ثورةُ جسد

تبحث بين الوجوه تسألهم بصمت ويجيبها صمتها، لم يأتِ...

في ذاكرتها رقم واحد هو رقم سيّارتهم، تدخل إلى صفّه تقرأ اسمه على المقعد، تنادي: عماد.. تجهش بالبكاء، وتمضي. مرّت أسابيع الامتحان بين السؤال والتمنّي.

لم تدرك والدتها حجم الحزن الكبير الذي جثم فجأة على روح ابنتها، غاب صدى ضحكتها من المنزل الذي كثيراً ما زرعتها في كلّ أرجائه وهي تدخل حديقته، تقطف وروداً كثيرة. تلقي بنفسها في حضن والدتها وتسألها في تفاصيل يومها.

على أريكة احتلّت صدر بهو المنزل الكبير، كانت تنسج حكايات الأمّ والفتاة الصغيرة التي كبرت ولا يزال احتضانها شرطاً أساسيّاً من شروط المساء المنزليّ.

ألقت برأسها على صدر والدتها؛ المرأة الأربعينيّة الحسناء المميّزة برائحة عطرها الفرنسيّ وملابسها الحريريّة، وتصابيها الذي لم يرضخ أبداً لدخولها العقد الخامس، لا شكلاً ولا قلباً. كانت دائماً ما تبحث بعينيها عن هذا السرّ الأنثويّ الذي تلمحه، وغيابها الذي شعرت به من خلال الأسابيع الثلاثة هذه كما لم تشعر به من قبل.

سألتها: لماذا تغيبين كثيراً عنّي..؟ ثم كظمت بعض ما عرفته عن ذلك العبق الذي كانت أنفاسها تنتشي به إثر لقاءاتها بعماد، وكيف تختلط رائحة جسده برائحة عطرها، كادت تقول بعلوّ صوتها: هذه الرائحة أعرفها. لولا خجلها من أن تدرك أمّها أنّ بعض سرّها قد تسرّب إلى نفس ابنتها، لكن دفعها الأمر لمزيد من البكاء.

عصرتها أمّها بين يديها، مواسية تقول لها: ما زال الوقت مبكراً على الحرمان يا صغيرتي. فردّت عليها: لكنّه ذهب ولم يعدْ. تركني دون أن يعرف حجم ما زرعه داخل نفسي. لو كنت رأيته يا أمّي لعرفت أنّني عشقت رجلاً يختلف عن كلّ هؤلاء الذين نراهم ونتوهّم أنّهم رجال أصلاً، لكنّه رحل دون أن يقول لي كلمة. تردّ عليها أمّها: يابنتي هؤلاء الرجال كما يأتون يذهبون، لا عليك، بدّدي حزنك، فالحياة أمامك جميلة وكلّ مَن حولك راغب بك، وكلّ ما عليك هو أن تختاري ما يناسبك منهم. ابدئي دوماً من جديد وستجدين ما يسعدك.

دار بها المنزل الفاره، غرقت باللوحة الجداريّة الكبيرة، رأت في الأجساد العارية ما يشبه كثيرين ممّن عرفتهم، لكنّه لم يكن من بينهم، كان وجه الملاك الذي ينظرون إليه وحده يشبهه. كم تمنّت لو أنّ أنطونيو كورجيو قد رآه لأبدع صورة حقيقيّة لرجل عارٍ بوجهٍ ملائكيٍّ. ضحكت في سرّها، وقالت لنفسها: ترى هل كنت أستطيع شراء تلك اللوحة..؟! آهٍ يا والدي.. كنت ستشتريها لي حتماً، كما فعلت من أجل والدتي.. تُرى مَن منهم يشبه أبي..؟

علت ضحكتها، لاشكّ أنّ عصر النهضة لم ينظر أبداً إلى الرجال قصيري القامة ولم يكن كورجيو ليلتفت إلى والدي لأيّ سبب. لا أعرف كيف يمكن لامرأة بجمال أمّي أن تكون زوجة له.. صحيح أنّ وجهه لم يكن دميماً، وأنّ ثقافته اللافتة تبهر مَن حوله، وشهاداته التي تتراكم فوق الجدار المقابل لنا تكاد تجبر الجدار على أن يشتكي العلم، لكنّه بيديه الصغيرتين وساقيه القصيرتين أيضاً، أشبه بمهرّج يتأرجح فوق بالون كبير.

يا إلهي لو علم والدي كيف أنظر إليه لكنت نزيلة أحد أقبيته.

تداعب أمّها خصلات شعرها الطويل: لابدّ أن تجدّدي نفسك يابنتي، تغيير الشكل يتسرّب إلى داخلنا نحن النساء كما السحر، تعالي لنذهب في إجازة إلى باريس، هناك متّسع لأن يقول جمالها في أنفسنا ما لن تستطيعه دمشق.

 • لكن يا أمّي لابدّ أن تعرفي أنّني الآن غير ما تتوقّعين أن أكون.

لمحت والدتها ظلال صفرة تتسرّب إلى أحداقها، وهزال يرتسم واضحاً على محيط عنقها، مرّرت أطراف أصابعها على وجهها، ثمّ على نحرها قائلة لها: أتشكين من شيء..؟

هزّت رأسها: الدوار يمنعني عن الطعام.

 • منذ متى أيّتها الصغيرة العابقة فرحاً وضجيجاً..؟

تجهد في رسم ابتسامة عابرة: منذ أن رحل.

تعيد والدتها تصحيح جلستها، لتصبح في مواجهتها مباشرة، تضع يدها على أسفل بطنها: أنت....؟!

تنهمر الدموع من عينيها، تقول: كان يجب أن أكون...

تعيد أمّها وضع رأس ابنتها على كتفها: كان لابدّ من الحذر..

- لكنّني أحببته. شيء ما كان يشدّني إليه. أردته أن يكون لي، أن يمزّق كلّ حواجزي، ويعيد من جديد صياغة جسدي. لم أشأ أن يكون عابراً كالآخرين. كان حذره يخيفني فأشدّه إليّ أكثر. أردته أن يمتلك جسدي قبل أن تمتدّ أفكاره لتحرّر غشاوة الفكر التي كان يحدّثني عنها دائماً بين طبقة الأثرياء الغبيّة. ما كنت لأستطيع أن أبقيه بعيداً في جزء بينما يتغلغل هو في كلّ أجزائيّ. هل تعرفين يا أمّي، لقد كان نزار قبّاني مقصّراً حين ادّعى ثورة النهد، لأنّني اكتشفت أنّني كلّي ثائرة أبحث عنه ليكون منقذي من نفسي وعبثي.. آهٍ يا نزار.. لقد أبدعت في جزء وتركت له أن يبدع في كلّ أجزائي. وكلّ ثورة ملطّخة بالدماء. هكذا كنت أصرخ به رغم سلميّته التي أبداها أمامي. ثورتي كانت تحتاج لتلك القطرات النازفة لتؤكّد صدق انتمائي له.

كانت التفاصيل التي ترويها منى لأمّها تقودها إلى سؤال عن نفسها، عن علاقتها بزوجها، هذا الرجل المسؤول الذي تتطلّع إليه النساء. أتراه يحفظ شيئاً منه أو يدرك تفاصيل اختلافها مع أخريات كثيرات يتشاركنه معها حتّى يغيب عن ذاكرته في أحايين كثيرة اسمها.

لم تكن تلك اللحظات إلّا مجرّد توقيع على صكّ عبوديّتها المقرفة، التي تجمّلها بعقودها الماسيّة ورحلاتها المكّوكيّة إلى عواصم العالم بمرافقين من جنسيّات مختلفة، لكنّها تذكر دائماً أنّ ذلك الفرنسيّ كان له طعمه الخاصّ على جسدها، ومقدرته الساحرة على بثّ النشوة فيها وإسكارها.

- يابنتي المسكينة.. سنذهب في رحلتنا ثمّ نعود وكأنّ شيئاً لم يكن. هيّا لنغلق حقائبنا معلنتين انتهاء يومٍ حزين.

دخل والدها مَحوطاً بجمهرة من المرافقين، ألقوا بما لديهم على الطاولة المزخرفة أرجلها بتماثيل فينيقيّة، وخلفها تلك المرآة التي كست جداراً ضخماً، تتّكئ عليها منحوتة لامرأة سوداء طويلة، لاشكّ أنّ والدها يحبّ النساء الطويلات، فكلّ امرأة في الدار تشبه رغبته، من الخادمات إلى اللوحات المتناثرة حتّى إلى تماثيل الحديقة، لعلّها عقدة كامنة في نفسه.

تقدّم منها وبيده علبة مخمليّة حمراء بلون الدم الذي شاهدته على شرشف لم يعرف يوماً رائحة المنظّفات، ولا تشرّب ماء الغسيل...

يا الله يا عماد كيف تنام على هذه القذارة..؟ ما هذه الكتب المتناثرة والبقع التي تغطّي المكان..؟ فيقول لها: هذه هي الحياة يا حبيبتي كما لم تعرفيها من قبل.

كانت أسرّة الفيلات والفنادق تعبق في أنفها على الدوام، لكنّ رائحة جسدٍ بشريّ كجسد عماد تدخل في حناياها، وتسكن في ثنايا ذاكرتها كيوم ميلادها..

 • ما رأيك يا أمّ حيدر بهذا العقد الذي يليق بعنق مصقول كالزجاج..؟

تضحك والدتي، تنسى كلّ ما أخبرتها به عن مأساتي، تأخذه بيدها، تترك له العلبة الفارغة وتمشي إلى مرآتها.

 • جميل ورائع لكنّه يحتاج إلى ثوبٍ أخّاذٍ أيضاً، ولهذا ما رأيك أن نذهب أنا ومنى لنشتري هذا الثوب..؟

يضحك: أهذا استئذان بالخروج..؟!

 • بل بالسفر يا عزيزي إلى باريس..

حيدر الأكول قادمٌ يتلوّى في مشيته، ويشتم كعادته الخدم لأنّهم يضعون التحف في طريقه. جسده الممتلئ يعيقه غالباً في ابتداع طريقته في الدلع، لذلك يكتفي بعناق والده الذي يقاربه طولاً، بينما يتطاول ليطبع قبلة على جبين والدته. يقول: ماذا سنأكل..؟ لم أشمّ رائحة لطعامٍ في المطبخ. ثمّ يتنبّه لحزم ورقيّة مكدّسة على الطاولة. آهٍ هذا هو طعامنا اليوم. ينادي الخادمة بنزق لتعدّه على الطاولة، بينما والدته لا تزال مستغرقة بتفحّص عقدها الماسّيّ الجديد، وتسأل: وماذا عن منى ألاّ تستحقّ عقداً هي الأخرى..؟!

- لا تأبهي لذلك، فغداً سيزورني صديق ولا أشكّ أبداً أنّ ما يطلبه منّي يساوي أكثر من عقد ماسّيّ.

يطلق جملته ويملأ المكان بقهقهته المدوّية.

ـــــــــــــــــ

الرواية صادرة عن منشورات ضفاف في بيروت 2014م.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم