ليست ثلاثية بحر العرب سلسلة متواصلة في أحداثها، بل منفصلة في أحداثها وأزمنتها، رغم تصاعدها في جانبها الزماني، حيث تبدأ في الجزء الأول منها (برّ الحكمان) في منتصف الخمسينيات وتنتهي في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ليلحقه الجزء الثاني (غبّة حشيش) الذي تبدأ أحداثه حيث انتهى الجزء الأول وتمتد للتسعينيات. بينما تقع أحداث الجزء الثالث (رأس مدركة)، في الفترة الممتدة بين أعوام 2016 و 2018.

إنها رحلة طويلة ومضنية، حاولت فيها رصد كل التغيّرات الاجتماعية والمكانية، العادات والتقاليد، البشر وتغيّرهم عبر الأزمان، الصياد وصراعه مع البحر ومع أعدائه من سفن الجرف العملاقة التي حلت في بحره كاللعنة على حين غرّة، ونهبت رزقه الذي قسّمه له ربّه، ثم التطور السريع والهائل الذي أحدثه التعمير واحتلال البحر من قبل الموانئ والسفن العملاقة والمباني الإسمنتية التي لم يألفوا ارتفاعها، وقد حجبت عنهم الشمس والهواء، تتداخل تلك القصص مع قصص كثيرة، كالصراع على مصائد الأسماك في أعالي البحار لإثبات من هو سيد البحار، والقتال الذي يحدث بين حين وآخر، خصوصا بين صيادي الشرقية وقريات، وكصراع الصياد القاطن في المناطق الصحراوية مع ابن عمّه القادم من الأشخرة وصور والذي يفوقه شطارة في الصيد، مما يضطره إلى طرده واستبدال الوافد الآسيوي بداله، كجنوح السفن عبر التاريخ وغرقها بالقرب من مناطق حياة البدو، والتي استفادوا منها، ومدى حقيقة عدوانية البدوي التي تناقلتها الكثير من المصادر الأجنبية.

رحلة قضيتها مع الثلاثية في مشوار لا يعرفه الكثيرون، فلقد كتب الجزء الثاني منها (غبّة حشيش) أولاً، وذلك في العام 1999، في ليستر ببريطانيا، حين كنت أنهي دراسة الدكتوراة، وكان عنوانه مختلفا (رحلة الشتاء والصيف) والذي سبق وأن أعلنت عنه في نهاية المجموعة القصصية (حمّى آيار) التي صدرت في العام 1999 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. وحين عدت إليها في وقت لاحق وجدت أن الصحراء تضم من القصص والأساطير الكثير الكثير الذي لا يستوعبه جزء واحد، فرجعت أعيد هيكليتها في العام 2012 وبدأت في كتابة الجزء الأول (برّ الحكمان) والذي امتدت الكتابة والمراجعة فيه حتى العام 2015، وحينها بدأت في كتابة الجزء الثالث (رأس مدركة) بشكل أولي. صدرت برّ الحكمان في العام 2016، ثم غبّة حشيش في العام 2018، وكان من المفترض أن تصدر (رأس مدركة) قبل أكثر من عام لولا الظرف الصحي السيئ الذي مررت به وجعلني لا أستطيع الكتابة ولا القراءة بالتركيز والمزاج اللذين اعتدتهما، لفترة زمنية زادت عن العام، وقد صاحب ظهور كورونا وضعي ذاك.

هي رحلة ممتعة من البحث والتقصي والقراءة امتدت طويلاً، ولم تخلُ من توقفات وتأملات ومراجعات وحذف وإضافات، ساعدتني فيها بعض المراجع التي توفرت عن المنطقة من حيث الحروب التي وقعت هناك، والعادات والتقاليد وغيرها، سواء مراجع ورقية أو شفاهية أو برامج مرئية وثائقية. ساعدني كذلك، كثيراً تخصصي الأول "تكنولوجيا الصيد"، في الإلمام بأصناف الأسماك وأماكن معيشتها وهجراتها. والأهم من كل ذلك، كان لتواجدي وعيشي في تلك المناطق لأشهر، وتنقلي الكثير بين القرى التي أعشقها، محوت وخلوف وبنتوت وصراب ونفون والدقم وشوعير ورأس مدركة واللبيتم والكُحل وصوقرة والشويمية، وجلوسي المستمر مع الصيادين والرشداء والمشايخ وفهم طبيعة حياة وفكر البدوي الطيب وجمال قلوبهم وبساطة معيشتهم، والتي استفدت منها كثيرا.

الجزء الثالث (رأس مدركة) الذي سيصدر خلال أيام، جزء مختلف تماماً عن الجزئين اللذين سبقاه، واللذين تناولا الحياة في الصحراء وتغيّرها عبر الزمن. هذا الجزء يتناول أمر جنوح السفن والعبارات وتحطمها على صخور بحر العرب، وعلاقة البدو بها وكيفية تعاملهم مع من كان عليها. هي تستكشف مدى صحة ما كتب عن تصرفات البدو تجاه أصحاب الجلد الأبيض من الأوربيين، في مقابل ما كتبوه عنهم وعن عداوتهم والتي سيكتشف القارئ حقيقته من خلال ما كتبه الأوربيون أنفسهم وليس غيرهم، فالبدو لم يكونوا يملكون القدرة على الكتابة وتوثيق تلك الأحداث، فهل أخذ الأوربيون حريتهم في كتابة ما يناسبهم؟

ليست إذن الثلاثية سلسلة مرتبطة ببعضها بعضا من حيث الأحداث، فكل جزء هو رواية مستقلة بحالها، أحداثها تنتهي بانتهاء الجزء. لا يوجد رابط سوى الامتداد الزماني وانعكاس التغيّر في حياة البدو عليهم وعلى عاداتهم وممارساتهم. ولي وقفة قادمة بإذن الله للحديث بشكل أكثر تفصيلاً عن رحلتي مع الثلاثية التي أفتخر جداً أنني أنجزتها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم