محتوياته؟ لم تجبْ، اقتربتْ منه، أسرَّت له ببعض الجمل في أذنه، ما دعاني إلى الخروج من المكتب. لكن المدير استدعاني، وطالبني بعدم الخروج. ثم وجه أوامره للمساعدة بأن يتم في اليوم عينه تنظيف الغبار في المكتب وأثاثه، ولا سيما في رفوف المكتبة العديدة والعالية. كان منظر المكتب غريباً، يُظهر بأن شاغله تركه للتو، أو لوقت قصير قبل أن يعود إليه، أو من دون أن يعود إليه واقعاً: خرج لدقائق معدودة، ولم يعد، أليس كذلك؟ هزت المساعِدة الإدارية برأسها تأييداً لما قلت، فيما كانت تتجه بي صوب مكتبها لإجراء ترتيبات إدارية تخص المكتب وإقامتي فيه. لم يكن الأمر بالهين، على ما يبدو، ويتعدى انتقال مكتب من شاغل إلى آخر، في جامعة اعتادت منذ عشرات السنوات على استقبال وتوديع أساتذة، أشبه بحافلة المترو التي تقل الركاب بين ساحة "الرجل الحديدي" ومباني المدينة الجامعية. البروفسور الراحل انتقل من مكتبه إلى المستشفى بعد عارض صحي، وفيه إلى غرفة العناية الفائقة، قبل أن يسدلوا الشرشف الأبيض على جسده الناحل.

الصحفية ذكَّرتني بدانييلا. لعلهما متقاربتان في السن، إلا أن ملامحهما تختلف. هذه تبدو مكتنزة بعض الشيء، مثلي، وتميل إلى القصر، بخلافي، فيما جسم دانييلا نحيل، ويميل إلى الطول. هذا ما أميل إلى تقديره، إذ إنه لم يتح لي تأمل جسد دانييلا، على الرغم من كونها تعرت تماماً، بل أقدمت على نزع ثيابي فيما كانت توسعني قبلاً، ما أن دخلنا إلى الغرفة رقم 12، ودفعتني إلى السرير، وحطت فوقي. لها اسم وحسب. قد لا يكون صحيحاً، وأنا أمضيتُ أقل من ساعة واحدة معها. لن أجد دانييلا، على الأرجح، فهل سأنجح في إيجاد طالب يتولى الأعمال المطلوبة في فحص محتويات المكتب وتدوينها؟ دعوة المدير للتفتيش عن طالب جعلتني أتحقق من أن أمامي فرصة لتفقد المكتب قبل انتقالي منه، الذي قد يكون وشيكاً. فرصة أخيرة لمعرفة أدوات عمل البروفسور الراحل: هو من جيل مضى، أكبر بكثير من جيل أستاذي الذي أشرف على أطروحتي. إنه جيل ما لن أعرفه إلا في الكتب والموسوعات والسير، ما حفز اهتمامي بتدبير طالب للمهمة: هكذا أتعرف معه، وأسافر معه، في خريطة عقل أستاذ لن أبلغه أبداً. كيف أختار طالباً منهم، وأنا لا ألقاهم سوى مرة واحدة في الأسبوع؟ كيف أختاره، وهم يتراصفون في صفوف ممتدة، فيما لا يزيد عددهم عن الثلاثين في كل محاضرة أسبوعية، يوم الجمعة؟ ولمَ لا أختار طالبة، وعددهن، على ما انتبهت، أكبر من عدد الشباب؟ في المحاضرة التي تلت يوم "المداهمة"، كما أسميته في دفتر يومياتي، أخبرت الطلبة وأعلمتهم بوجود مثل هذا العمل؛ ولمن يرغب فيه، عليه أن يتوجه إلى مكتبي، في دوام استقبال الطلبة، وأن يقدم ترشيحه ودوافعه للقيام بهذا العمل، على أن العرض لن يبقى مطروحاً غير أسبوع واحد، ثم أبلغ الطالب أو الطالبة بقراري بعد عشرة أيام، بعد موافقة مدير الدائرة بطبيعة الحال. إحدى الطالبات المحجبات رفعت إصبعها طالبة الكلام: كم يكون البدل المادي عن هذا العمل؟ وقبل أن أتدبر جواباً على سؤالها الذي أربكني، تابعتْ متسائلة: هل يحق لطالبة تستفيد من منحة مالية من الجامعة القيام بهذا العمل؟ اعتذرت عن الجواب، لأنه يتصل واقعاً بمدير الدائرة، على أن أجيبها عنه في لقائي بها إن رغبت في هذا العمل. طالبة أخرى رفعت يدها طلباً للكلام، وكانت تجلس في الصف الأمامي: من يكون هذا البروفسور الراحل؟ ماذا عن محتويات مكتبته؟ هل يمكن لها أن تفيدهم، هم الطلبة، في دراساتهم العالية؟ حرتُ في الإجابة، لكنني سارعت إلى القول: هو كبير الأساتذة الشرقيين في هذه الجامعة منذ أربعين سنة على الأقل. وجدتُ هذه الطالبة تتقدم مجموعة الطلبة الذين كانوا ينتظرونني أمام مكتبي، في الخامسة بعد ظهر يوم الجمعة. كان اللقاء إفرادياً بطبيعة الحال، اقتصر منهم على أسئلة معدودة: ما البدل المادي لهذا العمل؟ كم يدوم؟ ما هو العمل بالتحديد؟ الطالبة كريستين مارييه (وقد شهرت بطاقتها الجامعية وحدها لما دخلت إلى مكتبي) لم تسأل هذه الأسئلة، مثل طالبَين من المغرب، وآخر من مصر، ورابع من الجزائر، فضلاً عن طالبة إيرانية. أخبرتني، ما أن استقبلتها، أنها اطلعت على بعض أخباره في الأنترنت، في "الويكيبيديا"، وأنها تحققت كذلك من أنه درس أحوال بلدان عديدة، ولا سيما الأدب فيها. هذا ما جذبها، أي معرفة مؤلفاته ومحتويات مكتبه، على أمل أن تجد فيها ما يفيدها في تحضيرها لرسالة الدكتوراه. ما لا تعرفه كريستين هو أنه لا يحق لها العمل، طالما أنها ممنوحة من الحكومة الفرنسية. هذا ما أخبرني به مدير الدائرة: مثل هذه الأعمال نخصصها – إن توافرت – لمن لا يكسبون منحة منتظمة. هذا ما أخبرتها بمجرد أن توقفت عن السؤال، لكنها أجابتني: أنا مستعدة للقيام بهذا العمل من دون مقابل. لما خرجتْ من مكتبي، قبل أن تتعدى الشريط الحديدي الذي ينتهي إليه باب المكتب، عادت إلى الوراء فوجدتْني أرقب طلتها من خلف. احمرَّ وجهها لسبب لا أعرفه؛ اقتربتُ منها بضع خطوات للتخفيف من ارتباكها البادي: - أنسيتِ شيئاً؟ لم تجب. كانت تحدق في وجهي، ما جعلني أنتبه لجمال عينيها السوداويين مثل حبتي لوز محمصتين. اقتربت أكثر منها، فتراجعتْ قليلاً إلى الوراء: - هل لي بسؤال؟ = تفضلي. - السؤال شخصي. أهذا مسموح؟ = تفضلي. - هل أنت هندي؟ ضحكتُ، ولم أجب. كنت أطمع باستكمال الحديث معها، من دون شك... كنت أود معرفة السبب أو الأسباب التي حملتها على تشبيهي بالهندي. إلا أنها تبرمت من وقفتها؛ شدَّتْ إلى صدرها حقيبتها الصغيرة، وراحت تعبر سريعاً الممر المؤدي إلى الدرج الواصل بين الطابق الأول والحديقة الخارجية أمام البناء. انتقلتُ إلى شباكي أترقب خروجها من المبنى... من دون جدوى: إلى أين مضت؟

- من أين أبدأ؟ = لا أعرف. هذا ما أجبتُها به لما دخلتْ إلى المكتب، بناء لموعد سابق، ووقفت تنتظر كما لو أن علي أن أشير إلى ما يجب عملانه، وإلى بدء العمل نفسه من هذه الناحية أو من جهتها المقابلة في المكتب الطولي. كانت كريستين تقف سائلة، وأنا أرقب وقفتها عن مسافة من دون أن أتحرك. كان في ودي أن أبقيها واقفة أتأملها: هي واقفة، ماثلة، وأنا جالس، فاحص، كما لو أنها معروضة للمراقبة أو الفرجة. إلا أنني خجلت من جلستي، ولو كنت أستاذها والمسؤول عن عملها الإداري أيضاً، كما لو أنها طالبة وظيفة، أو مستخدمتي التي تسألني عما تريد طبخه لـ"المِسْتِر"، أي أنا، بعد فطور الصباح. انتقلتُ إلى جانبها، وأخبرتها بأنني لم ألقِ نظرة فاحصة على محتويات المكتب منذ أن حللت فيه قبل شهر. وما منعني من الاقتراب المزيد من رفوف المكتب المعدنية هو الوسخ الذي علاها، وبات يشكل طبقة سميكة، يمكن لضعيف النظر، مثلي، أن يتبينها، عدا انشغالي بأمور إقامتي وإعداد وترتيب محاضراتي وعملي البحثي نفسه، وترتيب أموري الإدارية المختلفة في الجامعة وخارجها. كان المكتب عبارة عن صفين لرفوف مكتبية، فيما يقع مكتبي الخشبي أمام أحد الصفين، مقابل الصف الآخر. ويقوم جدار زجاجي في الجهة المقابلة لمدخل المكتب، ما يفضي على أشجار عالية واقعة في الحديقة قرب المبنى الكبير المستطيل، من دون أن أقوى على النظر إلى خارجه: هو – أي البروفسور الراحل – من طلب هذا المكتب، إذ كان يذكره بمشهد ياباني، مشهد الحديقة التي لا تفضي إلا إلى أشجارها وأوراقها، من دون أي هيئة إنسانية تبلبل أو تشغل الناظر إليه، إلى هدوئه، الساكن والحيوي في آن. هذا ما أخبرتني به سكرتيرة دائرة العربية، لما عرضت علي الإقامة فيه، في زيارتي الثانية للجامعة بعد أربعة أيام على حلولي في ستراسبور. كنت أحادثها، وقد خرجت من مكتبي، بلغة لا تصلح تماماً بين أستاذ وطالبته، طالما أنني بادلتها بعض أخباري الخاصة. أيعود هذا إلى طبيعتي "الطيبة"، كما كانت تقول لي صديقتي في بيروت أم إلى اهتمامي الظاهر، بل الذي يظهر تجاهها؟

تكاد أن تكون كريستين في عمر ابنة دانييلا، على ما حسبت. لماذا أجمع بينهما، ولا شيء يربط بينهما، أو يدعهما موضوعاً لتشابه؟ لماذا أستدعيهما، الواحدة مع الأخرى، وواحدة منهما تكاد أن تكون في عمر أمي، والثانية، في عمر أختي الصغيرة؟ واحدة أستدعيها في الليل خصوصاً، والثانية أراها أمامي، في مكتبي، كل صباح، في العاشرة تماماً، إذ تباشر عملها التوثيقي. أستدعيها مثل فيلم مستعاد مرات ومرات. أتفرج فيه على نفسي، ما يمكنني رؤيته، أو تبينه في ذلك التدافع الهائل الذي أصابني بين يديها، بين جسمي وجسمها. إذ إنها أقبلت علي بمجرد فتحها باب الغرفة رقم 12، بل دفعتني بعنف صوب السرير الوحيد، الضيق، والمستند إلى حائط يفضي على نافذة، هي الوحيدة في الغرفة. هذا ما تنبهت إليه، ما أن تركتني وذهبت إلى غرفة الحمام للحظات. دفعتني ونزعت عني ملابسي بسرعة عنيفة، من المعطف البني الغامق إلى السترة الجلدية، ثم راحت تفكك أزرار بنطلوني قبل قميصي، من دون أن تتلفظ بأي كلمة. كانت تُصدر أصواتاً محمومة، متلاحقة، من دون أن أتبين وجهها تماماً، إذ كنت أتلوى بين يديها، أو تلويني حسبما تشاء: كنت جسداً مشتهى، ولو بالجملة. أتيحتْ لي رؤيتها بعض الشيء، ما أن عادت من الحمام. تنبهتُ إلى جسدها الأبيض والنحيل، ولكن من دون ترهل في ثدييها. عادت منه عارية، محتفظة فوق ساقيها بكلسات سوداء ترتبط بكماشات حديدية، تمسك هي الأخرى، من جهتها العليا، بسروالها الصغير الأسود، هو الآخر. علتْ السرير واقفة، ووضعتْ قدميها من جهتي قدمي المسبلتين، ثم راحت تفك الكماشات ببطء مناسب لرقص التعري في البارات الليلية، ثم صرختْ لاحسة لسانها فوق شفتها العليا: ألا تراني مثيرة للغاية؟ لم يتحْ لي إجابتها على سؤالها، ولا أظن – وأنا أكتب هذا في مكتبي وحدي – أنها كانت تنتظر مني أي جواب. وضعت دانييلا برنامجاً متتابعاً، له فقرات أعدتْها في أدق تفاصيلها، بمنأى عني، وقبل أن تلتقيني أو تراني في المقهى.

تقدمتْ كريستين في عملها، وقد طلبتْ مني زيادة وقتها بعد أن جلب لها تفتيش الكتب والمجلات، وتدوين أسمائها، فائدة لامتناهية. ولما سألتُها عن هذا التعلق الذي يبدو أشبه بالهوس، أكثر منه بالمثابرة، أجابتني بثقة: أنا أقرأ عناوين الكتب والمجلات، كمن يتعرف على خريطة بلد، بل بلدان معاً... مكتبة البروفسور أكثر من مكتبة، إنها موسوعة شرقية غنية، تجمع بين أطراف آسيا المتباعدة، اليوم، وتجمع بين ديانات وحضارات وثقافات تتناحر اليوم وتغرق في حروبها الأهلية... كنتُ قد وضعت معها خطة للعمل، تقضي في قسم أول بإحصاء الكتب والمجلات، وقد وجدتْ كريستين طريقة ميسرة لذلك: راحت تصور بجهاز هاتفها النقال اسم الكتاب أو صورة غلاف المجلة، ما جعل العمل يتقدم بسهولة مذهلة. هذا ما جعلها تنهي في أقل من أسبوعين إحصاء المواد المرتبة فوق رفوف الجهة الواقعة وراء مكتبي. ولما أذهلتني سرعة تدبيرها، المشفوعة بذكائها، طلبتُ منها التوقف عن إكمال إحصاء رفوف الجهة المقابلة لمكتبي، على أن تتفرغ لمعرفة مختلف المواد الأخرى، المتروكة فوق المكتب، وفي جواريره خصوصاً. دارت الأمور بعجلة ما توقعها مدير الدائرة بنفسه، حتى إنه طلب التعرف إلى الطالبة بنفسه مبدياً رغبته في دفع بدل مالي عن عملها، على الرغم من تبرعها بذلك. لما تحققت كريستين من تقديرنا لها، أتتني في صباح اليوم التالي على موعدنا مع المدير دورمييه: يجب أن أوضح لك سبب إقبالي الشغوف على هذا العمل... توقفتْ عن استكمال الكلام، فيما رحت أتحسب لوقع ما ستعترف به أمامي. ثم سألتني: هل تسمح لي بالجلوس؟ لما أجبتها بالإيجاب، فتحت دفتراً كانت تحمله، وشرعت في الكلام، ناظرة إلى الدفتر بين فقرة وأخرى من دون أن تنقطع عن الكلام واقعاً: أنا أحب الكتب منذ صغري. أحببتها قبل أن أحسن القراءة. كان والدي يتلو على مسامعي حكايات قبل النوم، لدرجة أنني حفظت أكثر من واحدة منها عن ظهر قلب... لما كان والدي مضطراً أحياناً لتسريع الحكاية أو اختصارها، كنت أوقفه وأعيده إلى الصفحة حيث توقف... هذا السبب ليس هو الدافع لما أقوم به. السبب الحقيقي هو أنني طلبتُ (بعد تردد ولعثمة) الاقتراب منك... لا تسىء فهمي، أرجوك. والدي علمني أن المعلمين المسلمين القدامى كانوا يتحدثون عن "الملازمة": ملازمة الطلبة لأستاذهم كل يوم، والتعلم المزيد والمتنوع منه... كدت أن أوقفها عن الكلام، وأن أقول لها إنني لست مسلماً، وإن "الملازمة" تناسب مفهوم "الحلقة" القديم، لا الجامعة، ولا المدرسة قبلها، إلا أن كريستين كانت تتكلم كما لو أنها تفيض بما يختلج في وجدانها، وبما دار دورات عديدة في صدرها قبل أن تتلفظه وترتج معه حمالة ثدييها، على ما تنبهت. كانت تتمسك بدفترها المفتوح من دون أن تنظر إليه، ولا تقوى على رفع نظرها إلى نظري، أنا الذي اتسعت حدقتاه، وأذناه، لما كان يراه ويسمعه. تحدثت كريستين طويلاً عن دراستها العربية... أوقفتُها عن الكلام: لستُ في مجال سماع حكاية في حكاية... قولي لي: ما الذي قادك صوبي؟ أجابت عندها كريستين رافعة نظرها إلى وجهي: اخترتُك قبل أن تصل إلى ستراسبور، إذ أعلمني أحد الاستاذة عن موضوع محاضراتك السنوية الذي يناسب موضوع أطروحة الدكتوراه التي آمل في إعدادها. - ما هو؟ = درسُ ترجمة ابن المقفع لـ"كليلة ودمنة".

استيقظتُ، وقد شعرت بسروالي مبللاً في فراشي الضيق. كانت الغرفة معتمة، فما مددت يدي إلى مكبس الضوء المجاور للسرير من جهتي اليمنى. بقيت، بين المغتبط والمدهوش، أتبين ما حصل لي في غفلة مني. أمضتْ دانييلا لحظات معي، في صور هاربة، متسارعة، متداخلة، من دون أن أجد رابطاً بينها. أشبه بضربات رعد، من دون برق، ثم انهمر المطر بحباته الطرية. ما الذي استدعاها إلى أحلامي، وقد نسيتها في الأسابيع الأخيرة، بعد مضي أكثر من شهرين على موعدنا الفجائي في فندقها؟ لم أتبين شيئاً من الحلم: صور متفرقة، ممزقة، متطايرة، في عتمة خفيفة، متحققاً وحسب، عند استيقاظي، من أنني كنت شريكها، لا تلميذها أو مستخدمها الجنسي. تحققتُ من أن العرق كان يتصبب بدوره حول رقبتي، فضلاً عن جفاف في حلقي. أأشتاق إليها؟ أأصبحت شريكاً لها أم أرغب في أن أكون شريكاً لها؟ في المرة التالية سأكون حاضراً، وفاعلاً. هل ستكون هناك مرة ثانية؟ يبدو أن هناك مرات تالية، معي ومعها، من دونها، إذ إن قواى خفية أفردت لها نوافذ أو بوابات للانتقال إلى هيكلي. يبدو أنني غفرت لها فعلتَها: هذا ما رحت أردده على مسامعي، بعد الاستحمام، وأنا أعد قهوتي على النار. يبدو أنني بتُّ متعلقاً بها، من دون علمها. هل يمكن أن أتحدث عن شبحها أم عن طيفها، وقد تعلمت بأن الطيف جارٌ ليلي في صورة، فيما الشبح ظلُّ جارٍ معروف. أهي جارتي الممكنة، وقد رحت أستعيدها في فراشي، وحدي، في الليلة التي تلت حلمي المبلل، بل أكثر من مرة في الليلة الواحدة؟ عادت دانييلا إلى حياتي من جديد، من دون أن تظهر بعد تلك الليلة في صورة خفية. هذه المرة، أنا الذي رحتُ أعطيها توجيهاتي: تعقبتُها، لحقت بها، أذقتها ما يطيب لي أن أذوقه معها، ومن دونها. لعلها أخطأت معي... كيف لها – لو رغبت في ذلك - أن تصلح خطأها، وتستعيد علاقة طبيعية معي، وهي لا تملك عنواني، ولا تعرف اسمي حتى؟ مع ذلك باتت دانييلا شريكة في شقتي الصغيرة، من دون أن تهتم بملابسي التي أضطر إلى غسلها في محل قريب للغسالات العمومية. باتت ترافقني إذ أقف أمام المرأة صباحاً لتسوية هندامي، ولكن من دون أن تكوي ثيابي، طالما أنني أرتدي الكنزات، وأضع القمصان تحتها. هي تحضر في الليل، إن شئتُ بطبيعة الحال، وتطيع أوامري التي لا تتعدى امتثالها لما أطلبه منها: صامتة، مطيعة، وتشيع رائحة مختلفة في غرفة النوم، بل في الشقة. هذا ما كاشفني به زميلي الدكتور هيبوليت، إذ زارني فجأة، من دون موعد، بعد السادسة مساء بقليل: عرفتُ أنك تعيش في هذه الشقة قبل يومين، وأنا أعيش في شقة غير بعيدة، جئت لأدعوك إلى عشاء بسيط في شقتي مع عدد من الزملاء... توقفَ قليلاً، قبل أن يستعيد: ما هذه الرائحة في الشقة؟ يبدو أنك مرتبط دوماً في الليل.

أمرُّ إلى جانب محل زهور، اسمه: "الروح الخلاقة". أشجار جرداء، لا بفعل الشتاء، وإنما لأنهم شذبوها بعناية: تنام استعداداً لحبلها، لحملها القادم. أشجار، أشكال منحوتة: مكنسة الأرض للكشف عن سماء. في "ساحة بروغلي" صبية على دراجتها الهوائية تطلق ابتسامة صريحة صوبي، في اتجاهين مختلفين: أتسخر مني؟ أرأت ملاكاً يظلل رأسي، مثل هالة، ولا أراه؟ ذلك أن الابتسامة عالم، لغة، نحتاج إلى فهم إبلاغاتها، وإمالاتها، ما هو صعب مع امرأة أمامك. رذاذ ثلج خفيف، والباعة ينصبون منصات البيع – منصات "سوق عيد الميلاد"، الذي تختصره الشوكولاتة بأشكالها المتنوعة وكتلها المنحوتة... إنه عيد الأطفال، عيد الطفل في المغارة، عيد باعة الشوكولاتة. منصات، محلات خشبية مقفلة في الساحة. أحدها تَصدر منه رائحة السكر المحروق. محلات خشبية مرفوعة على أخشاب صغيرة في أكثر من جهة، ما يجعل أصحابها ينقلونها إلى حيث ما شاؤوا. يفتحون تباعاً... إلى جانب شاحنات كبيرة تتحول بدورها إلى محلات بيع، ولها درجات في مؤخرتها. لحية بابا نوويل مع جزادين وهدايا للعيد على أكواب وصحون مزوقة. والكراتين التي حملها أصحابها وسيحملونها، في حال عدم بيعها في نهاية النهار، لا تزال – والساعة 12 ظهراً – أمامها من دون ترتيب أو إخفاء. أقع على مقربة من الساحة على ممر صغير يحمل اسم الفيلسوف: والتر بنيامين، وفيه شجرتان، أسمي الواحدة منهما: "الثابتة"، والأخرى: "العابرة". أعود إلى "مقهى بروغلي" من جديد. أقرأ في الجريدة عن عملة إلكترونية: (Bitcoin). تسمح بتبادل المال من دون تكلفة، بشرط أن يتكفل خمسة من أعضاء الشبكة بالجديد الداخل إليها، بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان وفنلندا، في الوقت الحالي... تدخل صبية وتجلس إلى طاولة مجاورة لي. ما أن تنزع عنها معطفها البني الذي كان فاتحاً لولا ما لحقه من تلوث مدعوك بالاستعمال المديد، تسألني: هل أنت مسيو...؟ من دون أن أحتفظ أو أتبين ما تتلفظه. أجيبها من دون تردد، مع ابتسامتي: لا، لا... لا أنتظر أحداً. لا ينتظرني أحد. مع ذلك باتت شقتي أكثر إلفة. لا أتضايق من البقاء فيها خارج ساعات القراءة والكتابة أو النوم. بتُّ أمعن النظر ملياً في ما يحيط بي، في ما أقوى على رؤيته من نافذة الصالون الكبيرة. حتى مرآى الأشجار العالية، والبنايات المتتابعة، بات يريحني، يرسل صوبي إشارات قبول. فرحت بزيارة الدكتور هيبوليت المفاجئة. أحسنت استقباله، على ما حسبت. جمعني العشاء في شقته بعدد من زملاء الدائرة، فيما لم أحسن متابعة الحوار معهم حول تنامي العنف الإسلامي، إذ كنت معنياً أكثر بفهم الاضطراب الفرنسي البادي في الأزمات الداخلية. عشاء عابر، بدليل أنني لم أتعرف على وجه أحدهم في اليوم التالي لما التقى بي، وبادرني إلى الكلام في الممر الواصل بين مكاتبنا...

كانت ترتدي "الشلوار القميص" (على ما ترجمتُ واجتهدت في تسمية هذا اللباس التقليدي)، بلونيه الأبيض والأزرق. هكذا اكتشفتها، بل نادتني بنفسها مخافة ألا أتبينها في فوضى الألوان والأشكال والسحنات والأطايب والتوابل والبهارات وروائح الشواء، وفي فوضى اللباسات "الوطنية" التي يعمد الطلاب إلى التزيي بها، في حفل خاص، بعد ما يزيد على شهرين من بداية العام الأكاديمي. زميلي، الدكتور جان-جاك زيمر، شجعني على المشاركة في الحفل: ألستَ جديداً بدورك في الجامعة؟ ألا يستحسن بك المشاركة في حفل التعارف بدورك؟... الحفل يشارك فيه الأساتذة والطلاب وموظفو الإدارة، على أن يتكفل الطلاب أنفسهم بإعداد كل شيء: كلٌّ يتدبر طبقاً أساسياً من مائدة بلاده، فضلاً عن شراب أيضاً. نادتني كريستين، ووصلت أمامها، من دون أن أخفي دهشتي مما كان يتكشف لناظري: جمال كريستين الأسمر والأخاذ. كان حياؤها، إذ تنبهتْ إلى مفاجأتي السارة، يزيد من جمالها. تداركتْ الأمر بأن ابتعدت قليلاً وأتت بكوب من شراب هندي شديد الغرابة والعذوبة. شكرتُها وابتعدت عنها، إذ ناداني مدير الدائرة الذي أبدى فرحته لوجودي بينهم، ثم لم يتخلف عن واجباته إذ أفادني بأن الصحفية، ابنة البروفسور، قبلت بإنهاء الأمر حبياً، بين الجامعة وبينها، من دون أي متابعة قضائية، بمجرد الانتهاء من عملية إحصاء محتويات المكتب. ثم أخذني البروفسور بيدي مبتسماً ابتسامة عريضة: تصلك بعد غد رسالة تهنئة من قبلي لهذه الفكرة الرائعة. - عن أي فكرة تتحدث؟ = فكرة تنظيم العيد. - ما علاقتي به؟ = أخبرني عدد من الطلاب أنك كنت وراءها... مثل هذه الأعياد ليست في تقاليدنا... يقوم بمثلها أحياناً طلبة الفنون الجميلة، إلا أنها تنتهي في الغالب بمشاكل شغب وفوضى... لم يُتح لي استيضاح الأمر، إذ أتبع المدير حديثه بالقول: هذه الفتاة (عن كريستين) رائعة... شجعتُها على تأسيس نادي جامعي فيما بينهم. هي، إذاً، من أبلغ المدير بمسؤوليتي عن الاحتفال! لم أقوَ على تبينها بين الوجوه والكراسي والطاولات، إذ غاب شكلها المعتاد في مشهد من الثياب الذي يبدو لغرابته تنكرياً. إلا أنني لم أجد صعوبة، بالمقابل، في تذكر وجه العاملة في المطبخ الجامعي، لما وقفت أمامي وبادرتني بالكلام، بل بشرح ما حدث لها معي: إنها فضيلة، من تطاوين في تونس، تعمل في إعداد الأكل، لا في خدمة زبائن المطعم الجامعي، إلا عند الضرورة... عرفتْ من إحدى رفيقاتها في العمل أنني عربي، إذ سمعتني أتبادل بعض العبارات بالعربية مع أحد الطلاب المغاربة، فحسبت أنني مسلم: العربي مسلم حكماً في بلادنا... أنا آسفة لما جرى. ثم استأذنتْ وعادت إلي بطبق: أرجو منك قبوله... إنه طبق "البريك"... ستحبه من دون شك... هل يمكنني سؤالك: لماذا تأكل مع الطلبة؟

أسماء الشوارع أو الجادات أو الأزقة باللغتين: الفرنسية ولغة قريبة من الألمانية. حتى إنني تنبهت إلى وجود اسم حي فيها اسمه: فرنسا الصغرى. هذا ما رحت أكتشفه بنفسي متنقلاً في أحياء ستراسبور المختلفة، بقدر شديد من الحذر والحيطة، من دون أن أعلم أسبابه. شوارعها تفيض على حاجات سكانها. الاكتظاظ الوحيد ألقاه في بعض الأوقات إذ أصعد إلى الترامواي المتجه صوب "غاليا". هذا ما كان لا يزعجني أبداً، إذ أجتمع في الحافلات بالطلاب، بشنطهم وألوانهم وفوضاهم المحببة لي، طالما أن المدينة تبدو ساكنة للغاية، بل مضجرة أحياناً. اهتديت إلى محل كبير لبيع الكتب على مقربة من مقهاي، وإلى محلات أخرى تلبي حاجات الزوار المختلفة، في شوارع عريضة ومرتبة. إنه شارع الماركات الكبيرة للثياب والعطور وكل ما هو فاخر، وفيه مبنى "برينتان" الشهير، الذي اعتدتُ فيه على أكل وجبة الظهر الخفيفة. هذا الصباح وقعت في الشارع الفاخر على مستعطية جالسة على الرصيف: كانت تتلفظ بلغة لا أفقه شيئاً منها، وتحمل كوباً فارغاً لاستقبال القطع النقدية فيه، ما يختصر ويعوض عن امتناع لغتها على العابرين. يفضي الشارع إلى "الرجل الحديدي"، وهي محطة دائرية للترامواي في أكثر من اتجاه، مع قبتها العالية التي لا تقي غير القليل من ركابها المنتظرين في الشت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم