في صباحات الغربة البعيدة لابد أن تتذكَّر كل شيءٍ يشبهك أنت ، فالغربةُ وحدَها لن تشبِهَك مهما حاولت التأقلم معها والبقاء فيها حدَّ الاندماج الكامل والانصهار المطلق.

في صباحات الغربة البعيدة تبحث عن بقاياك التي أثقلتكَ بحمولةٍ زائدةٍ من وطنٍ هربتَ منهُ بكلتَي يديكَ بعد أن حاصَرَهُ الموتُ من كلِّ مكان ، نجوتَ وحيداً ، في الحقيقة لم تنجُ ، الموتُ أخطأَكَ مرةً أُخرى فقط وأَصَابَ آخرين.

أذكر آخر مرةٍ داهمنا الموتُ عبر قذيفةٍ داهمت الجدار الشرقي للغرفة التي كنت أسكنها، لست أدري لماذا حملتُ لحظتها بعض الصور قبل هروبي من دائرة الموت الصغيرة، هل هي رغبة بالحفاظ على الماضي الذي ذهب أم هي فقط ترسيخٌ للذاكرةِ التي تأبى النسيان وترفُضُه كجسدٍ أتقن تماماً فنَّ اللَّعَبِ على العقاقير الطبية للشفاء من الإدمان.

في صباحات الغربة البعيدة بحثاً عن وطنٍ تسأل نفسك ، هل أنا بخير؟؟ ، هل ما زلت أُشبه ذلك الشابَّ الذي خرج منذ قضيةٍ و وطن ، عن أرضٍ كانت له أو لم تكن له أبداً ، تنظر في المرآة، تفتحُ عينيك على مصراعَي الحَنين لتكتشفَ أنَّ هناك شعرةً بيضاءَ نبتت  في سالفك الأيمن، أو هناك خطاً جديداً رسمَهُ هواءُ المدينةِ الغريبةِ عليكَ مرةً أُخرى دون أن تشعر ، كقُبلةٍ اقتربتَ بها من شفاه حبيبَتِكَ ولم تَنسَ مَذَاقَها أو شَكلَها مع أنَّكَ لم تشعر بها لحظةَ حدوثِها، هي أشياءُ لا تعرف أين وكيف ولماذا تحدث ؟؟ ،  تأتي هكذا ، كالموت الذي بدأ يداهم الأرض التي كانت لك أو لم تكن لك يوماً.

كتلك الأرضُ البعيدةُ عن جسدِكَ القريبَةُ من مخيِّلَتِكَ الساكنَةُ في ذاكرتِكَ ترفضُ المُضِيَّ بعيداً فتشعر بكل خطوةٍ تُبعِدُكَ أنَّها تُقرِّبُكَ أكثرَ من بلادِكَ مع إنك تَمضِي إلى البعيدِ البعيد وها أنت

تحلم بعودةٍ ولو حشو الكفن.

في صباحاتِ الغربةِ البعيدةِ تُحاوِل أن تجدَ مَخرجاً لك يقيكَ حرَّ البردِ الذي أصابَ أطرافَكَ .. حرُّ البرد، نعم ، هو إحساسٌ لا يُدركه إلَّا من اكتوى ببردِ الغربةِ ومطرِهَا وهَوائِها..

في كلِّ المُدِن التي عَبَرتُها أو عمِلتُ بها لم تُنسِنِي تلك المدينةُ التي سكنَتنِي، قرأتُ مرَّةً عن رجلٍ تضايقَ من أسئلةِ الناس في المدنِ الغريبةِ حينَ يقولون له ما اسمك؟ ولا يسألونه ما هو اللقب الذي تمنَّيتَ أن تحمِلَه، يسألونه، ما دينك؟.. ولا يسألوه هل تؤمن بالله، يسألونه عن زوجَتِه ولا يسألونه عن المَرأَةِ التي يُحِب، يسألونه عن مِهنَتِهِ وعَمَلِه ولا يسألوه عن تلك المهنة التي حلم يوماً أن يكون بها ؟... غريبةٌ هي أسئلةُ الناسِ في المدن الغريبة؟..

هل هي المدنُ الغريبةُ التي تركتَ كلَّ شيءٍ لأجلِها ومضيتَ بعد أن تَعبتَ من السفر، هل هي تلك المدن التي لم تقبَلكَ يوماً أو تقبَلهَا برغمِ كلِّ مُحَاوَلاتِكَ أن تكونَ مثلَ شَجَرِهَا أو حَدَائِقِها أو شوارِعها المُظلِمَة ، أنت اليومَ هنا فلا تقبل إلَّا أن تكونَ تحتَ الشَّمسِ فَوراً.. حاول أن تَنسَى كلَّ ما حصَل فقد صَارَ ذاكرةً كتلكَ الصُّور التي هربتُ بها من غرفتي حين داهَمَنِي الموتُ عبرَ قذيفةٍ !!أصابَت الحائطَ الشرقيَّ لغرفةٍ أسكُنُهَا..

أهرب من هذه الحرب إلى الحبِّ الذي غادرني منذ سنوات ، أبتسم رغم الألم، هناك أشياءٌ لا نفهمها ، فقط  ندركها كما هي دونَ أن نَعِي أنَّنَا نرسم أعظَم أحلامِنَا ونسير إلى جرفٍ هارٍ من الهاوية ، أنا الذي أَحبَبتُ عِدَّةَ مَرَّات ، أو مَرَّاتٍ قليلة .. ربَّما هي مرَّتان فقط ، أو ربَّما مرة واحدة ، في الحقيقةِ لم أعرف إن كنتُ أحببت أم لم أقع في ذلك الفخ ، نعم أحببتُ مرَّةً واحدةً فقط ، المرةُ الثانيةُ لم يكن حُبَّاً لأنِّي تخلَّصتُ منها إلى الأبد ، تاء تأنيثِهَا لم تبقَ لديَّ إلَّا بعضَ الوقت ، أمَّا تلكَ التاءُ الأولى ظلَّت تَسكُنُنِي فلم تفارقني أبَدَاً ، أُحارِبُ التطرُّف في الحب ، كما يحارب المتطرِّفون من يقف ضدَّهُم بالخوف ، القتلُ كالحب ، له طابعٌ تَحطيمي ، عملٌ استثنائي ، يقاتِلُون بخوفِهِم ، وأخوضُ أعظمُ معارِكِي بالحب !!..

الحبُّ كالجهادِ تماماً ، بيعةٌ وإخلاصٌ ومعركةٌ وشهادة ، هو وعود بالعمل الطاهر الصالح الباقي الى الأبد ، الحبُّ ماءٌ يغسِلنا ثم نتطهَّر ببعض القبلات ونمضي إلى معاركنا ، نحنُ الذين وقفنا بين الكافر والظالم فكنَّا الضحيةَ للتطرِّف ، سأتذكَّر أيضاً واحدةً جلست بقربي مرةً في باصٍ نقلني بين مدينتين أعتقدُ أنِّي أحببتُها أيضاً ، أو لأقل إنَّها عزفَت على وتَرِ الشهوةِ عندي ، كان تطرُّفاً أيضاً أن تَقَعَ في فَخِّ امرَأَةٍ دونَ أن تَعرِفَ اسمَها ، فهل تهمُّ الأسماءُ في فِعلِ الحب ، ألَم أقُل إنَّ الحبَّ كالجهادِ أسماءٌ حركيةٌ ورغبةٌ جامحةٌ بالنهاية!!

نحن السوريين نقول حين نحب (بموت فيكي) وهذا يعني أنَّنا على استعدادٍ تام لعملية جهادية استشهادية في سبيل الحب كالجهاد تماماً!!

لماذا حين نُحِبُّ نستخدمُ كلماتٍ تَتَّجِهُ بِنَا إلى النِّهايةِ وكأنَّنَا نعترِفُ ضمنياً أنَّ الحبَّ يقتُلنا كما الحربُ التي نخوض جولاتِها تباعاً ، نخترع المواقف كي نمضي إلى النهاية ، دائماً كنت أقول لنفسي إنِّي فهمتُ الحبَّ بشكلٍ خاطئ ، الحبُّ الذي آمنت به مرةً واحدةً كان قريباً منِّي كالرَّصاص الذي داهمنا فجأةً دون انتظار مفاجئاً كالبرميل الذي ألقتهُ طائرةٌ بالقربِ من مركز الجماعة ، مُدهِشاً كالغبار الذي تركه صاروخ أرض ـ ارض عقب وصوله الى نقطة الهدف ، في الحرب كما الحب هناك وقت لكل شيء  وليس هناك وقت لشيء ، الحبُّ كأنّك تمسِك ورقةً وقلماً لتكتُب نبذةً عن نفسك لنفسِك التي تعرفها ، أصعبُ اللَّحظات تلك التي طلب منِّي أن أكتب عن نفسي ببضع سطور، ببلاهةِ طالبٍ في الصف الأول الابتدائي ، وبحماس رجلٍ في الأربعين يحاول قتل أمِّيَتِه  نُرَتِّب حروفاً وراءَ بعضِها البعضُ لنحكي عن ذاتِنا فنقول:

وُلِدتُ هناك ودرست هناكَ وعملتُ هناك ثم انتسبت إلى الحزب ، أُقيم في شارعِ كذا ولي من الأخوةِ خمسةٌ غيري ، وننسى أن نعترف في تلك النبذة عن عددِ المرَّاتِ التي تورَّطنا فيها بالحب ، أليس الحب جزءاً  من تاريخنا العمري ؟. ، نحن لا ننسى ، نحن نُخفي حبِّنا العظيم عن عيون الجميع ، سنُضيف نحنُ السوريين أيضاً إلى تلك النبذة الصغيرةِ عن ذواتِنا أنَّنا شاهدنا عشرين برميلاً هطَلنَ كالمطرِ فوق حمص وأنَّنا رأينا مائةَ دبابةٍ تقتحمُ حلب القديمةِ وعشراتِ الجنود يطوقون جوبر وأيضاً شاهدنا رجلاً ملثَّمَاً يرفع راية الاسلام ويذبح أعزلاً ..  أليست هذه المشاهد من تاريخنا الذي علينا أن نحكيه ؟؟..

حين وقفتُ أمام منزلها الذي كان قبل أن يزول ككلِّ أجزاء الوطن ، تذكَّرتُ وعوداً عاصفةً بالأبدية و موسيقا أطربت آذاننا بأنها الفرحةُ الأولى و آخرُ الغيمات الماطرة و أطيبُ كؤوس النبيذ و أجملُ الأحلام التي اختزلتُها ذاتَ ليلةٍ في غيابها ، رهبةُ حضورها كانت تطردُ شهوتي ،لماذا حين يُحبُّ الرجلُ أنثى تسكُنُهُ يرفضُ أن يتخيَّلَها في سرير !! ، حين يُمارِسُ عادَتُه السِرِّيةِ لا يستطيع أن يرسمَ أحلاماً لها بقربِه فتراهُ يبحثٌ عن أُنثى بمحيطِهِ هرباً من حبِّهِ الساكنِ خلاياه !!.

جدليَّةُ الخرابِ في الحبِّ كسائحٍ يحاولُ اكتشافَ مدنٍ غريبةٍ في كلِّ شيء  ، يجلسُ الرجل متأملاً بقايا مشاهدَ في ذاكرَتِهِ وكأنَّها لم تكن ، فيقل في نفسِهِ ليتني فعلتُ كذا ، وليتني قابلتُها قبل لقائنا الأول بسنواتٍ لكان الحب أسها و أقرب للوقوع في القلب ، اللقاءُ الأوَّلُ ، أبتسمُ وحيداً في هذه الغرفةِ الصغيرةِ الوحيدةِ مثلي عائداً إلى أرشيفِ ذاكرَتي مُستَرجِعاً اللقاءَ الأول ، هل كان لقاءً أوَّلاً ؟؟ ، أم أنَّ الأرواحُ التقت قبلَ ذلكَ بقرونٍ طويلةٍ حين جمع اللهُ كلَّ الأروحِ تحت العرش العظيم فشهدَت بربوبيتِهِ ثم أطلقَهَا لتهبِطَ مُتتاليةً إلى أرضٍ سكَنَها الأبُ الأوَّلُ بعد الخطيئةِ حين أكلَ التفاحةَ المزعومة

عندما تخرج من بلادك لا تنسى كلّ شيء ، لقد تركت خلفك مقبرة مفتوحة الاتجاهات ، لا يحدها مكان و لا توقفها دعواتٌ إلى السماء ، مهما صرخت لن تصل إلى بر السلام ، وحدها الحرب التي فتحت كل هذه القبور الطرية قادرة على اغلاقها و ايقاف كل الرصاص ، حين تخرج من بوابة الوطن إلى الوطن البديل تعود حياتك إلى اللحظة التي حمَلَتك أمُّكَ على ذراعها في رحلة صارت تعود إليك خيالاً دون أن تعرف أين و متى و لماذا صار ، ثم تتداعى في مخيّلتك كل الصور عن تلك المراحل التي عشتها على تراب الوطن لحظة انتقالك إلى الوطن البديل ، تحاول ألّا تلتفت إلى الخلف أبداً كي لاتحمل صورة أخيرة في ذاكرتك ، تريد أن تكون كل حياتك هنا صورة أخيرة لذاكرةتك التي تطاوعك لحظات ثم لا تلبث أن تلتفت خلفاً و كأن تريد احتضان الوطن الشهيد مرة أخرى و أخيرة ، تحاول أن تحتضن ذلك البقاء فيك لتقتل كل ما هو غريب عنك و تحتفظ وحدك بتلك الصورة الوردية لوطنٍ اختزلتَه بقصيدة حبٍ أو رسالة عشقٍ لعينينٍ بُنِّيُّتُين ذات مساء ، ستحنُّ أيضاً لحرفٍ كان لك و بعض الخيالات التي سكنتك ، ستطوف بك كل الأجساد الأنثوية التي عشقتها يوماً و بقيت وحيداً في سرير تصارع ما تبقى من رجولتك كي تتغلّب على الشيطان .

في تلك اللحظات الفاصلة بخطٍ وهمي لا وجود له في الجغرافية ، تراه على الخرائط فقط ، تنتابك قشعريرة كتلك التي تأتيك في الصلاة ربما ، هو احساسك بالعبث فتسأل نفسك لماذا أغادر و لأجل من أغادر و إلى أين أغادر ؟؟ ، أسئلة تتمحور حول الوطن البديل و حول تلك الذكريات التي ربما ستحملها معك عن أُناسٍ سكنوا معك في نفس القطعة من الأرض فاختزلتَ بهم تجربة الحياة كلها ، إنهم هم الذين تنتمي لهم و ستعود روحك لهم كلما شعرت بالضيق حيّاً أو ميّتاً ، ستتمنى لحظةَ التعب أن ترتمي بحضن أحدهم ، أن تخاطبهم بلهجتك التي يتقنوها بكل تعرّجاتها و جنونها ، لن تضطر لتغيير لفظك كي ترضيهم ، هم يفهموك كما لو أنك أنت ، إنهم الوطن الذي تركته و مضيت وحيداً و لكن ماذا لو كانوا في السماء ، ستلجأ أيضاً إلى رب السماء الذي يحتويهم و تبكي بحرقة على فراقهم و تتمنى لو أنك معهم حيث لا سايكس بيكو و لا سياجٌ يقطع بلدين و مكانين و عالمين ، هناك العدالة – كما قيل – لنا في أبهى صورها و أعظمها ، لا بدّ أيضاً أن تتذكر و تسأل الله :

ماهي حكمتك فيمَ حدث لنــا ؟؟

ستكتب عن نفسك كل ما حان لك الوقت ثم تقول سأمحو كل شيء و أعود إلى البداية ، ستبكي و تقهقه في آن معاً ، سوف تندب كل الراحلين مرة واحدة ، لن تأتي ببالك سوى صورهم و هم يرفعون أيديهم للوداع و كأنك تمسك بتلابيب الحياة أمامهم كي تبقى أنت الراغب بالرحيل قبل كل شيء بحثاً عن وطن ، أنت المسافر من مكان إلى مكان ، الحامل حقيبتك الصغيرة على كتفك في المدن الغريبة بلا موعدٍ للحب أو لفنجان قهوة تتذكّر به كل شيء مضى ، بلا أمسية للشعر و وردة حمراء تنتظرك لتدسّها تحت فتحة قميصك الطويل و تغلق عليها بذلك الزر الصغير لتدفنها بعد ذلك في كتاب و تعود إليها بعد سنوات ، لتبتسم و كأنّ ليس هناك حبّاً عظيماً قد مرّ من هنا ، في الوطن البديل أيضاً لست مضطراً لتقديم أعذارك عن كلمةٍ قلتها بحق السماء لمن حولك ، لست مضطراً أيضاً لشرح تصرفاتك لأحد ، هناك في الوطن البديل أنت حرّ من كل شيء حتى عقدك الاجتماعي مع الحياة ،ستبكي و تعود إلى اللا مكان باكياً وطنك الذي خسرته عند اول منعطف للحرب الطويلة التي هزّت فيه كل شيء و قتلت الجمال الذي كان في تلك العيون البنيّة التي انتميت لها طيلة سنواتك في مكان يسمى الوطن ..، أو صرتَ تسميه وطن بعد أن صرت في الوطن البديل ، ستعمل أيضاً أن تنقل التسميات ليكون الوطن البديل هو وطنك الحقيقي و وطنك الحقيقي هو تلك البقعة التي تحمل أنقى ما فيك و أطهر ما فيك لتغدو وطناً بديلاً ، ستفشل في بادئ الأمر ثم ما تلبث أن تتصالح مع نفسك في الأرض الجديدة أو في الوطن البديل الذي صار وطناً لمجرد أنك عشت قصة حبٍّ عنيفة تحت المطر و لمست نهداً لا يحمل تدويرة  الحلمات النافرة  كتلك النهود التي كانت في وطنك الذي صار وطناً بديلاً !!.

في الوطن البديل عليك ان تبحث في صباحاتك و مساءاتك الغريبة عن كل ما يمتُّ بصلةٍ إلى الوطن البعيد أو غير البديل ، فهل سيبقَ زمناً طويلاً في مخيّلتك وحدك رغم كل مشاهداتك التي ستحاول أحياناً أن تكتبها لتبني روحاً لك في المكان ، هل ترمّمُ الأبجدية ما أفسده البعد و المنفى ، كيف سيكون المنفى وطناً بديلاً عن كل تفاصيلك الصغيرة و ذكرياتك الصغيرة التي ارتبطت بالمكان ، ستبكي و تئن بلحظات لتسأل نفسك هل تستحق أيامي القادمة كل هذه الحرائق ؟؟ ، هل يستحق النهار الجديد غداً كل هذا الصبر ، ستنتظر أن يسألك عابرٌ عن أخبارك و عن الأشياء التي حدثت معك ، سترد بابتسامة يملؤها الحزن ، لا بدّ ان تسأل أيها العابر بي عن تلك الأشياء التي كنت أتوقّع حدوثها و لم تحدث !! .

وحدها الأشياء التي لم تحدث ربما هي التي تحمل من الجمال ما يُنسيك ما حدث ، كيف لكَ أنت القادم من كل ذلك الدمار أن تبحث عن وردة تهديها لفتاة لا تشترك معك في طريق الآلام الذي مشيت خطواته واحدة واحدة ، ستحاول أيضاً ان تشرح لها كلمات الغزل العربية فتحتار كيف ستقول ( يؤبرني اللي خلئك ) أو (تؤبشيني إلهي ) ستنظر إلى السماء و تطلب دعماً لا يأتي ، ستكتشف كيف تكون القُبلةُ في ألبانيا أو صربيا أو تركيا أو أوربا ، كيف تختلف الإناث عن الشرق ، رائحة العنق ، التأوه ، حركة اللسان في قبلةٍ تمتد دقيقةً و نصف ، انسياب اليدين ، اغماضة العينين ، الأنفاس المتتابعة ، ستكتشف أنك بدأت تبني لنفسك أرضاً جديدة بدأت بوردةٍ أهديتها لواحدةٍ لم تمشٍ معكَ في طريق الآلام أبداً فاكتفيت منها بالفرح الذي رشّتهُ فوق جسدك كما تنثر عطراً فرنسياً خلف أذنيها  ، النساء تختلف أيضاً بقبلةٍ و حركة اللسان و لعق الشفة العليا ، بطريقة الحضن و شدّ اليدين و مداعبة الأصابع ، تختلف النساء كما الوطن و الوطن البديل .

ستتذكر في بداية الوقت أن الدجاجة العمياء تحصل على حبّةٍ أيضاً و تقول لا بد أن لحظة الاشراق لم تأت بعد و ستظلّ تنتظرها ، ستتمثّل لك بقلب صديق أو لهفة مُحِب أو جسد إمرأة عابرة ، ثم لا تلبث أن ترى أن طعامك ليس كذلك الذي كان بين وطنين أحدهما بديل و آخر لم يكن لك ، ستتعامل مع كل الأشياء أنها باقيةٌ إلى الأبد و بذات اللحظة لن يكون عندك مشكلةٌ إن تركتها كلها مرة واحدة ، ستبقى روحك هناك مع من يحبوك لفعل الحب و جسدك هنا تحاول أن تروِّضَهُ على فعل الحب يومياً و من ثم تفشل ..

في الوطن البديل الذي خرجت إليه  تتمسّك أيضاً برائحة تأتيك مباغتةً بشارع لا ترتبط معه بأي ذاكرة ، فقط للرائحة ذاكرة عندك ، تكون ماشياً تحت المطر ثم تداهمك الرائحة فتتسمّر مكانك تشدّ أصابعك على راحة يدك و تُغالب البكاء ، تُغالب دمعاً سيسبقك على كل حال مهما حاولت منعَهُ من المُضيِّ مُعلِناً خسارتك لمعركة الحنين و القبول بالوطن البديل ، ستخونك اللغة دوماً و تفكّر بعباراتٍ كنت تستخدمها ثم لم تعد ، ستبني جسراً من الحنين مع الموسيقا و الآلات الجديدة و لكنك لم و لن تحدّث نفسك إلا بلغتك الأم ، أحلامك ، آلامك، مناجاتك للسماء ، بكاؤك، فرحك، عشقك، لحظة الانتشاء عندك، بوجك، أشياؤك الصغيرة تلك التي لايعرفها إلا أنت لن تفعلها إلا بلغتك الأم مهما صار الوطن البديل جزءاً  منك و من لونك و من ملامح وجهك !!، ستبقى أنت    ببقاياك التي أثقلتك في الحرب..

أُهرُب ثم أُهرُب ثم أُهرُب من الموت ، ومهما ركَضتَ سيبقى ينتَظُر لحظةً يصيبُكَ بها دون أن يخطِئَك ، نعم لقد اقتربتُ من الموتِ مراتٍ ومراتٍ دون جدوى في شوارعِ الوطن وفي شوارعِ المدنِ الغريبة!!

مرةً قلت لناجي بعد طولِ غِيـاب إنِّي رأيتُ ذلك الفارسَ الذي رأيتُهُ في بابا عمرو، وحلب وريف حماه، رأيتُه مُنتَعِلاً فَرَسَاً مُقبِلاً عليَّ وكأنِّي فريسَتُه الأخيرة، انتفضتُ ثم انتفضتُ ثم انتفضتُ ولم أَمُت !! ضحكَ ناجي يومَها وردَّ ساخراً:

ربَّما صارَ فائضٌ من بني جلدَتِنا في السَّماء فلا حاجةَ للسماءِ بنا الآن.

روائيّ سوريّ مقيم في بلجيكا.

خاص الرواية نت

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم