تعرف فاطمة أن عمرها الآن عشرون خريفًا بالتمام والكمال، فربيع عمر الفتاة يمتد من الخامسة عشر حتى التاسعة عشر في بلد هذه، أما سنّ العشرين فهو سنُّ العنوسة، ومنه يبدأ خريف العمر إما بأن تصبح مهمتها مقتصرة على إنجاب وتربية الأولاد، وإما أن يتم تزويجها لأوّل كهلٍ يريح عائلتها من احتمالات غير محمودة. ولولا أن الثورة أخذت منها محمود لكانت الآن أمّاً لثلاثةٍ أو أربعةٍ من الأطفال. لكن في ذلك الوقت لم يكن هذا ما يشغل بالها. لقد اكتشفت فاطمة أمرًا أنساها كل ذلك واعتبرته مثيرًا في حينه، ثم تصاعد اهتمامها به إلى الحد الذي شغل حياتها كلها..

        كان ذلك في الخريف الماضي حين اكتشفت فاطمة معنى أن تكون المرأة جميلة. حدث ذلك عندما وضعت على جسدها ذلك الفستان الورديّ الذي فصّلته لها الخياطة نورا. فصّلته على مقاس جسدها بالضبط، فأظهر مفاتنه كلها دفعةً واحدة..

- كم أنت بلهاء يا فاطمة! والله لو أملك مثل جمالكَ وهذا الجسد لأوقفتُ البلد بإشارة، وحرّكته بإشارة..

          الخياطة المهذارة قالت هذه الكلمات وهي تقيس لها ذلك الفستان الورديّ اللامع. لعلها لم تكن تتوقع أن يقع هذه الحديث في نفس فاطمة ذلك الموقع الحسن، وأن يغير نظرتها إلى نفسها. فعلت العبارة في فاطمة فعل السحر. صارت تطيل وقوفها أمام المرآة لساعاتٍ طويلةٍ في اليوم، وتصاعد اهتمامها بزينتها ونظافتها الشخصية على نحوٍ يقترب من أن يكون شغفًاً. صارت تُكثِر من زياراتها إلى الخيّاطة بعد أن كانت تفعل ذلك في العيدين فقط!

          بعد عشرين عاماً اكتشفت فاطمة أنها جميلة! وفكّرت في ما يمكن أن تفعله بهذا الجمال!.    "فاطمة الجميلة" هاتان الكلمتان لهما وقعٌ صاخب في النفس أكثر من تلك الفكرة الصامتة، المسطحة التي تنقلها المرآة بحياد. "والله لو أملك مثل جمالكِ وهذا الجسد لأوقفتُ البلد بإشارة، وحرّكته بإشارة.." صحيح أن كلمات الخيّاطة أثارت في نفس فاطمة مشاعر لم تكن لتهتمّ بها، لكن هذا لا يكفي. المرآة الناطقة أكثر أهمية، بل وأكثر قدرة على إبراز التفاصيل، هذا ما أدركته فاطمة وسعدت به أيما سعادة..

          كان محمود وعلى نحوٍ ما حائطًا بينها وبين أولئك الناس/المرآة. وثمة حائطٌ آخر غير مرئي كان يمنع تلك توضيح الحقيقة الجميلة لفاطمة بشكلٍ أو بآخر، هو كونها من الأحفاد. فرغم جمالها النادر إلا أن نَسَبها الوضيع حال دون وضعها في الواجهة. في المكان الذي تستحق.  غضّت فاطمة الطرف عنها في غمرة زهوها بهذه الصورة البرّاقة التي شغلتْها كثيراً.

          كانت تحسّ بنظرات الرجال النهمة وهي تصعد وتنزل بين النهر والبيوت، والسوق والخيّاطة والجيران رغم تحذيرات أمها المتكررة وغضب إخوتها الأشقياء. وكانت تنزعج لأنها مرصودة لمحمود. محمود الذي طالما كان في نظرها والد أولادها، حقيقة مثلها مثل أبسط الأشياء.

كلمات الخيّاطة ملأتها بفرحٍ طفولي حتى شعرتْ مؤخرًا ببعض الارتياح لغياب محمود، الغياب الذي جعلها تكتشف نفسها، ولم تعد تضايقها كثيرًا نظراتُ الرجال الشبقة إلى ساقيها البيضاوين الممتلئين، وإلى أردافها المستديرة العالية ونهديها الناهضين ويديها البضتين، وجيدها الطويل القائم ووجهها الصافي الممتلئ وشفاهها الوردية المكتنزة. وذلك الانكسار البريء في نظراتها. نظراتها الفرحة بتفاصيل الأشياء من حولها..

*********

          صارت فاطمة تتنبّه إلى النظرات التي تُرمى بها عن شبقٍ أو عن غيرة. وراحت تُسائل نفسها وهي ذاهبة إلى الطاحونة الجديدة التي تقع في طرف السوق، ألا يجدر أن تكون سعيدةً بكل هذا، عِوض أن تخاف؟

          في الطاحونة ضايقتها نسوةٌ فضوليّات من قبيلة الأوتاد بنظراتٍ مريبة، وبأسئلةٍ متلاحقةٍ، مربكة، عن سرّ لون عينيْها الخضراويْن، وشعرها الكستنائي الطويل الذي يكاد يلامس ردفيها، وقوامها المعتدل الفاره مثل الفرس، ولون بشرتها الذي يميل إلى البياض الصافي أكثر من تلك السُّمرة البرونزية التي تتقاسمها كل حسناوات البلد بدرجاتٍ متفاوتة؟

          شعرتْ بخوفٍ غامض. فهي بقدر سعادتها بمثل هذا الاهتمام، تخاف كثيرًا من أمورٍ غريبةٍ حذّرتها منها العرافة رامية الودع، وقبل ذلك بسنوات سمعتْها من أمها، حين طلبت منها أن تضع خمارًا فوق رأسها حين تخرج، وأن تلبس سروالاً طويلاً حين تركب الحمار لجلب الماء أو العشب من شط النهر، وأن تخفض صوتها وبصرها إلى الأرض حين ترى الرجال، وقائمة طويلة من المحاذير تبدأ بتأديبها ولا تنتهي بتحذيرها من تلك النظراتِ اللعينة، المهلكة..

          عرفتْ فاطمة وقتها أن شيئاً ما قد تغيّر. ثم بعد سنة أو إثنتين، لا تذكر فاطمة متى حصل ذلك بالضبط، بدأ صدرها يكبر وحوضها يتسع وأردافها تستدير، ومشيتها تتكسّر، وصوتها يرقُّ، وتفيضُ أحشاؤها مرةً كل شهر، فشعرتْ بذلك الاختلاف الذي حدّثتها عنه أمها، ولم تعد تخرج مع محمود إلى أيّ مكانٍ علنًا أمام الناس. علّمتها أمها قراءة سُوَرٍ وآياتٍ محددةٍ من القرآن حين تشعر بنظرةٍ وصَفَتْها لها بدقة، وأخبرتها أن تلك النظرة هي التي قتلت أباها الوسيم ذات خريفٍ ماطر، واتهمتْ بذلك امرأةً من آل عميراي، ما تزال تكرهها. ولا يمكن لفاطمة أن تخطأَها الآن، وكانت من بين النساء اللواتي ضايقنها في الطاحونة. استعاذت في سرّها، وتمتمتْ بآياتٍ من القرآن في وجه أولئك النسوة ثم سحبتْ خمارها إلى جبهتها تغطي خصلاتٍ متدلّيةً فوقها كالعُرف. ما إن صار طحينُها جاهزًاحتى حملته فوق كتفها وخرجت عَجْلى وقد قرّرت أن تعرِّج على الخيّاطة..

          لسنواتٍ طويلة لم يدُر بخلد فاطمة ذلك السؤال الذي يدور بخلد كل صبيةٍ قروية جاوز عمرها الخامسة عشرة. وجودُ محمود كان يغنيها عن التفكير في هذا الأمر، وكان يكفيها أيضاً مشقة الإجابة عن أسئلة فضولية كثيرة تعجّ بها مجالس النساء في قرىً كهذه. إذ كان محمود ودون أنداده، ودون الأحفاد الآخرين صغيرهم وكبيرهم، محبوبًا لدى أهل عجايب بأحفادهم وأوتادهم، وكان ذلك أمرًا غريبًا. ولم تتعدَّ النظرة إلى فاطمة ذلك التسليم بوضعها الذي أبقاها في ظل محمود ومحبّتهم له. وما عدا ذلك فهي أَمَةٌ وابنة أمَة.  كانت هذه الأفكار تصطخب في ذهنها وهي في الطريق إلى بيت الخياطة، فإذا بها وجهًا لوجه أمام الناظر محمد ورهطه. هذه أول مرة تراه فيها عن قرب، وهو أيضًا..

  • ماشاء الله، تبارك الله، بنتُ مَنْ هذه؟

          قال الناظر كلماته بلهفة من دون أن يُحوّل نظره عنها، وقد أوقف رهطه كله بإشارة. خمسة رجال سَدّوا عليها طريقها. ذُعرت فاطمة مثل قطة محاصرة، وشعرت بنفسها ضئيلة لا تدري ما تصنع. خفضت رأسها إلى الأرض وقلبها يخفق من الخوف..

  • بنت هُمَّد، مَوْلى آل عميراي..

          قال الشيخ أحمد، بنبرةٍ فيها شيئ من الاحتقار، كما لو أنه أراد أن يصرفها عن ذهنه. لم يأخذ المشهد سوى دقائق قليلة حتى أفسحوا الطريق أمامها من جديد، لكنها كانت زمنًا طويلًا بالنسبة لفاطمة، وكافية للناظر محمد لكي تنطبع هذه الأمَة الجميلة في ذهنه، على الرغم مما قاله صديقه الشيخ أحمد..

          ذهبوا في طريقهم وظلت واقفة، شعرت بثقلٍ وجمودٍ في ساقيها كأنهما مغروستان في الرمل. لم تغب عنها تلك النظرة التي شملها بها الناظر محمد، ولم يغب عنها وجهه الأسود الممتلئ، وجثته الضخمة كما لو أنها وقفت أمام جبل.

روائيّ سودانيّ

 خاص بالرواية نت

الرواية صادرة عن دار التنوير 2015م.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم